• 24 أيلول 2016
  • مقابلة خاصة

 

 

بقلم : أنطون مقدسي 

 

المشكلة الفلسطينية كلية، أي أنها تتناول الوجود العربي بمجموعه وفي كل أبعاده، الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، أو كما يقول الفلاسفة «بما هو موجود»، وتضعه أمام الاختيار الحاسم: وجود أو لا وجود، حياة أو موت. ذلك أنها ليست مشكلة جماعة مشردة، على المجتمع المتحضر أن يجد لها وطناً، كما يزعمون فيما يزعمون. فاليهودي الروسي مثلاً مواطن في روسيا وعليه أن يتبنى هذا الوطن ويعيش فيه، وكذلك اليهودي الفرنسي واليهودي العربي، الخ… وإنما هي مشكلة جسم حي يزرع، صنعياً، على جسم حي آخر، فإما أن يرفضه هذا أو ينهار.

ويبدو لنا شخصياً أن للمشكلة، من الوجهة السياسية ثلاثة مستويات مرتبط كلّ منها بالآخر. فهي بآن واحد قطرية (تتعلق بأبناء القطر الفلسطيني)، وعربية أو قومية، ودولية. فأي حادثة تقع في فلسطين ـ كبيرة كانت أم صغيرة ـ ينتقل أثرها فوراً وعبر العالم العربي إلى كافة أطراف العالم وتثير اهتمام الدول كلها.

ولها من الوجهة التي تعنينا، أي الثقافية، ثلاثة مستويات هي أيضاً مترابطة ديالكتيكياً (وبأدق معاني هذه الكلمة): المستوى الشعبي، والمستوى الفكري، والمستوى السياسي. فالفكر إذن يتوسط بين الشعب وقيادته، يأخذ عن الأول ويعطيه، ويأخذ من الثاني ويعطيه.

إن الفكر بحث وحوار وتأمل. الفكر تحليل وتخطيط. الفكر كشف عن المبادئ والأهداف.

وإذا كان للشعب دور حاسم في المشاكل العامة، إذا كان الشعب مصدر إلهام المفكر والسياسي، فابن الشعب، مهما كان وعيه، يعجز عن تحليل مواقفه تحليلاً علمياً، كما يعجز عن استجلاء أهدافه المضمرة والتخطيط لتحقيقها (ربط الوسائل بالغايات) وذلك لسبب بسيط هو أن الجماهير الشعبية، في كل زمان وفي كل مكان، تتخذ من القضية المطروحة موقفاً عفوياً يسبق الفكر ويمهد أمامه السبيل دون أن ينوب منابه. فلقد قامت الجماهير العربية بين الحربين وبعدهما بحركات تمردية وثورات دامية حدد فيها موقفها من الاحتلال الأجنبي بمختلف أشكاله وألوانه لبلادها، فرفضت الاستعمار القديم والجديد رفضاً قاطعاً. وبهذا فتحت أمام الفكر آفاقاً وإمكانات للتحليل والتأمل كان ذاهلاً عنها، ومكنته من تحديد أهداف الأمة في الوحدة والحرية والاشتراكية تحديداً رفضه الأجنبي وقبله العرب في مختلف أقطارهم وعلى مختلف نزعاتهم وطبقاتهم لأنه يعبّر عن معنى وجودهم.

كان ذلك بعيد الحرب العالمية الثانية والعالم المتخلف اقتصادياً ما يزال يغط في سباته.ولكن هل تمكن الفكر العربي بعدها من تحليل واقعه تحليلاً علمياً على ضوء هذه الأهداف؟ هل تمكن من رسم الخطط لتحقيقها؟ يرى الدكتور بديع الكسم أن الفكر العربي حدد الغاية وقصر عند تحديد الوسائل. ولكن أنستطيع الفصل بين الاثنين؟ إن من لا يضع وسائله بمستوى أهدافه تتشوه نظرنه فيصبح شبيهاً بـ(دون كيشوت) يرى عملاقاً في عجلة الطاحونة. والأفكار الكبيرة تتردى إذا لم يكن حاملها بمقياسها عقلاً وعزيمة فتصبح كاريكاتوراً لما هي عليه نبراتها.

