• 21 كانون الثاني 2017
  • مقابلة خاصة

 

 

 بقلم: د. "محمد علي" العلمي

  

لو سألنا تلميذ المدرسة "هل البرتقالة ليمونة ؟"، فأغلب الظن أنه سيهزأ بنا ويرد بجواب فيه قدر من السخرية. فماذا لو سألنا مثقفا لديه شهادة جامعية "هل الشريعة قانون ؟". فالبعض سيجيب "بنعم"، وآخر سيجيب "بلا"، والمتروي الصادق مع نفسه سيجيب "لا أعلم". وهذا السؤال ظاهره شئ، وباطنه شئ آخر، ولكنه جدير بالتحري.

نبدأ بحثنا بذكر ما يصف مفكروا الفقه الإسلامي شريعتهم وتعريفهم لها، وما يصف أهل القانون قانونهم وتعريفهم له. وللعلم إن تعريف الأحكام الشرعية في الإسلام هو من اختصاص فقهاء ما يعرف "بأصول الفقه"، وتعريف ما هو القانون هو من اختصاص فلاسفة القانون لدى أهله. اتفق فقهاء "أصول الفقه" في تعريفهم للحكم الشرعي على أنه "خطاب الشارع (أي الله سبحانه وتعالى) المتعلق بإفعال المكلفين" ممن يتبعون أو ينطبق عليهم الشرع الإسلامي. وبعبارة أخرى فإن الحكم الشرعي هو ما يأمر الله به المسلم في أفعاله. وهذا ببساطة هو تعريف الشرع، والذي يستند فقط على الإيمان بالله وكتبه ورسله، وليس فيه أي إدعائات أو متطلبات لأمور آخرى مثل الانصياع لنظريات فلسفية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك. أما تحديد بنود قوانين الشريعة فذلك يأتي إما من كتاب الله عز وجل أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو ما يجتهده الفقهاء من خلال اتباع علم "أصول الفقه".

وماذا عن تعريف القانون في الغرب ؟ سنحصر بحثنا هنا في الفكر القانوني الغربي لشدة تأثرنا به وتقليدنا له في الكثير من الأمور. ولأجل محاولة الوصول الى تعريف للقانون في الغرب لا بد من ذكر شيئا عن تاريخ الفكر القانوني لديهم. يمكن تاريخيا تقسيم هذا الفكر الى قسمين. الأول هو ما تم طرحه من أفكار ونظريات وتعريفات بدأت في العصر الروماني وانتهت في منتصف القرن العشرين الميلادي. والثاني بدأ قبل نحو ستون عاما وما زال قائما الى اليوم. ومن أوائل من ساهم في الفكر القانوني الغربي المفكر الروماني سيسرو (Cicero) المتوفي عام 43 قبل الميلاد. وقد وصف "القانون الحقيقي" بإنه كل ما يمليه الفكر المنطقي للعقل البشري وكان منسجما مع الطبيعة، وأن هذا القانون لا يختلف في جوهره من مجتمع لآخر. وجدير ذكره أن هذا الفكر والذي عرف "بالقانون الطبيعي" ما زال تأثيره قائما الى يومنا هذا. كان لانتشار الديانة المسيحية وقيمها الأخلاقية تأثيرا كبيرا على الفكر القانوني في الغرب. وكان الراهب توماس أكواينيس المتوفي في 1274 م، من أشهر المفكرين القانونيين المسيحيين. وذكر بأن الخالق هو مصدر كل خير بما في ذلك نعمته بمنح بني البشر المقدرة على التفكير المنطقي القانوني. وهذا الراهب هو القائل أن "القانون الغير عادل ليس بقانون".

