• 18 شباط 2017
  • مقابلة خاصة

 

 

انه ليسعدنا ان يستمر د “محمد علي” العلمي بمد قراء “ اخبار البلد” بالمادة المميزة التي عكف لفترة طويلة على جمعها وكتابتها ، واليكم ما وصلنا مؤخرا من د “محمد على” العلمي ابن القدس المجتهد المثابر في كشف الوجه الحضاري للمدينة  

 

كل التحية لست البنات من بيتونيا

سألت ذات مرة طالبات في قسم الدراسات العليا في القانون إن كانت المرأة في الماضي أكثر جرأة في اللجوء للقانون لحماية نفسها وتحصيل حقوقها. وجاء الرد سريعا بأن المرأة اليوم أكثر علما وثقافة من من سلفها وعليه فهي أكثر وعيا في تحصيل حقوقها. ولدى سؤالي عن ما إذا كان الجواب مبنيا على اطلاع بما كانت تقدم عليه المرأة في الماضي كان الرد محرجا. فجواب الطالبات كان مبنيا على افتراضات وتخيلات ولم يستند على دراسة لحوادث ووقائع حقيقية. وعليه نقدم فيما يلي نماذج لوقائع موثقة تكررت كثيرا لحوادث تعلقت بالمرأة, وجرت قبل عدة قرون من الزمن. وليحكم القارئ بنفسه مدى جرأة وعزيمة المرأة الفلسطينية آنذاك, وعن ما إذا كانت جديرة بأن تكون مثالا يحتذى به من قبل المرأة العصرية التي تصف نفسها بالمثقفة والمتعلمة.

قضية تشهير: لدى القاضي الحنفي صنعي المولى خلافة في محكمة القدس في 1022 للهجرة, 1614 م.

ادعت المرأة المدعوة ست البنات من قرية بيتونيا أن سالم من قرية عين قينية والذي تزوجها قبل يومين من الدعوى قد صرح لها وادعى بأنها لم تكن بكرا حين زواجهما مضيفة أن قوله هذا يضر بها لأنها كانت بكرا حين تزوجته. ولدى سؤال القاضي لسالم عن ذلك أعترف بما قاله مدعيا أنه وجدها ثيبا. فحلفت ست البنات اليمين الشرعي بأنها كانت بكرا وأن سالم هو الذي أزال بكارتها. فعند ذلك عرف القاضي الزوج أن القول قول الزوجة بنائا على يمينها ولا عبرة لقوله ومنعه من التشهير بزوجته تحت طائلة العقوبة. ولتوضيح القضية نفيد أنه على الرغم من كون ست البنات هي المدعية في بداية الدعوى فإن إقرار سالم بما قاله وغياب بينته وحلف الزوجة اليمين الشرعي بإنكار ما قاله الزوج أصبحت هي المدعى عليها ولا حاجة لها لتقديم أي بينة بشأن بكارتها قبل الزواج. أذ أن الشرع هنا يقبل شهادة المرأة منفردة فيما يتعلق بالأمور الأنثوية (كالبكارة, والرضاعة, وأبوة الولد وغير ذلك) وأن زوجها هو المسؤول عن تقديم البينة الشرعية لنقض قولها. فبعد أربعة قرون من الزمن ليس لنا سوى أن نوجه كل التحية لست البنات التي كانت حقا إسم على مسمى لشجاعتها في حماية سمعتها من التشهير.

قضايا اغتصاب: لدى القاضي محمود المولى خلافة في القدس في 993 للهجرة, 1585 م.

كانت المرأة في الماضي لا تنقصها الجرأة في اللجوء للقضاء في حال اغتصابها. فهذه المرأة صالحة ادعت بأن الشيخ هداية الله الغزي وابن أخيه نصرة اقتحما بيتها الكائن قرب باب الحديد في القدس وحاولا اغتصابها وأصاباها بجراح. ولدى سؤالهما عن ذلك أنكرا الدعوى. ولدى طلب البينة من صالحة عجزت عن تقديمها وطلبت يمينهما. وبعد أدائهما اليمين الشرعي تم تسجيل الدعوى دون ملاحقتهما. وبعد نحو أربعة أشهر من ذلك ولدى الحاكم الشرعي ذاته ادعت اليهودية جلالة بأنه وبعد خروجها من الحمام في حارة اليهود في القدس قام المدعو أحمد وعبده بجرها الى اسطبل مجاور وقاما باغتصابها عدة مرات والحقا بها جروحا. وأفادت بأن شخصا ثالثا يدعى حسين أنقذها منهم فيما بعد. ولدى سؤالهما عن ذلك أنكرا الدعوى. ولدى طلب البينة من جلالة عجزت عن ذلك ورفضت طلب يمينهما مضيفة بمرارة بأنه لو وجد الشهود حينها لقاموا بإنقاذها. أما النصرانية مريم ابنة حنا فقد ادعت لدى القاضي رمضان بن ابراهيم (1624 م) بأن النصراني فرنسيس قد اعتدى عليها مرارا وأزال بكارتها, بيد أنه أنكر ذلك. ولدى عجزها عن إظهار البينة طلبت منه يمينه. ولدى حلفه "بالله الذي أنزل الانجيل على سيدنا عيسى" بصحة إنكاره رد القاضي دعوى مريم. ونشير هنا الى أن القاضي لا يحكم إلا بالبينة, وتقديمها هي من مسؤولية المدعية. كما أنه ليست من مهام القاضي إجراء التحريات (والتي هي من مهام الشرطة). وعلى أية حال فإننا نجد الشجاعة لدى كل من صالحة وجلالة ومريم في رفع أمرهم للقضاء دون خجل أو وجل من العواقب الاجتماعية. ولنا أن نسأل المرأة اليوم إن كان لديها شجاعة مماثلة, أم أنها تؤثر صمت القهر على الصراخ في وجه الظلم والمهانة.

