• 12 تشرين أول 2016
  • مقابلة خاصة

 

 

بقلم : د. "محمد علي" العلمي 

كان لأهل الذمة حق التملك من خلال البيع والشراء وأيضا الرهن واستئجار العقار بما في ذلك الإيجارة الطويلة الأمد وإقامة الأوقاف وإجراء كافة المعاملات المالية والتجارية والحرفية, شأنهم في ذلك شأن الأهالي المسلمين.

كان بإمكان أهل الذمة بيع وشراء العقارات في القدس من المسلمين أو من غيرهم من أهل الذمة. كما أن ذلك انطبق على الأراضي الزراعية في القرى والمزارع سواء في نواحي القدس وقراها أو غيرها من المدن. ونسرد فيما يلي بعض الأمثلة. فهذا دومينيك الأرمني الوكيل الشرعي لكريكور مطران الأرمن في القدس اشترى من المرأة المسلمة ليلى ابنة حسين الداجوني نصف كامل الدار الواقعة بمحلة الريشة (حارة الأرمن حاليا) في القدس. وثبت البيع والشراء لدى القاضي محمد بن أحمد (1637 م). كما اشترى دومينيك المذكور وأيضا بالوكالة عن المطران المذكور كامل الغراس المحاذي لدير الأرمن في بيت لحم من بائعه محمد بن عليان. ولدى القاضي ذاته باع صالح بن خليل بن حسونة حصص محددة (نحو الثلث) في دار بمحلة اليهود لليهودي المغربي اسحق بن هلال. أما ميخائيل بن موسى النصراني فقد اشترى حصة الربع في كامل الدار الواقعة في محلة النصارى في القدس من مريم ابنة عيسى النصرانية وابنة أخيها. وأقر القاضي محي الدين عقد البيع (1580 م). وجدير ذكره أنه لم يكن هناك رسوما للبيع أو الشراء قبل 1868 م, إنما فرضت رسوما تدفع من قبل كل من أراد تدوين البيع/الشراء في سجلات المحكمة أو استصدار وثيقة موقعة ومختومة من قبل القاضي الحاكم.

كان القاضي الشرعي يحكم في نزاعات قد تنشأ من جراء عمليات البيع والشراء من خلال تطبيق الأحكام الشرعية. فلدى القاضي الحاكم مصطفى (1651 م), باع اليهودي ابراهيم بن يعقوب لليهودي كنبراينو بن يعقوب كامل الدار الواقعة بمحلة اليهود في القدس. وكان يحدها من القبلة دار اليهودي بنيامين, وشرقا دار بيد يوسف بن كسرة, وشمالا دار بيد اسماوون النصراني وغربا دار بيد المسلم يحيى بن عبد الرحمن بن أرغون. وفيما بعد ذلك بعدة أيام حضر يحيى المذكور وادعى أن له حق الشفعة في شراء الدار لأنها ملاصقة لداره. فعارضه ابراهيم البائع وذكر أن البيع تم وفاء لدين وأحضر شهودا للشهادة على ذلك. فبعد قبول شهادتهم عرف القاضي الحاكم المدعي يحيى بأنه بما أن "المبيع بيع وفاء فشأنه شأن الرهن لا يجري عليه حق الشفعة". ومنع يحيى المذكور من معارضة المشتري اليهودي كنبراينو. فهنا ننبه الى أمرين. الأول أن أهل الذمة كانوا على علم ودراية بقوانين الشريعة. وثانيا أن حارة اليهود في القدس وإن سكن بها عددا كبيرا منهم إلا أنها أيضا كان بها ملاكين وسكان من المسلمين والنصارى.

