• 6 تشرين الثاني 2017
  • مقابلة خاصة

 

 

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

 

ميزعلماء اللغة العربية في الماضي ما بين "الكلام" و"القول" أو "الكلم" (بفتح الكاف وكسر اللام). فالكلام هو كل ما ينطق به اللسان ويحمل معنى مفيدا. أما القول أو الكلم فهو ما ينطق به اللسان سواء حمل معنى مفيدا أو غير ذلك. وعليه كتب العالم اللغوي ابن جني أن فقهاء الشريعة حرصوا على وصف القرآن الكريم بأنه "كلام الله تعالى"، وتجنبوا التلفظ بأن "القرآن قول الله".

نشأ العرب في غابر الزمان على تعلم الفصحى من خلال الاستماع الى ما كان ينطق به آباؤهم من دقة في إيصال المعنى المطلوب مع إيجاز في التعبير. فالثرثرة عندهم كانت من قبح العادات. كما أن سليقتهم اللغوية لم تتطلب معرفتهم قواعد النحو والصرف والتي كانوا يجهلونها. فلغتهم الفصحى كادت تخلو من اللحن (أي الغلط في اللغة). وذهل العرب لدى دخولهم في الإسلام، لما حواه القرآن الكريم من إعجاز في اللغة. وأقروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تفوق فصاحته على العرب كافة. وبدخول أعداد هائلة من غير العرب في الإسلام بدأ اللحن يغزوا الفاظ الناس، خاصة في المدن. ولشدة رغبتهم في فهم القرآن الكريم والحديث الشريف أقدم هؤلاء على دراسة العربية بشغف. وكان أن سبق ذلك جمع نصوص القرآن الكريم وتدوينه. إذ تنبه الخليفة عثمان (رضي الله عنه) الى أهمية هذا الأمر كيلا يصبح القرآن عرضة للضياع أو التحريف. وأدرك أيضا أهمية توحيد لفظ آياته. فمثلا ولفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم في كافة لهجات العرب، سمعه أصحابه يتلو الآية "ما ودعك ربك وما قلى" بفتح الدال دون تشديدها كما في لغة قريش. ولكن وصلتنا الآية بلهجة قريش. ومن الأمثلة على تعدد لهجات العرب أن قبيلة بكر كانت تقلب الباء الى ميم مما دعى الخليفة المأمون الى مداعبتهم بتلقيبهم بلهجتهم، بنو مكر. ثم أن كتابة العربية كانت تخلو من الحركات من فتح وضم وسكون. فأمر الخليفة علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) ،والذي كان مشهورا بفصاحته، ذلك العربي الفذ أبو الأسود الدؤلي (واسمه ظالم بن عمرو المتوفي في 69 للهجرة، 688 م) بمعالجة ذلك. فأدخل أبو الأسود النقاط على الحروف لتمييز الفاء عن القاف والسين عن الشين الخ. ثم أنه كان يتلو على كاتبه الكلام ويطلب منه وضع الحركات. فيقول له أنظر الى شفتاي، فإن ضممتهما فضع علامة الضم، وإن فتحتهما فضع علامة الفتح، وإن رأيتهما ساكنتين فعلامة السكون.

كثر اللحن في لغة العامة في المدن الإسلامية في القرن الثاني للهجرة. وأصبحت هناك حاجة ملحة لمعرفة كيف تصرف الأفعال ومتى يتم الرفع والنصب والجزم، ومتى يتم التأنيث في الكلام وغير ذلك من المسائل اللغوية العديدة. ولحسن حظ هذه اللغة برز عدة عمالقة من المسلمين العرب وغير العرب من من حظاهم الله بعقل سديد ونظر ثاقب في التحليل ودقة في الملاحظة. فوجد هؤلاء أن لغة العرب في غاية المنطق، وشديدة الميل الى اتباع قوانين محددة لا يكثر فيها الشواذ. وأول من ظهر من هؤلاء كان الخليل بن أحمد الفراهيدي، العماني المولد والأصل، والذي عاش في البصرة. واشتهر عن الخليل تواضعه وعزة نفسه، وفقره أيضا. وهو الذي وضع "كتاب العين" أول قاموس في العربية، وأول من ابتدأ علم النحو والصرف كما نعرفه اليوم. كما أنه ولشغفه بالموسيقى كان يردد الشعر بجانب فم بئر الماء كي يستمع لموازينه والذي ألهمه ذلك الى وضع معظم البحور الشعرية المعروفة اليوم في علم العروض .