أما بعد بداية عصر النهضة في أوروبا وما تلى ذلك من أحداث وتغييرات اقتصادية واجتماعية وحروب دينية وأهلية وغير ذلك من الأحداث، فقد طرأت أمورا كثيرة على الفكر القانوني الغربي. كان هذا الفكر ومنذ القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن العشرين غزيرا وواسعا، وشمل العديد من كبار مفكري أوروبا وأمريكا. وأدى ذلك الى ظهور كما كبيرا من النظريات والمدارس والآراء الفكرية القانونية. كان البعض منها متجانس مع البعض الآخر، بينما اتخذ العديد منها منحى مغايرا لأفكار الآخرين. وإذا ما أمكن وصف بعض خصال هذه الحقبة، وهو أمر ليس بالسهل، نذكر ما يلي. ظهر في هذه الفترة لدى العديد من المفكرين نزعة الى الابتعاد عن الأفكار الدينية التي كانت سائدة فيما قبل، أي عزل الإيمان عن القانون. وذهب البعض الآخر الى الافتراض بأن القانون ودراسته يعتمد كثيرا على واحد أو أكثر من الأسس الاجتماعية أو الاقتصادية أو المصلحة فيما بين مكونات المجتمع أو التناقض فيما بين طبقاته أو العلاقة السياسية ما بين الحاكم والمحكوم. كما ذهب بعض المفكرين الى الافتراض بأن القانون ودراسته هو علم مثل العلوم الطبيعية (كالرياضيات والفيزياء)، حتى أن قلة منهم اعتقد جازما بأن منطق القانون يؤهله لأن يقوم الحاسوب بتحليل المعطيات وإصدار الأحكام. أما الواقعيون من المفكرين فإنهم أصروا على أن القانون هو ما يحكم به القاضي، لا أكثر ولا أقل. ونظرا لتعدد المدارس القانوينة في الغرب للفترة المذكورة ظهر العديد من التعريفات للقانون. ولكن ونتيجة للتغييرات في نظرة المفكرين ونشوء واندثار العديد من المدارس القانونية اندثرت هذه التعريفات ولم تعد أي منها مقبولة اليوم لدى جموع مفكري القانون الغربي الحديث. وكان من أواخر هذه التعريفات ما خرج به المفكر القانوني أوستن والذي يعتبر من كبار أنصار المدرسة "الوضعية للقانون". وهو أول من شغل رئيسا لقسم الفكر القانوني في جامعة لندن في 1830 م. إذ عرف القانون بما معناه أنه "أوامر الحاكم المدعومة بالردع والصادر الى من يحكمه ومن يطيعه". وللقارئ أن يقارن هذا التعريف مع تعريف الشريعة لفقهاء المسلمين. إذ يبدو وكأن تعريفه مشابه للتعريف الإسلامي اللهم أن أوستن قد استبدل الخالق عز وجل بالحاكم الدنيوي للدولة.

في منتصف القرن العشرين ظهر تحول كبير في الفكر القانوني الغربي خاصة في بريطانيا وأمريكا. إذ ونتيجة لأفكار مفكرين مثل هارت (توفي 1993) ودوركين (2013) وراز (وهو أستاذ الفكر القانوني حاليا في أكسفورد) وفينيس وآخرين، امتنع هؤلاء عن محاولة إيجاد نظريات شاملة للقانون، وبالتالي لم يحاولوا الخروج بأي تعريف له. فالتعريف لديهم يجب أن يحصر ما هو مهم وذات علاقة بالقانون، بينما رأوا أن المواضيع ذات العلاقة كثيرة ولا يمكن حصرها بتعريف واحد. وانقسم العديد من المفكرين الى قسمين رئيسين. الأول والذي يعرف "بالمدرسة الوضعية" والذي يصر على أن القانون وتطبيقه شئ، ولكن محاسنه وسيئاته شيئا آخر، وعليه يجب دراسة القانون كما هو وليس كما يجب أن يكون عليه. أما المدرسة الآخرى فذهبت الى أنه يجب أن يكون القانون هادفا وينسجم مع متطلبات المجتمع العملية والأخلاقية وعدم الاكتفاء بما هو عليه القانون، وهي المدرسة "الطبيعية للقانون".

خلاصة القول في كل ما ورد عن القانون الغربي هو أنه لا يوجد اليوم نظرية واحدة أو تعريف واحد للقانون متفق عليه بين المفكرين الغربيين. فعليه كيف لنا أن نجاوب على سؤالنا "هل الشريعة قانون؟" خاصة بغياب تحديد وتعريف للقانون الغربي من قبل أهله. نحن لا نقلل من قيمة الأفكار القانونية الغربية أو شأنها في الماضي أو الحاضر. ولكن من الواضح أن هذه الأفكار لا تنتمي لمدرسة واحدة أو اتجاه واحد أو نظرية واحدة، فهي كأنما تعوم في بحر من الأفكار المتلاطمة تقذفها في كل اتجاه. وإذا ما بسطنا الأمور نقول أن الشريعة الإسلامية وتطبيقها ما هو إلا ممارسة اجتماعية للمجتمع الإسلامي. وكذلك القانون الغربي، وهو الممارسة الاجتماعية للمجتمع الغربي. فعليه لا معنى لسؤالنا "هل الشريعة قانون؟"، فالبرتقالة ليست بليمونة حتى لو تشابها. فلكم دينكم ولي دين.