كان لأهل الذمة حق استئجار العقارات سواء امتلكها أفراد من المسلمين أو كانت تابعة لآوقاف إسلامية. وكان أيضا لديهم الحق في استئجار عقارات أو أراض زراعية لمدة طويلة, وهو ما عرف باللإستحكار. فمثلا أجر متولي وقف المارستان الصلاحي للقبطيين ميخائيل وميكاييل الدكانيين والدرج المنهدم القريب منهما والمحاذين لدير السلطان التابع لطائفة الأقباط في القدس وذلك بهدف الاستطراق للدير المذكور. وكانت مدة الإيجارة ستون عاما, من خلال ثلاثون عقدا متواصلي المدة. وحكم القاضي الحنبلي حسن (1606 م) بصحة التعاقد. وجدير ذكره أن القاضي الحنفي لا يجيز عقودا طويلة ولأكثر من ثلاثون عاما مما يفسر لجوء المستأجرين للقاضي الحنبلي. كما استأجرت مجموعة من اليهود القاطنين في القدس من السباهي فرهاد بن عبد الله قطعة غراس بالقرب من قرية أبو ثور خارج أسوار القدس وذلك في سنة 1562 م, مقابل أجرة سنوية. ووافق المؤجر أن يكون استعمال المأجور لغرض دفن موتى اليهود. وأقر القاضي حسام الدين الحنفي عقد الإيجار وغاية المستأجر من استئجاره.

كان لأهل الذمة حق إقامة الأوقاف على جهات بر لا تنقطع وفق الشريعة الإسلامية. فهذه اليهودية بنيتة ابنة بدكان أوقفت دارها في محلة اليهود في القدس قبل 1456 م, لتنتفع بها مدة حياتها ثم من بعدها على ولدها يعقوب ثم من بعده على نسله ثم من بعدهم على طائفة اليهود في القدس ثم من بعدهم على مصالح الصخرة المشرفة. وحيث أن ولدها يعقوب توفي دون نسل ثم توفيت الواقفة بعد ذلك, طلبت الطائفة اليهودية تثبيت حقهم في الدار. وحكم بصحة ثبوت ذلك القاضي المالكي محمد أبو الوفا التميمي في 1552 م. أما القسيس السرياني يعقوب فقد أوقف حصص في غراسات خارج القدس بالقرب من قرية قالونيا على مطران السريان في القدس ثم على رهبان الطائفة ثم على معبد السريان في مقام السيدة مريم بالقرب من الجثمانية بالقدس. وإن تعذر كل ذلك تؤول المنفعة لمصالح الحرمين الشريفين في القدس والخليل. وحكم القاضي سعدي بن لطفي بصحة الوقف ولزومه وذلك في 1532 م. وفي حالة نادرة أوقفت اليهودية سارة ابنة ابراهيم غراسا في بيت كبسا ظاهر القدس على مصالح الصخرة المشرفة فقط. وحكم القاضي المحبي الديري بصحة وثبوت الوقف في 1534 م.

كان أهل الذمة في القدس يقتاتون عيشهم من الحرف والتجارة. إذ عملوا في مهن مثل النجارة والحدادة, إضافة الى حوانيت يملكونها للحلاقة وبيع اللوازم وغير ذلك. كما كان لهم أعمالهم في صنع وبيع الشمع والجبن وغير ذلك. فهذا القاضي في 1531 م يعطي ثلاثة من النصارى حق توريد الشمع للصخرة المشرفة مع التنبيه عليهم بالإلتزام بالكميات المطلوبة. وفي 1570 م, منع القاضي أبو بكر الصديقي الشافعي كل من يعارض اليهود من القيام بصنع الجبن وبيعه في القدس كونهم كانوا يقومون بذلك من قديم الزمان. كما أقر قاض آخر بحق اليهود في سلخ وبيع اللحوم على طريقتهم, علما أن الذبح كان محصورا في مسلخ المدينة. وكان لليهود أيضا تجارة رائجة للأقمشة بالتعاون مع يهود مدينة صفد. وجدير ذكره أن هذه الطائفة لم تختص أو تحتكر التعامل بالنقد (كالاقراض مثلا), أو تحتكر تجارة الذهب والفضة. فإضافة الى كون الفوائد على الاقراض ممنوعة في الشرع الإسلامي كان لليهود حرية تملك العقار والعمل في التجارة في القدس وفي محيط آمن لهم. وهذا على نقيض ما كان اليهود يعانونه في أوروبا في الماضي الأمر الذي اضطرهم للتخصص في التعامل بالنقد والذهب. أما بالنسبة للنصارى فإضافة لأعمالهم المذكورة أعلاه فإنهم وجدوا العديد من فرص العمل في الكنائس والأديرة التابعة لهم, وأيضا العمل في الزراعة في القرى التي سكنوا بها مثل بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وجفنا والطيبة وغيرها.

