• 25 أيلول 2019
  • مقابلة خاصة

 

 لقد خص الدكتور علي قليبو  الكاتب والباحث والمتخصص في علم الاجتماع شبكة " أخبار البلد؛ بهذه المقالة الرائعة  والتي تتمحور حول بحثه المستمر منذ سنوات عن  ملامح الشخصية الفلسطينية وهذه المرة من خلال دراسة اعددها وعرضها  قبل أيام في بيت لحم عن احدى السيدات التي عاشت عشقت قرية ارطاس في بيت لحم .

 

 

بقلم : د. علي قليبو

 

 

من الطريف ان تصبح سيرة حياة سيدة اجنبية وفدت الى فلسطين في عشرينات القرن الماضي  من اهم الاحداث، كم هو حال قرية ارطاس جنوب غرب بيت لحم، مع عالمة الحضارات الفنلندية هلمةجرانكفيستHilma Granqvist والتي اقامت بضعة سنين  في قريةارطاس عكفت خلالها على ابحاثها الميدانية تراقب وتدرس وتكتب مؤلفاتها عن الحياة اليومية بالقرية ابانالانتداب البريطاني،لتصبح سيرة حياتها في ارطاس محط الانظار ومصدر الهام لفيض من المقالات والابحاث عنها وعن معاناتها كامراة في العالم الاكاديمي الذكوري الطابع انذاك.

ومن الملفت للنظر التغاضي من طرف الباحثين عن الجذور التاريخية في القرن التاسع عشر والتي خلقت من ارطاس احدى اكبر مراكز الاستيطان للمبشرين في فلسطين يرافقه تجاهل مطلقلابحاثها الريادية في توثيق العادات والتقاليد في القرية الفلسطينية في مجموعة كتب تناولت عادات الزواج  والطقوس الخاصة بالولادة والموت حيث  انها تناولت بإسهاب كافة التفاصيل الدقيقة المتعلقة بهذه الطقوس الاجتماعية الموسمية المرتبطة بالحياة  والموت!

وصلت عالمة الحضارات الى فلسطين لتباشر عملها الميداني الا وهو اجراء دراسة مقارنة بين النساء  في التوراة والنساء في القرية الفلسطينية ، خاصة وان الفكرةالتي كانت سائدة في اكاديميات الدراسات الانسانية في اوروبا اعتمدت المفهوم الاستشراقي والتي  نظرت الى المجتمع الفلسطيني وكانه ثابت  عبر الزمن ولم يتعرض الى اي تغيير منذ فجر التاريخ!

 علما بان شقيق مضيفتها لويسا براندنسبرغر ويدعى  فيليب براندنسبرغر قد ذاع صيت كتابه "الشرق الغير المتحجر"  The Immovable Eastوالذي كان قد ولد ونشا وترعرع في ارطاس.....

  فلطالما جذبت ارطاس المبشرين ومنذ منتصف القرن التاسع عشر حين استقرت مجموعة من المبشرين في ارطاس على مقربة من القدس وبيت لحم  ينتظرون عودة المسيح وقيام الساعة. وكانت تلك الطائفة المسيحية تدعى بالالفيينMillinialists وهم طائفة مسيحية متدنية اوروبية نشأت في وسط اوروبا وانجلترا تؤمن انه باقتراب نهاية القرن التاسع عشر تقترب نهاية العالم  ، وان المسيح سيعود في يوم القيامة في القدس ، ولهذا احسوا بضرورة اعتناق اليهود للمسيحية استعدادا لذلك اليوم وباشرت تلك الطائفة اعمالها التبشيرية بين يهود العالم وفلسطين بانتظار القرن العشرين وقيامة المسيح.  وشاءت الصدفة ان احدهم وهو يهودي من الالفيين -وكان صديق القنصل البريطاني  بالقدس -   اكتشف قريةارطاس واستغرب من كونها قد هجرت وان اهلها يسكنون  في القلعة  بجانب البرك عوضا عن منازلهم بالقرية وبعد الاستقصاء وجد انهم "مدميين " للتعامرة فعرض ان يدفع الدية المفروضة ،فكفلهم ودفع مبلغ الدية عنهم للتعامرةمقابل ان يستأجر الارض حكرا، وتم الاتفاق مع شيوخ القرية على راتب يومي لهم مقابل العمل في اراضيهم التي اصبحت حكرا للمبشرين...

