• 20 آذار 2017
  • مقابلة خاصة

 

 

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

 

كان هناك محكمة واحدة في بيت المقدس طوال فترة الحكم الإسلامي للمدينة وحتى عام 1868 م. وانطبقت أحكامها الشرعية على جميع الأهالي وزائري المدينة من مسلمين ونصارى ويهود. شملت هذه الأحكام جميع الأمور، الشخصية منها (الزواج، الطلاق، حصر الإرث، الوقف، الخ) والمعاملات والعقود التجارية وغيرها (مثل البيع، والإيجار، الرهن، الخ). فأحكام الشرع في الدولة الإسلامية مؤسسة على ما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وما اجتهده الفقهاء على مر القرون. ولكن ونتيجة لما عرف بالتنظيمات العثمانية، بدأ في عام 1868 م, فصل المحاكم وتعدد أنواعها والقوانين المعمول لدى كل منها. وأصبح الشرع الإسلامي معمولا به في المحاكم الشرعية فقط ومحصورا في أمور الأحوال الشخصية. واستحدث أيضا ما يعرف الآن بالمحاكم "النظامية" والمحاكم التجارية والمحكمة المختصة بالقانون البحري. وكان القانون السائد في هذه المحاكم المستحدثة القوانين السلطانية. فبينما السلطان لم يكن يمارس التشريع فيما قبل 1868 م, إلا ما ندر ووفق قواعد الاجتهاد الفقهي، أصبح بعد ذلك التاريخ هو المشرع دون الرجوع بالضرورة لهذه القواعد. ومقالتنا هذه تختص فقط بما كان سائدا قبل 1868 م.

الخليفة في الدولة الإسلامية، بمعنى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أعلى سلطة دينية وقضائية وإدارية وعسكرية في الدولة. وله أن ينيب عنه من يراه مناسبا في أي من مهامه. وعليه فإن تعيين وعزل القاضي كان من صلاحية الخليفة. بيد أنه ومنذ مقتل الخليفة العباسي المتوكل (في247 للهجرة، 861 م) ضعفت الخلافة بشكل متسارع وأصبح الخليفة يفوض كامل أمور الدولة، بما في ذلك القضاء، لمن كان له سلطانا وسيطرة على البلاد. وهكذا كان الأمر في الدولة العباسية (بعد المتوكل)، وفي عهود سلاطين الإخشيديين، والبويهيين، والسلاجقة، والأيوبيون، والمماليك. وبعد فتح العثمانيون لبلاد الشام والعراق ومصر تنازل آخر الخلفاء العباسيين، محمد المتوكل على الله، عن الخلافة للسلطان سليم الأول لدى دخوله للقاهرة في 923 للهجرة، 1517 م. وبقي الحال على ذلك الى أن قام أتاتورك بإلغاء الخلافة العثمانية في عام 1924 م.

كان السلطان فيما قبل حكم العثمانيون يعين قاضي القضاة للدولة ويفوضه في تعيين القضاة للمدن والأقاليم، بما في ذلك القدس. كان كتاب التعيين يصدر للقاضي بإسم السلطان يتم فيه تحديد مدينة قضائه، وبدء مدة حكمه، وكذلك واجبه بالحكم بموجب الشريعة الإسلامية وأيضا تنفيذ الأوامر السلطانية. وكان للقاضي صلاحية تعيين نواب له في مدينة قضائه وأيضا في المدن والنواحي التابعة لمنطقته. كان لكل مدينة قاض واحد ونائب واحد أو أكثر. بيد أنه وفي عهد السلطان الفاطمي المستنصر بالله، قام الوزير أحمد بن الأفضل في عام 525 للهجرة وبناء على طلب الأهالي بتعيين قاض لكل من المذاهب الاسماعيلية والامامية والمالكية والشافعية، ليحكم كل بموجب مذهبه. وتكرس الأمر في عهد السلطان المملوكي بيبرس حين عين أربعة قضاة اعتبارا من 664 للهجرة، واحدا لكل من المذاهب السنية الأربع. وهكذا جرى الأمر في القدس. أما في العهد العثماني فقد كانت جميع التعيينات لمنصب قاضي القدس لمن كان على المذهب الحنفي. وفي القرن الأول لهذا العهد كان القاضي يعين أربعة نواب له ممن كانوا على المذاهب السنية الأربعة. بيد أن هذه التعيينات أخذت تقل فيما بعد. وتجدر الإشارة الى أن الأهالي كان لهم الخيار أحيانا في التوجه لأي من القضاة أو نوابهم حسب مذاهبهم. ومنذ نحو سنة 1600 م، أصبح القاضي يعين نائب واحد له في آن واحد وكانوا جميعا على المذهب الحنفي. ولمن يجهل الاختلافات في المذاهب نورد بعض الأمثلة على ذلك. ففي الإيجارة الطويلة كان الحاكم الحنفي لا يجيز مدتها لأكثر من 29 عاما، بينما أجازها الآخرون حتى 99 عام. كما أن القاضي الحنفي لا يحكم على الغائب الغير ممثل بوكيل في المحكمة، بينما أجاز الآخرون ذلك. ثم أن القاضي المالكي كان معروفا بشدة أحكامه مقارنة مع القاضي الحنفي أوالشافعي. وقد وجدنا مثالا على ذلك لإحدى الدعاوى حين حكم المالكي بسفك دم المذنب، بينما قضى الحاكم الحنفي بالتعزير لذات الذنب. (التعزير هو جلد المذنب بما لا يتعدى 80 سوطا). وكذلك رأينا بعض الاختلافات في إقامة الأوقاف وبعض أمور البيع والرهن والزواج والطلاق وغير ذلك.