لقد حدد الفكر العربي الثورة، طريقة لتحقيق أهداف الأمة. والعالم المتخلف اقتصادياً كله الآن في وضع ثوري، وسيستمر هذا الوضع طويلاً. ولكن هل تمكن الفكر العربي من التخطيط لثورته؟

بينما كان الفكر العربي، وهو في بدء يقظته، يستجلي أهدافه فوجيء بغزو استعماري قد لا يكون له مثيل في تاريخ العالم، ألا وهو اصطناع دولة غسرائيل قلعة حربية تهدد وجوده باستمرار وهو ما يزال أعزل، أو شبه أعزل من السلاح مادياً ومعنوياً، حتى لكأن المستعمر ـ وهذا ما حصل فعلاً ـ أحس باليقظة فهبّ ليخنقها وهي بعد في المهد. وها نحن الآن، وبعد أن مضى ما يقرب من عشرين عاماً على النكبة الأولى، نتساءل ما غذا كان الفكر العربي قد لعب حقاً دوره في الكشف عن أبعاد المؤامرة والتخطيط للقضاء عليها. لقد بين الدكتور برهان الدجاني بأمثلة صارخة على أن الفكر العربي ما يزال يجهل حتى المعطيات الاولى للمؤامرة الصهيونية ـ الاستعمارية.

هذا من جهة؛ وإذا نظرنا من جهة أخرى إلى تعاقب الأحداث منذ بعيد الحرب العالمية الثانية إلى أيامنا، نلاحظ انها تسارعت بشكل مذهل ـ سواء على المسرح العالمي أو على المسرح القومي ـ بحيث لم تترك مجالاً للفكر العربي كي يلحق بها، بله توقعها والتخطيط لدرء مخاطرها. وهذا ما أفسح المجال أمام الارتجال السياسي، فتجاوز الفكر السياسي المفكر، لا بل علّق الفكر أحياناً، وبذلك حذف مستوى من مستويات المشكلة، فأصبحت هذه مبتورة وكأنها فقدت عقلها.

لقد خاضت الأمة العربية في هذه الفترة معارك ضارية نكتفي بالإشارة إلى أهمها لأنها معروفة لدى الجميع (1948 ـ 1956 ـ تحرر المغرب كله ـ ثورة الجزائر ـ النكبة الأخيرة). أضف إلى ما تقدم التهديدات تتوالى دون انقطاع على جمهوريات ناشئة لمّا تستكمل بعد شروط وجودها، تهديدات تحلل الوطن العربي وتعيد تركيبه حتى لكأنه دمية بيد الاستعمار. وبكلمة مختصرة فقد تسارعت معركة التحرير وتسارعت معها ضراوة المستعمر.

الفكر يستلزم، كي يعيش ويثمر، فسحة من الهدوء والتفرغ يبدو لنا ترفاً نعجز عن دفع ثمنه.

نجد، في كل ما تقدم، عذراً للفكر العربي. ولكنه ليس كافياً. فالمعارك التحررية والثورات، ضراوة المستعمر وتسلط السياسة على الفكر، كل هذه العوامل وما يشبهها يجب أن تكون بمثابة تحديات تزيد في يقظته فتستفزه وتدفعه إلى التعمق في واقعه وإلى شقّ طرق مبتكرة لحلّ مشكلاته. إن العقل السليم يفيد من الهزات العنيفة التي قد تقضي على العقل المريض.

قيل في ندوة المثقفين العرب وفي غيرها من المناسبات إن الفكر العربي قصّر في لقائه مع الفكر الغربي. كما قيل أيضاً إن الفكر الغربي سممته البرجوازية فلا مجال لإقامة حوار معه. إن غثارة المشكلة على هذا الشكل خطأ. لا بل يدل على أننا ما نزال نتلمس طريقنا إلى التفكير الصحيح الذي يبدأ، أول ما يبدأ، بطرح المشكلات طرحاً منزهاً عن الهوى.

ليست مهمة الفكر الدعاوة، ولا استثارة الحوار واللقاء. إن الفكر يلتقي إذا ما استكمل مقومات وجوده، مع الفكر أين وأنى كان. ثم إن الفكر لا يسمم (فقولنا فكر مسمم فيه من التناقض ما في قولنا عقل مجنون). بل المفكر هو الذي يتسمم عندما يستسلم لنزواته فلا يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيق

 عن القدس العربي