ذكرنا أن أهل الذمة كانوا على علم ودراية بالقانون الشرعي. وكانوا يلجأون للشرع لحماية أنفسهم وصون حقوقهم. كما كانوا ونتيجة لدرايتهم هذه يستعملون ذات الأساليب القانونية التي كان يستعملها المسلمون. فمثلا كان أهل الشرع في الماضي وقبل العثمانيون يسمحون باستئجار الأراضي الموقوفة أو استحكارها لمدة طويلة لأجل زراعتها والاستفادة من مدخولاتها بشكل منتظم وغير متقطع. وكذلك فعلوا داخل القدس. ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين مثلا كانت القدس تعاني نقصا ملحوظا في الموارد المالية والعديد من عقاراتها بحاجة الى التعمير والترميم. وحيث أن معظم هذه العقارات كانت موقوفة على الأماكن الدينية الإسلامية فقد لجأ أهل الشريعة الى السماح للأهالي من المسلمين في المشاركة في تطويرها. فمثلا كان القاضي يجيز استحكار الأراضي أو العقارات الموقوفة داخل القدس لفترات طويلة الأجل قد تمتد لمائة عام والسماح للمستحكر إقامة الأبنية أو الإضافة عليها. بل ذهبوا الى أبعد من ذلك حين سمحوا له أيضا بإيقاف ما يتم بناؤه لمنفعته ومنفعة ذريته. وقد عمرت العديد من الأماكن داخل المدينة باتباع هذا النهج. فعلى سبيل المثال تم إنشاء غالبية الحوانيت في شارع حارة النصارى في القدس من قبل المسلمين في القرنين المذكورين من خلال استحكار ارضيتها المملوكة من قبل وقف صلاح الدين الأيوبي للخانقاه الصلاحية وذلك باتباع النهج أعلاه. وكذلك فعلت أهل الذمة في الماضي.

بيد أن الأمور أخذت شكلا مختلفا في القرن التاسع عشر الهجري. فمع ضعف الدولة العثمانية وكثرة ديونها ونمو ثروات الدول الاوروبية وتطلعاتها للسيطرة على المشرق تم استغلال النهج الموصوف أعلاه لغايات أخرى. فنرى أنه وابتدائا من القرن التاسع عشر كثرت استحكارات الاوروبيون لأراضي وغراسات موقوفة. وكانت غالبيتها تتم من قبل الكنائس الاوروبية من الاورثودوكس (الروس) واللاتين والكنائس والمؤسسات البروتستانتية. فمثلا بلغ عدد وقفيات النصارى من أفراد وكنائس للفترة 1500-1800 م, نحو 105 وقفية, بينما بلغ عدد وقفياتهم للفترة 1800-1917 م, نحو ماية وقفية, ناهيك عن العديد من الاستحكارات طويلة المدى. أما اليهود وعلى وجه التحديد الاوروبيون منهم فقد كثرت استحكاراتهم وأوقافهم بشكل هائل فيما بعد 1863 م. إذ بلغ عدد وقفياتهم للفترة 1500-1863 م, نحو 12 وقفية, بينما بلغ عدد وقفياتهم للفترة 1863-1917 م, نحو 361 وقفية. وفي جميع الأحوال كان تتم إقامة أوقاف النصارى واليهود هذه وفق الشرع الإسلامي. وكان لصدور قانون الأراضي العثماني في سنة 1858 م, وقانون الطابو في 1860 م, أكبر الأثر في نزع الأراضي الموقوفة والأخري الميرية (التابعة لبيت المال وتحت تصرف السلطان) لتصبح ذات ملكية خاصة. حتى أنه قيل أن رئيس المحكمة العليا  البريطاني في فلسطين في أوائل أيام الانتداب أوصى باعتماد قانون الأراضي العثماني المذكور لملائمته الغايات المرجوة منه.

  المقالة القادمة بعنوان :  عقود الزواج