 فقصة ارطاس معقدة الحبكة، ولهذا فان  وصول الاكاديمية الفنلندية الى القرية الفلسطينية في مطلع العشرينات من القرن الماضي مرتبط بعلاقة ارطاس مع المستوطنين من الالمان وسويسريين وسويديين وبريطانيين  واميركيين وعلاقتهم الوثيقة مع الكولونية الاميركية بالقدس والتي كان قد اسسها بالاصل مبشرين سويديين... جميعهم كانوا قد وفدوا الى فلسطين بدوافع دينية بانتظار عودة المسيح الذي كان متوقعا بانتهاء القرن التاسع عشر.

 وصلت الاكاديمية الفنلندية الى القدس في عصر فلسطين الذهبي وابان الانتعاش وازدهار الاقتصاد الفلسطيني تحت الانتداب البريطاني حيث اقامت في الكولونية الاميركية وتم توجيهها الى قرية ارطاس لمباشرة بحثها الميداني والاقامة مع لويسا بالدنسبرغر التي هي بمثابة بنت بلد ، فوالدها ومجموعة من السويسريين والالمان كانوا قد استوطنوا في ارطاس منذ منتصف القرن التاسع عشر التي تحولتبدعم وحماية القنصلية البريطانية الى منتجع خاص  بالمبشرين وافندية القدس  الذين كانوا يتنزهون في  وبساتين ارطاس الغناء وبرك سليمان وحيث توفرت وسائل الراحة والامان  تحت الحماية البريطانية لتحظى ارطاس بمكانة مميزة ومرتعا سياحيا بالطبيعة على بعد كيلومترات معدودة من  سور القدس....

هذه العوامل الدينية والسياسية والاقتصادية  وضعت ارطاس على خارطة السياحة الدينية في القرن التاسع عشر وفي فترة الانتداب البريطاني تقلصت  وتم التقليل من شانها في دراسات سيرة حياة هلمة جرانكفست والتي عاشت في ارطاسردحا من الزمن اجرت خلالها ابحاثها البالغة الاهمية والتي اعتمدت الاسلوب العلمي الحديث في دراسة تقاليد وقيم واخلاقيات  مختلف الشعوب فحصرت دراستها الميدانية جغرافيا لتتعرف عن كثب على دقائق الحياة اليومية في القرية الفلسطينية.

تجتمع  في الشخصية الحضارية المعينة عدة مقومات دينية وتاريخية واقتصادية واجتماعية لتصهر الوعي الفردي في بوتقتها، هذه الشخصية الحضارية اصبحت من معالم الخطاب الوطني في دول العالم  تبلغ ذروتها في الحضارة الفرنسية والايطالية واليابانية وطبعا الأميركية،  ونرى مثالا حيا امام اعيننا في الكيان الصهيوني الذي استحوذ في عملية بناءه  على مفهوم الانتماء اليهودي الصهيوني  وربطه بمعظم معالمنا التاريخية والدينية والجغرافية والمعمارية ونجده ايضا يتبنى  مأكولاتنا الشعبية ورموزنا  الوطنية ، أبتداءا من  الحمص والفلافل  مرور بشجرة الزيتون وصولا الى القلائد  الذهب او الفضة على شكل خارطة فلسطين! فلا تخرج الهوية الحضارية  والانتماء الوطني  عن كونهما خطاب سياسي تاريخي اجتماعي ديني يعود بالفرد الى لحظة الاستيطان الاول بالتاريخ في جغرافيا البلاد!

ففي فرنسا  على سبيل المثال  تجدهم يعودون بجذور هويتهم الثقافية الحضارية الى رجل العصر الحجريCro-Magnon قبل نشوء الانسان الحالي homo sapien  لتصبح كل المساهمات البشرية عبر التاريخ جزءا من الهوية الوطنية التي يعكسها الفرد.....

في هذا الاطار  لا يمكن تجاهل صفحات كتب "هلمةجرانكفست" لما تحتوي في طياته من ارشيف متكامل في لحظة تاريخية فريدة للقرية الفلسطينية  والتي تقوضت بعد النكبة  في خضم التهجير القسري ولتندثر بعد النكسة حين تحول الفلاح الفلسطيني عن ارضه ليصبح عامل في المدينة او في الاراضي المحتلة براتب معلوم.... وهكذا انتهت علاقة الفلاح الفلسطيني مع ارضه التي فقدت غموضها وقيمتها الرمزية لتصبح سلعة معلومة الثمن حسب العرض والطلب في السوق!

في دراستي لكتاب " هلمةجرانكفست" عن عادات الموت والدفن في ارطاس وجدث ان خميس الموتى مرتبط بعادات قطع العلاقة مع الاموات . فلشدة تعلق الاحياء بمن مات ذلك العام من اب او اخ او عم او ابن او خال  او جد او جدة ،كانت النسوة تستمر على زيارة المقبرة بدون انقطاع  بالاضافة الى يوم الخميس وهو التقليد الشائع  ولكن في يوم خميس الموتى ويصادف عادة اول اسبوع في شهر نيسان اي الربيع تصف لنا حلمة في عدة صفحات كيف كانت النسوة تبدا الاستعداد للطقس بتحضير الفطائر باللحم والسبانخ والفطائر الحلوة قبل يومين ويذهبن باكرا في الصباح للمقبرة ...