زواج وطلاق القاصرة: لدى قاضي القدس محمد بن علي, 1044 للهجرة, 1635 م.

ورد في العديد من الحالات في الماضي تزويج القاصرات من قبل أولياء أمورهم. بيد أن الشرع كان في بعض الأحيان يوفر بعضا من الحماية وفق المثال التالي. ادعى حسن بن يوسف بأنه كان قد عقد قرانه على القاصرة الفية ابنة علي بن عبد الجواد ودفع مهرها المعجل لأبيها. وأضاف حسن بأن الأب يرفض تسليم ابنته له بدعوى أنها لا تتحمل الوطء. ولدى سؤال علي عن ذلك أقر بصحة ما ورد وأحضر ابنته لمجلس الشرع. وبعد النظر اليها حكم القاضي بأن القاصرة صغيرة ولا تتحمل الوطء ومنع علي من أخذها لحين بلوغها سن البلوغ وأمر بأن تبقى مع أبيها لحين ذلك.

أما القاصرة التي تم تزويجها وأرادت فسخ زواجها بعد بلوغ سن الرشد فلم يكن ذلك عائقا إن تواجدت العزيمة ووجود قاض مجتهد وغير مقلد. وهذا ما وجدناه في المثال التالي لدى قاضي القدس عبد الرحمن في 990 للهجرة, 1582 م. إذ تقدمت علمية ابنة محمود العلمي بدعوى تفيد بأن عمها صالح العلمي قد زوجها وهي قاصرة لابنه عبد اللطيف. والآن وقد بلغت سن الرشد فهي تطلب فسخ العقد بموجب رأي الإمام أبو حنيفة بجواز ذلك إن كان الزواج قد تم من قبل ولي أمرها من غير أبيها أو جدها. وعارض ذلك وكيل عبد اللطيف مضيفا بأن الفسخ لا يصح وفق رأي الامام أبو يوسف يعقوب (تلميذ أبو حنيفة) حتى لو تم من قبل عم القاصرة. فما كان من القاضي إلا أن اجتهد في حكمه وأجاز الفسخ. فاجتهاد القاضي عبد الرحمن المبني على فهم للشريعة وعزيمة المرأة علمية قد أديا الى هذه النتيجة.

ضرب الزوجة: لدى القاضي المولى خلافة بالقدس سنان خليفة في 963 للهجرة, 1555 م.

ادعى ديب المرداوي أن زوج اخته حليمة محمد الرجبي قد ضربها بعصاه على رأسها ويديها وأسال دمها وطلب الكشف عن ذلك. فأناب الحاكم الشرعي كاتبه وآخرين بالكشف عن حليمة ووجدوها على الوجه المشروح ودمها يسيل منها. ولدى سؤال الزوج عن ذلك أجاب بالإنكار. وبعد طلب القاضي البينة من حليمة بأن الزوج هو الذي ضربها أحضرت خمسة من النساء الذين شهدوا بأن زوجها هو الذي ضربها. وبعد قبول شهادتهم حكم القاضي بتأديب الزوج على الوجه الشرعي. ومن الواضح هنا أن الشرع يمنع إيذاء الزوج لزوجته.

الزوجة في الماضي كانت تحمي زوجها وأولادها من خلال الشرع:

الشرع يبيح للمرأة مسؤولية رعاية عائلتها. فهذا القاضي محمود المولى خلافة في القدس نصب خديجة ابنة إياس أمينة على مال زوجها محمود بن خليل لحفظ ماله من الضياع نظرا لثبوت زوال عقله بشهادة الشهود الشرعيين. وتم ذلك في 990 للهجرة, 1582 م. أما القاضي مصطفى المولى خلافة في القدس (بتاريخ 1024 للهجرة, 1615 م, فقد حكم للنصرانية سعدة زوجة النصراني خليل ولأبنائها القاصرين بالتزود بما تحتاجه من أكل وملبس وحاجيات أخرى بما قيمته قطعتين من النقود في كل يوم نظرا لطول غياب زوجها عنها دون أن يترك لها ما تحتاجه من النقود والمؤونة. وإذن القاضي لها بالاستدانة لأجل ذلك وإلزام الزوج بدفع الدين. وورد العديد من الحجج المشابهة والتي كانت تطبق أيضا على الزوجات المهجورات من المسلمين واليهود. كانت مدة الهجر الموصوف أعلاه تحدد عادة بخمسة عشر يوما أو أكثر.

الأمثلة أعلاها والتي ترددت كثيرا في سجلات القضاء تشير بوضوح الى أن المرأة الفلسطينية في الماضي كانت جريئة في الدفاع عن جسدها وعرضها وحقوقها. وسنقدم في الجزء الثاني أمثلة أخرى على ما كانت تقوم به المرأة المتزوجة لحماية نفسها وتحصيل حقوقها. ونذكر هنا أن قلة من نساء الماضي كانت تعرف القراءة والكتابة, أو تتمتع باستقلال مادي لعدم توفر فرص العمل لها في المجتمعات الغابرة. بيد أن رفضها الظلم وإصرارها على رفعه لم يحتاج سوى العزيمة والمثابرة. أو كما قال الشاعر المتنبي قبل الف عام:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم