• 14 نيسان 2018
  • مقابلة خاصة

 

 

القدس- أخبار البلد- غياب الموت الفنانة المقدسية المعروفة والتي اطلق عليها الجميع لقب ايقونه فلسطين المعاصرة ، إنها الفنانة المبدعة جمانة الحسيني التي رحلت عن العالم تاركة القدس باسوء حالات ،فهذه الريشة توقفت عن رسم القدس الجميلة التي تعيش في قلوبنا . 

 وكان الكاتب العراقي فاروق يوسف قد خصص مقالة تحليلة عن الفنانة حمانة في صحيفة العرب اللندنية ، ونحن نقوم بإعاة نشرها في ” أخبار البلد“ على امل أن تلقى ضوءا على هذه الفنانة المقدسية التي قد لا يعرفها الجيل الجديد، فهي قضت جل قوتها في الخارج .

 بعد أن يكون المرء فلسطينيا، فإن الحفاظ على الهوية الوطنية هو بالنسبة إليه هدف لا يدانيه هدف آخر، باستثناء التفكير في العودة. فكيف إذا كان ذلك المرء فنانا، ينتمي إلى عائلة، عرفت بفصول نضالها الوطني؟

لا تحمل جمانة الحسيني عبء اللقب العائلي وحده، فجدّها هو أمين الحسيني، مفتي القدس الذي قاوم الاحتلال البريطاني، بل وأيضا إرث مدينة، هي واحدة من نفائس الروح البشرية.  

ابنة القدس أدركت منذ اليوم الأول الذي شغفت فيه بالرسم أن ملعب ريشتها الحقيقي هو ذلك المكان الذي تحلم بالعودة إلى تنفس هوائه. فصارت بيوت القدس بمثابة النبع الذي تنبعث منه الصور والأصوات والرؤى التي تمتزج في ما بينها لتصنع حياة ممكنة في الفن.

أثر الحسيني في الفن الفلسطيني يكمن في أنها أطلقت المكان من أسر الواقع وحلّقت بخياله لتكسبه صفة مطلقة. هناك بدأت ملامح تجريديتها التي تتناسب مع فكرة حلمية ظلت تراودها.

شخصية المكان التي عبّأتها الحسيني بمفردات خيالها هي التي ألهمت أجيالا من الفنانين الفلسطينيين الرغبة في البحث عن أسرار المكان الفلسطيني، الذي صار واحدا من أهم مرتكزات الهوية.

لقد ألّفت جمانة الحسيني جملتها الموسيقية الطويلة من بيوت القدس. نزعت من تلك البيوت طابعها الواقعي وصنعت منها مفردات جمالية، يمكنها من خلالها أن تقيم عالما فنيا، يأسر العين بسحر الإيقاعات الخطية واللونية التي تنبعث من سطح اللوحة.

عالم جمانة الحسيني يغيب عنه الإنسان، بالرغم من أنه هو وليس أحدا سواه من صنعه. لكن يلذ لها أن تمارس دور المشاهد المحايد. وهو دور ما كان في إمكانها أن تصل إليه لولا أنها تعلمت فن الاختزال في وقت مبكر من حياتها

قد يقال إن الحسيني كانت قد أفسدت الفن حين وضعته في خدمة الموضوع. وهو كلام يصح قوله لو لم تكن الفنانة فلسطينية. لا يملك الفلسطيني سوى أن يضع كل شيء في خدمة هدف حياته. أن يبقى فلسطينيا في ظل غياب الوطن.

هنا بالضبط يكمن معنى أن يكون المرء فلسطينيا. كانت جمانة فلسطينية بعمق، وهو ما لا تخطئه العين حين النظر إلى لوحاتها. هي رسامة المدينة الفلسطينية الأولى. 

ولدت جمانة جمال الحسيني في القدس عام 1932. درست العلوم السياسية في بيروت (الجامعة الأميركية) ولم تدرس الفن إلا من خلال دورة انتمت إليها داخل الجامعة ولم تستغرق إلا ثلاثة أشهر. أنهت دراستها الجامعية عام 1957. المعرض الجماعي الأول الذي شاركت فيه أقيم عام 1960 في بيروت في متحف سرسق.

أما معرضها الشخصي الأول فقد أقامته في لندن عام 1965. إلى عام 1982 كانت تقيم وتعمل في بيروت. بعد الاجتياح الإسرائيلي غادرت بيروت لتقيم في باريس. هناك درست فن الزجاج الملوّن.

وكما يبدو فإن انتقالها إلى عاصمة النور أحدث تحولا كبيرا في أسلوبها الفني، إذ تحولت كليا إلى التجريد الذي كان اهتمامها به من قبل ينبع من محاولة إضفاء نوع من الصفة المطلقة على موضوعاتها.

لقد مهدت الفنانة لتحولها التجريدي من خلال زهدها بالتفاصيل. تقشف قادها إلى اكتشاف قوة التعبير في الوحدات الصغيرة التي صارت تركّبها وتعيد تركيبها بين لوحة وأخرى، ليبدو المشهد مختلفا. كانت لوحاتها تنمو من الداخل كما لو أنها تستدرج الإيقاع قبل الشكل إلى خزائنها.