خلافا للعهود السالفة، لم يكن منصب قاضي القضاة مألوفا لدى العثمانيين. فمنذ عهد السلطان محمد الثاني، فاتح القسطنطينية (المتوفى في 886 للهجرة، 1481 م)، كان تعيين القضاة للمدن والأقاليم من صلاحية قاضيي العسكر لكل من إقليمي أناضولي وروم إيلي. وكان هذان القاضييان يجتمعان عدة مرات كل عام ويصدران كتب التعيين بإسم السلطان. وفي العهود التي سبقت العثمانيون كان يتم اختيار القضاة للقدس وقضائها من أهالي المدينة أو من خارجها. أما العثمانيون فقد كانت جميع تعييناتهم من خارج المدينة، باستثناء قاض واحد. وكان معظمهم من الأتراك وبعضا من العرب. والحالة الإستثنائية المشار اليها كانت لتعيين القاضي المقدسي المولد والإقامة موسى الخالدي في عام 1228 للهجرة، 1813 م. ففي تلك السنة قام الوهابيون بغزو الحجاز وبلاد الشام ووصلوا الى أذرع قرب دمشق. فطلب السلطان العثماني محمود الثاني من والي مصر محمد علي باشا التصدي لهم. فأرسل جيشه بقيادة ابنه طوسون باشا لمحاربتهم. وعليه أصبحت الطرق غير آمنة، ولم تتمكن القسطنطينية من إيفاد قاض من طرفها كالمعتاد. وهذا الأمر دفعهم الى اختيار نائب شرعي سابق في محكمة القدس ليتولى القضاء فيها.

جرت العادة بإن يبقى القاضي المعين في منصبه الى أن يصل كتاب تعيين القاضي الذي يليه. ولدى وصول هذا الكتاب يقوم القاضي المعزول برفع يده فورا عن الحكم، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع نوابه في القدس والنواب المعينين في المدن والأقاليم التابعة لها. وكان القاضي الجديد إما حاضرا في المدينة أو يقوم بموجب كتاب خطي بتعيين وكيل أو نائبا له لممارسة مهامه لحين حضوره. وفي حالة وفاة قاض خلال فترة حكمه يتم تعيين خلف له خلال أيام من قبل قاضي دمشق. وعليه لم تخلو محكمة القدس من حاكم شرعي لأكثر من أيام أو أسابيع قليلة.