وللفراهيدي بيت شعر حرص على أن يدخل فيه جميع الحروف الأبجدية:

صف خلق خود كمثل الشمس إذ

بزغت يحظى الضجيع بها نجلاء معطار

(الخود، بضم الخاء، هي الشابة الحسنة الخلق، معطار: من العطر والحسن)

تتلمذ على الفراهيدي (المتوفي في 173 للهجرة، 786 م) اثنان من عمالقة النحو والصرف، هما عمرو بن عثمان الملقب بسيبويه و علي بن حمزة الكسائي، وكلاهما فارسي الأصل. فسيبويه (وتعني بالفارسية رائحة التفاح لجمال وجهه ووجنتيه) لازم أستاذه في البصرة لسنين طويلة وألف كتابا في النحو والصرف لا يحمل إسما لشهرته بين الناس. وتوفي قبل بلوغه الأربعين من العمر في 180 للهجرة. وقيل أنه قضى نتيجة كآبته بعد أن انحاز وزير هارون الرشيد،

يحيى البرمكي ظلما للكسائي في مناظرة نحوية. أما الكسائي (بكسر الكاف) والذي عاش في الكوفة، فإنه وبعد الأخذ عن أستاذه الفراهيدي ذهب الى البادية ليقضي بها سنين طويلة يتعلم من فصحاء أعرابها لغتهم. وتوفي في  182 للهجرة، أثناء اصطحابه هارون الرشيد في مدينة الري.

وقبل أن نسترسل في سرد تاريخ لغتنا حري بنا أن نتوقف قليلا عند أمر لطالما شغل أوائل اللغويين والنحاة. فالفراهيدي وسيبويه انتميا لما عرف بمدرسة البصرة، على عكس الكسائي الذي انتمى لمدرسة الكوفة في النحو. فالأولى يمكن أن نصفها بإنها كانت مدرسة العقل لكثرة ميلها اليه في استنباط القوانين التي تتبعها اللغة. أما الثانية فيمكن وصفها بأنهامدرسة النقل، بمعنى أن جل اهتمامها كان (وفق التعبير الحديث) البحث الميداني وبالتالي الاعتماد على ما وجدته مستعملا من ألفاظ العرب، حتى وإن شذ عن أي قاعدة. وانقسم معظم اللغويين في القرنين الثاني والثالث للهجرة بين مؤيد ومعارض، كل وفق مدرسته. وهكذا يمكن أن نفسر المناظرة الشهيرة التي جرت  حين سأل الكسائي سيبويه "كيف تقول: قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من

الزنبور، فإذا هو هي، أو هو إياها؟". فأجابه سيبويه "فإذا هو إياها، لعدم جواز النصب". فعارضه الكسائي بأن العرب ترفع ذلك وتنصبه. فالأول استنتج جوابه عقلا والثاني تمسك بما علمه نقلا.

وإذا ما تمعنا قليلا نجد أن الأمر كان ذاته سائدا في استنباط علم الفقه. فهناك الإمام مالك والى درجة أقل أحمد بن حنبل قد وضعا الحديث الشريف في مرتبة فقهية متقدمة في الوصول الى أحكام الشريعة، بينما تردد في ذلك أبو حنيفة والشافعي واعتمدوا أكثر على ما يمليه العقل إلا في الحالات التي ثبت لديهم فيه الحديث. وذهب أهل المعتزلة الى أبعد من ذلك في اعتمادهم على العقل. كل ذلك جرى قبل وضع البخاري ومسلم وغيرهما كتبهم فيما صح من الحديث عندهم. كما أننا نرى أمرا شبيها جرى فيما بعد بين من عارض الاجتهاد وتمسك بالنص بحذافيره (مثل ابن حزم)، وبين من توغل في استباط الأحكام من خلال اعتمادهم العقل وفق قواعد أصول الفقه (مثل الجويني والغزالي والشاطبي). ونقول بتواضع أن وضع العقل والنقل على طرفي ميزان واحد لا يجيز بالضرورة الخيار بينهما، أو الخروج بإحدهما، إذ أن كليهما على ما يبدو جزء من الجواب في كثير من الحالات.