 

لقد تعاملت جمانة مع المشهد المديني الفلسطيني، القدس بالتحديد، كما لو أنه خامة موسيقية، تعيد تشكيلها في كل مرة يهجرها فيها الواقع ويخنقها الحنين.

أعادتها دراستها لفن الرسم على الزجاج إلى ذاكرتها الهندسية الغاصة بصور الزخارف العربية. وهو ما كان ممكنا بالنسبة إليها من قبل. لقد ازداد فنها بساطة غير أنه لم يعد مباشرا. خفته صارت تشير إلى شيء هو أشبه بالهمس الموجع. في أعماق لوحاتها التجريدية لا تزال القدس مقيمة، مكانا يحتويه الحلم باعتباره فردوسا مفقودا.

ترسم جمانة لتتذكر. تفيض لوحاتها بالذكريات. ولكن ما معنى أن يؤلف الرسام معجما لذاكرة المكان البصرية؟ تضع جمانة أمامنا ما يشبه الوليمة البصرية. ليس من اليسير أن يزاح المكان من فضائه ليكون لوحا هائما يسجل عليه المنفيون أحلامهم. غير أن ذلك الشيء الصعب استطاعت جمانة الحسيني أن تنجزه.

استطاعت هذه الرسامة أن تصل بصريا إلى خلاصة المكان. هناك حيث يقع توقه إلى أن يتحرر من شكله ويخلص إلى معناه. وذلك كما أرى يشكل الخيط الذي يربط رسوم الحسيني بالشعر. توتر عاطفي يمتحن المفردات في درجة الغليان. لا يحتاج البيت إلى أن ترسمه لكي تقيم فيه بل يحتاج إلى أن تستحضر تلك الأوقات السعيدة التي قضيتها فيه.

ذاكرة المكان البصرية تتجاوز المكان باعتباره شيئا ملموسا إلى عاطفته التي ترافقنا ونحن نعيش بعيدا عنه. ما فعلته الحسيني لا يفارق مبدأ الاستعارة من عالم خيالي. المدينة التي ولدت وعاشت طفولتها فيها صارت بمثابة معبر إلى الحرية. حرية أن ترى وتتخيل وترسم. إنها لا تعيد رسم ما رأته، بقدر ما تُخضع ما رأته من صور وما سمعته من حكايات وما عاشته من وقائع لما تفرضه قوانين الرسم من جماليات.

سيكون العالم المرسوم جميلا إن أخلص الرسام لجماليات ما يرسم.

 

هناك قدر هائل من الأنسنة في لوحات جمانة الحسيني. أنسنة الحجر والنبات والطيور. عالم يغيب عنه الإنسان، بالرغم من أنه هو وليس أحدا سواه مَن صنعه. يلذ لجمانة أن تمارس دور المشاهد المحايد. وهو دور ما كان في إمكانها أن تصل إليه لولا أنها تعلمت فن الاختزال في وقت مبكر من حياتها. هناك الكثير من صبر الحائك في أعمالها.

ما من شيء أيقوني بالمعنى المدرسي في رسوم جمانة الحسيني ولكن الفنانة نجحت في خلق أيقونات مضادة، من جهة أرضية موضوعاتها. يمكن تأمّل رسومها بطريقة دينية. وهو أمر قد يعود إلى الأثر الرمزي الذي تتركه القدس في النفوس، فهي مدينة الأديان كلها.

ذاكرة المكان بالنسبة إلى الحسيني هي بالضبط المعادل الموضوعي لذاكرة الفكرة. فكرتها عن الرسم باعتباره بوصلة تقود إلى الجمال. وهنا بالضبط تعبر الأيقونية عن كامل مهابتها. إنها ترتفع بالمكان من مجاله الأرضي إلى مجاله الحيوي. ما لمسته يداها تحوّل بقدرة العاطفة إلى رمز.

ولأن الرسم ليس حدثا واقعيا فقد أخلت الحسيني موضوعاتها من كلّ ما يحيل إلى الواقع المباشر. لذلك تبدو رسومها مستعارة من عالم فوق ــ أرضي هو العالم الذي يجد الناس العاديون راحتهم فيه وهم يتأملون رمزيا المكان الذي يودون استعادته.

دائما كانت القدس باعتبارها مدينة مقدسة تقدم رمزيتها، مسرحا للعقائد على واقع كونها مدينة للعيش. وهو ما استفادت منه جمانة الحسيني في صنع أساطيرها، التي هي مزيج من المرئيات والأصوات التي تقتفي أثر الحكايات الشعبية والرؤى التي تذهب في اتجاه المعاني المطلقة.

لقد استعملت الحسيني موادّ جاهزة لبناء عالم، هو أقرب إلى الأيقونة منه إلى عالم الواقع الذي تنتسب إليه تلك المواد. لم تجد حرجا في إضفاء طابع القداسة على كل شيء وقعت عليه عيناها ولمسته يداها. مقدسة تلك المدينة وكل ما فيها مقدس. لمَ لا نذهب إلى حافات القداسة إذن؟

إلا في ما ندر ظلت جمانة الحسيني بعيدة في فنها عن شعارات السياسة. لم يكن فنها سياسيا، إلا إذا اعتبرنا كل ما يقوله الفلسطيني هو نوع من السياسة.