تفاوتت مدة حكم القاضي في القدس كثيرا. ففي العصور التي سبقت الفترة الصليبية كانت هذه الفترة تمتد لسنين طويلة. ويبدو أن هذا الأمر استمر خلال الفترة الأيوبية القصيرة، وأيام حكم المماليك البحرية. ولكن وخلال فترة حكم المماليك البرجية ( 784 – 922 للهجرة، 1382 – 1516 م) ونتيجة كثرة تعييناتهم أصبحت مدة الحكم أقصر زمنا. أما العثمانيون فقد تعصبوا كثيرا لمذهب الإمام أبو حنيفة. إذ ورد عنه أنه كان لا يؤثر بقاء القاضي في الحكم لأكثر من عام واحد كيلا يكون عرضة للفساد. وحبذ هذا الإمام أن يستأنف القاضي دراساته الفقهية أثناء بقائه خارج الحكم. وعليه وباستثناء العقود الأولى لحكم العثمانيون كانت مدة الحكم لقاضي القدس أقل من عامين. ومن نحو 1740 وحتى 1868 م، كانت مدة الحكم تحدد بسنة واحدة فقط.

كانت المحاكم تفرض رسوما على من يلجأ اليها من الأهالي. إذ لم يكن القاضي أو نوابه أو كتبته يتقاضون أجرا من الدولة نظير خدمتهم. بل كانوا يتحصلون رزقهم من الرسوم التي تتقاضاها المحكمة من الأهالي الذين يلجأون للمحكمة. ونسوق أمثلة على ذلك للفترة العثمانية حين كان القاضي يتقاضى نسبة معينة من الرسوم التي تجبى من محكمة القدس ومحاكم المدن التابعة لها. وكذلك الأمر بالنسبة لنوابه في مجلس حكمهم. أما كتبة المحكمة فقد تقاضوا رسما على كل حجة دونوها. فمثلا حددت الرسوم من قبل قاضي القدس عبد القادر في سنة 979 للهجرة، 1571 م، لكل من الأمور التالية: تسجيل الحجة في سجل المحكمة، عمل حجة أصلية تسلم لصاحب الدعوى تكون موقعة ومختومة من قبل القاضي، رسوم تفرض على عقود الزواج والطلاق، وأخرى تفرض لاستصدار نسخة عن حجة سابقة، ورسوم تفرض على إصدار حجج لحصر الإرث بلغت في تلك السنة ما مقداره 1,5 % من مجمل قيمة الإرث.

كان منصب قاضي القدس من المناصب المرموقة لدى السلك القضائي للدولة، ليس فقط لمكانتها الدينية، بل أيضا لما كان هذا المنصب يدرعلى صاحبه من مال. وقد رأينا أمثلة على مدخولات القاضي في العصر العثماني بحيث بلغت إيرادات القاضي السنوية أحيانا ما يعادل ثمن دار متوسطة الحجم في المدينة. وعليه كان البعض منهم يمتعض في حالة عزله مبكرا. فهذا القاضي عبد الله بن طوسون كتب في سنة 1011 للهجرة، 1603 م، لدى عزله المبكر عن الحكم ما نصه: "من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين، ومن عزل بغير حين فقد قتل بألف سكين".

بلغ عدد قضاة القدس خلال الفترة العثمانية نحوا من 300 قاض. وكان معظمهم يشغل منصب التدريس في إحدى المدارس الدينية المنتشرة في القسطنطينية، خاصة تلك المحيطة بجامع السليمانية. كما تم تحويل قلة من الذين كانوا جالسين في الحكم في مدن أخرى مثل دمشق وحلب وإسكدار والقاهرة، ومكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرها للقضاء في القدس. وبدورهم حول العديد من قضاة القدس ليجلسوا في الحكم في مدن أخرى. كان نواب القاضي في المدينة يلقبون "بالقاضي المولى خلافة". وفي حالة جلوسهم للحكم في قضية واحدة أو لفترة قصيرة كانوا يلقبون "بالنائب". تم تعيين نحو من 250 من النواب في القدس خلال الفترة العثمانية، تولوا النيابة مرات عدة ونابوا عن أكثر من قاض واحد. ومعظم من ولي النيابة كانوا من أهل القدس أو الخليل أو نابلس أو الرملة أو غزة. كما كان القاضي ينيب عنه للقضاء مولى خلافة واحدا لهذه المدن وغيرها. وامتدت صلاحية قاضي القدس لتشمل تعيينات نواب له لمدن إربد وعجلون والصلت وصفد وطبرية وغيرها، إضافة للمدن المذكورة أعلاه. وفي العقود الأولى للفترة العثمانية كان القاضي يعين نائبا يعرف "بقاضي النواحي" يطوف على القرى المحيطة بالقدس ليعقد مجالس شرعية فيها.