تبع سيبويه والكسائي المئات من علماء الصرف والنحو واللغة. وبرز هؤلاء في كافة بلاد الاسلام، من مشرقها في بلاد ما وراء النهرين مثل سمرقند وبخارى، الى بلاد فارس، فالمشرق العربي ومصر والمغرب وصولا الى بلاد الأندلس. فمنهم من كان من أصول عربية أو فارسية أو بلاد بخارى أو يونانيين أو من البربر من شمال افريقيا والأندلس. نذكر هنا قلة من مشاهيرهم، وتاريخ وفاتهم بالسنة الهجرية: الفراء (207)، ابن السكيت (244)، المازني (249)، ابن المبرد (285)، الزجاج (311)، ابن دريد (321)، السيرافي (368)، ابو علي الفارسي (377)، أبو حيان التوحيدي (380)، ابن سيده الأندلسي (458)، الزمخشري

(538). وقد أورد السيوطي (نسبة إلى آسيوط مصر) في كتابه "بغية الوعاة" تراجم لهم ولآخرين بلغ عددهم 2200 من علماء اللغة.

بقيت العلوم اللغوية تتطور وتزدهر بالأفكار الجديدة حتى نهاية القرن الخامس الهجري، ولعل ابن جني (بكسر الجيم دون تشديد النون) هو من أواخر العباقرة الذين أدخلوا أموراً جديدة على هذا العلم. وكان صاحبنا وهو من أصل بيزنطي يدرس وهو في مقتبل العمر في الموصل. وذات مرة سمعه العبقري الآخر أبو علي الفارسي يخطئ في مسألة في الصرف. فقال له:

"مالك قد تزببت ولم تحصرم بعد". فانقطع عن التدريس وانهمك في الدراسة. وكان صديقاً للشاعر المتنبي واستفاد من فصاحته ومعاني تعبيراته. وبرع ابن جني (المتوفي في 392 للهجرة) في علم الصرف وتفسير معاني الحروف منفردة ومجتمعة. ومثال على ذلك ما تدخله الحروف على المعاني المشتركة للكلمات. وأفردنا لهذا الموضوع مقالة قادمة إنشاء الله.

وفيما بعد القرن الخامس الهجري أخذ النحويين في جمع وتصنيف علوم اللغة دون الخروج بشيء جديد ذات شأن. فهذا ابن مالك الأندلسي (توفي في 672

للهجرة، 1274 م) نظم قوانين النحو والصرف في ألف بيت من الشعر وشغل العديد من علماء اللغة في شرحها وتفسيرها. فأخرج ابن هشام على سبيل المثال تفسيره الشهير "أوضح المسالك الى ألفية ابن مالك"، وكتب الصبان حاشيته على ما شرحه الأشموني لألفية ابن مالك. فالألفية لم تأت بجديد ذي شأن على ما وضعه الأوائل مثل الفراهيدي وسيبويه والكسائي والفراء والسيرافي وغيرهم. 

لم يكن لعلماء اللغة في بيت المقدس وأكنافه ممن عاشوا أو درسوا في المدينة أو من ترجع أصولهم اليها، باع طويل في هذا العلم مثل أهل البصرة أو الكوفة أو بغداد أو الموصل. ونذكر فيما يلي البعض منهم: عبد الرحمن الزجاجي المتوفى بطبرية (339 للهجرة)،عبد الله بن بري المقدسي (582)، محمد بن عبد القوي المرداوي (699)، جابر بن محمد الخوارزمي (741)، محمد بن قدامة (744)، محمد بن جماعة (819)، أحمد بن نعمة النابلسي. ونختم بالقول أنه وبتوفر اجهزة الحاسوب اليوم، وأرطال من أمهات كتب اللغة وكنوز القواميس المطبوعة، لا ينقص الباحث في عصرنا سوى علو الهمة والعزيمة في متابعة دراسة اللغة العربية. ولنا في الفراهيدي وتلاميذه وغيرهم خير قدوة. إلا إذا تخلفنا قد ساقنا الى حب الثرثرة في القول، عوضا عن التمسك بما صح من الكلام.