على القارئ أن يفصل في ذهنه ما بين القانون وتطبيقه. فمما لا شك فيه أن الانصياع والاحترام للقانون في الغرب هو نسبيا أكثر بكثير من ما هو عليه في مجتمعاتنا، وبغض النظر عن ما إذا كان ذلك نتيجة تخوف المواطن الغربي من العواقب الوخيمة لمخالفته للقانون. أما في المجتمع الإسلامي، وكما أسردنا، فإن القانون الشرعي ودرجة الانصياع له يرتكز على الإيمان به. كما أنه من الخطأ اعتبار الفكر القانوني الإسلامي غير متطور. فهنالك اليوم عدة أمور هامة طورها علماء أصول الفقه في الماضي لا مثيل لها في القانون الغربي. ومثالا على ذلك ما يعرف "بالمصالح المرسلة" في التشريع الاسلامي والمفيدة جدا لكل من يقدم على التشريع في يومنا هذا. كما أن استعمال المبادئ الأصولية (مثل الأمور بمقاصدها، ولا ضرر ولا ضرار) في القضاء الإسلامي والخبرة المكتسبة في تطبيقها يكاد يكون مفقودا في الغرب. وقد تنبه المفكر القانوني الغربي دوركين في كتاباته الى أهمية استعمال المبادئ الأصولية في القضاء. أما بشأن حقوق الإنسان وقتل البرئ وما الى ذلك فما علينا سوى مراجعة الغزالي وحججه القانونية بهذا الشأن. أوليس هو القائل "ترك الضرب في مذنب أهون علي من ضرب المتهم لاستنطاقه".

كان لمفهوم الفكر القانوني الغربي أثرا على المستشرقين في دراستهم للشريعة. ونسوق مثلا على ذلك ما ادعى به أحدهم وهو جوزيف شاخت من أن المسلمين أخذوا جل شريعتهم عن القانون الروماني. كان شاخت ملما بمعرفة واسعة عن تاريخ نشأة التشريع الإسلامي. كان آخر منصب له قبل وفاته في 1968 أستاذا للعلوم الإسلامية في جامعة كولمبيا في أمريكا. ومن الظلم أن نصفه بأنه لفق الأحاديث النبوية أو أخطأ متعمدا في روايتها. كان شاخت يحمل تصورا خاصا به لمفهوم القانون. فالقانون لديه كان أقرب ما يكون للعلم (مثل العلوم الطبيعية) وأنه يجب أن يبنى على الحوار المنطقي الذي يؤدي الى النتيجة المنطقية. كما أنه كان متأثرا بالنظرية الاجتماعية للقانون للألماني ماكس فيبر (المتوفى في 1920 م) والذي قسم القانون الى ما هو منطقي وغير ذلك وما هو تقليدي وما هو غير ذلك. ومن المعلوم أنه كان لفيبر مؤلفات قيمة في علم الاجتماع، كما كان من المعجبين بالإسلام. اعترف شاخت، والذي أشاد بالأسلوب العقلاني للإمام الشافعي، بأن معلوماتنا عن نشأة التشريع في القرن الأول الإسلامي والعقود القليلة التي تلته كانت ضئيلة جدا. وحيث أنه اعترف أيضا بأن المسلمين قد طوروا شريعتهم في فترة زمنية قصيرة نسبيا، فقد لجأ الى تفسير سرعة تطورها من خلال مفهومه الخاص للقانون. فبما أن القانون حسب اعتقاده هو علم، فلا يمكن إذا للبدو الخارجين حديثا من البداوة إلا أن يكونوا قد أخذوا هذا العلم عن غيرهم مثل الرومان. إذ لا يعقل حسب رأيه أن يكونوا قد طوروه بإنفسهم خلال فترة وجيزة. بقي أن نقول أن أفكار ماكس فيبر القانونية اليوم والتي اعتمد عليها شاخت أصبحت شبه مندثرة، وليس لها سوى ما ندر من الأتباع في الغرب. فرؤية شاخت القانونية الخاصة به قد أدته الى هذه النتيجة، ليس إلا.