 وهنا تذكرت الحجة ام نصار من قرية بيت امر والتي بادرتني فور وصولي للقرية  الى القول "اليوم خميس البيض " الحجة ام نصار في الثمانينات من عمرها وهي كنز من المعلومات عن التراث الفلسطيني.  فسالتها عن دلالته فاخبرتني انه يتلو خميس الموتي ويقع في مطلع شهر نيسان واردفت شارحة:" كان خميس البيض عيدا مميزا عندنا ايام زمان."

 

التفاصيل بحد ذاتها شيقة وبالنسبه لاي فلسطيني فان في قراءة كتبها متعة كبيرة ، فهي لا تكتب فلسفة لكنها تصف بإسهاب جميل كل ما شاهدته.... تتطور الاحداث بالمقبرة حيث يتجمع العديد من الفقراء والاولاد بانتظار قدوم النساء محملات بسلال الطعام للمقبرة  ، وهنا تبدا النساء اللواتي فقدنا شخصا في ذلك العام بتوزيع الفطائر وتبدا المشاحنات  فالكل يريد المزيد من الطعام  ثم ياخذ الصبية في سرقة الفطاير وتزداد حدة التوتر  وعندما يعلوا صوتهن يهرع الرجال بالهراوات من القرية ويرفعونهم للترهيب  فيتوقف القتال  وتبدا النساء في حزم اغراضهن  ويعودون  الى القرية وهم  يرددون  |:" قطعت المقابر واللي بزورهم " وما شابه ذلك من عبارات تكون ايذانا يالتوقف عن زيارة الموتي.. وفي الخميس التالي يكونوا قد لونوا البيض  بقشر البصل والنعنع  ويحتفلون في ساحة القرية بتطقيشه ويسود المرح ...

للمشهد ابعاد لا تحصي وتعود بنا الى السوال الجوهري الا وهو ما هي جذور الشخصية الفلسطينية وهل هي مسيحية و خصوصا ان البيض والموت من عناصر عيد الفصح عند النصارى  ام هي من الطقوس الكنعانية الراسخة القدم او ربما تكون عادات تعود الى الشعوب الاولى التي  استقرت في جغرافيا فلسطين منذ فجر الانسان الاول والذي نجد اثاره في كهوف جبال الكرمل ! ذلك الرجل الاول الذي خرج من افريقيا بعد ان تمت السيطرة على صنع النار والمعروف علميا باسم Neanderthal..... وما هو دور رجل اريحا الذي بنى اول مدينة وزرع القمح ودجن الجدي البري في ترسيخ معالم الشخصية الفلسطينية .... وما هي علاقتنا معه!

في غياب لمفهوم واضح لمقومات الشخصية الفلسطينية  وفي هذه الفترة الحرجة ونحن نصارع للبقاء على ارض الاجداد يبقى السوال  : ما نكون وما هي مقومات شخصيتنا الحضارية وما هي مساهمات مختلف الحضارات والشعوب السابقة في خلق وعينا الذاتي وبمميزات شخصيتنا عبر التاريخ...

في هذا الاطار الاجتماعي والتاريخي الديني تبرز اهمية اعمال هلمة جرانكنفيست العلمية ومساهمتها العظيمة في القاء الضوء على معالم الشخصية الفلسطينية من خلال تأريخ وارشفة وابراز معالم ودقائق الحياة من الولادة الى الموت في فلسطين ابان عصر الانتداب.

قصة الحب التي جمعت بين ارطاس وفنلندا عبر شخصية هلمة جراكفست الريادية اصبحت اسطورية  الطابع وسيرتها وقصتها متداولة في كل بيت في ارطاس حتى اكتسبت  ارطاس شهرتها العالمية بفضلها فالجميع يريد ان يرى ارطاس بلد هلمة...

قصة الحب بين هلمة وارطاس جميلة رومانسية واستشراقية من مخلفات الاحتلال البريطاني فنجد خير تجسيد لها في صورة غلاف الكتاب محور المحاضرة   فنرى هلمة تجلس ثرى ارطاس في الربيع وقد حملت باقة زهورمن الحقل وخلفها نرى  افرادا من اهل البلد منهمكون في عملهم  في حصاد القمح يعانون من شظف ومشقة وعناء العمل بالحقول.