• 10 آيار 2020
  • مقابلة خاصة

 

القدس – أخبار البلد - إن الدكتور علي قليبو الكاتب والفنان ، أستاذ علم الاجتماع ، يعتبر ظاهرة فنية وثقافية فريدة من نوعه في القدس، فهو تخطى المحلية بمراحل كثيرة ، ليكون عالميا بنكهة مقدسية ،  الدكتور قليبو يجوب العالم ليس سائحا عاديا بل باحثا وراء المشهد الثقافي العالمي ، مما يزيد من علمه علما ، ولكن انتشار فيروس كورون وما رافق ذلك من حجر صحي  اثر بشكل جبري على الكاتب والمثقف والفنان  المقدسي الأصيل علي قليبو ، الذي يقول في مقابلة خاصة لشبكة " أخبار البلد" ان هذ الحجر الصحي وفر له الوقت والجهد لإعادة ترتيب اكتشاف زوايا نفسية ثقافية جمالية في جنبات حياته.

 ويقول الدكتور قليبو في معرض ردها على أسئلة " أخبار البلد" :  ان العزلة والوحدة تلعب دورا مهما في تشكيل عملية الابداع ، فحياة الفنان هي بطبيعة الحال معاناة وجودية وصراع مستمر ، والإنعزال للمحافظة على ظروف عملية الابداع التأملية واجراءات التفكير والتعبير والتي اشبهها بالشرنقة التي تغلف الفراشة قبل انطلاقها .... لكن شتان ما بين حاجة الفنان الى الوحدة الوجودية الخلاقة  والعزل والحجر الصحي الالزامي منعا لانتشار الوباء. فجانحة الكورونا حدث جليل مؤلم  يعاني المصاب  به وذويه الامرين.... فلا اصعب من الموت وحيدا!

 ويضيف : " أنا اعيش في برجي العاجي بين ابحاثي وفني....اتنقل بين الفن والابحاث... ارسم طورا وانهمك في الكتابة طورا اخر متنقلا بين الإثنين وعندما تنضب الكلمة وتتلاشى الالوان اغادر البيت والبلاد واسافر لاتوه عن نفسي في مدن الاحلام الاوروبية واعيد تكوين ذاتي في شوارع  ومتاحف فنية وتاريخية واتجول في بقاع فريدة لزيارة القلاع والقصور من العصور الماضية وسط الطبيعة الخلابة.... فكم اعشق التاريخ والطبيعة والجمال! و الأمر سيان في اليابان وتركيا والنمسا والنرويج وسويسرا وفرنسا وايطاليا...فلا أجمل من الغربة الطوعية!

وهكذا  تمر الايام قبل الكورونا:  ففي القدس  أتقوقع على ذاتي اعمل في صمت مطبق وبيت مغلق، في سكون ظاهري تعج بباطنه الحياة بلا كلل وفي حركة مستمرة وانتاج غزير فتجدني تارة سارحا بين المراجع منهمكا في صياغة ابحاثي الاكاديمية و مقالاتي الثقافية، وتارة اخرى غارقا في مرسمي بين الواني الزيتية استلهمها نورا وظلال...لا اغادر البيت سوى لمتابعة جولاتي الميدانية بالريف الفلسطيني ودراسة معالم قدسنا الجميل وابث الشوق فيها واستجلي معالمها لتفيض في اعمالي الفنية والادبية....

ويؤكد  الكاتب والفنان علي قليبو ان هناك فائدة من  انتشر فيروس كورونا :" حيث  ازالت الكورونا والتباعد الاجتماعي المفروض وزرنا كبيرا من حياتي ، فلم ادرك  عبء حياتي الاجتماعية ، ولا ثقل الضغوطات النفسية  المرتبطة بالحفلات العامة والعزائم المتبادلة حتى جاءت الكورونا فحررتني... بطبيعة الاحوال لم اذهب الى اي حفل في رام الله نظرا لصعوبة الوصول والخروج منها،  لكني كنت ملزما بحضور معظم الحفلات في مختلف الممثليات الدبلوماسية بالقدس ، وطبعا كان هناك مسلسل الدعوات والعزايم جميعها سقطت عن كاهلي حين اجتاحت تسونامي الكورونا الكرة الارضية  ، وكنت قد اتخذت قرارا فرديا بإيقاف كل نشاطاتي الاجتماعية ، وفرضت حجرا طوعيا على نفسي  منذ منتصف شهر شباط حالما بدأت الاشاعات عن الوباء العالمي تنتشر وتزيد لتصبح جانحة تهدد كافة البشر ، فانقطعت عن العالم ، لاعتكف على صياغة و انهاء مجموعة من المقالات التي كنت مكلفا بكتابتها...

 ويسترسل الدكتور قليبو في شرح  منهج حياته قبل انتشار فيروس كورونا : " قبل  الكورونا عشقت السفر ولهثت خلف المغامرة ، حال انهائي اي مشروع اكاديمي او فني ، فلم يكن يستكين لي أمرا ولا يهدأ لي بال ، إلا في السفر لانفض غبار الروتين ولتتضح رؤيتي لاعود بشوق وحنين الى قدسي والى صومعتي بروح جديده وافاق الى الابد متجددة...وهكذا وقبل الكورونا وجدتني كل شهرين في مكان جديد ، متنقلا ما بين معشوقتي فرنسا وايطاليا ، وجولات سياحية هنا وهناك ، بالنمسا واسبانيا،  وطبعا استنبول التي هي بمثابة مدينتنا الكبيرة.

مع الكورونا واغلاق كافة المطارات والفنادق والمطاعم أصبحت حياتي خلف الكواليس هي محور وجودي .......في قفص الكورونا الذهبي عدت استنشق الفن بعد انقطاع  زاد عن الثلاثة اعوام...قضيتها في صياغة ونشر مجموعه كبيرة  من المقالات والكتب والابحاث الميدانية... فقضيت عاما في صياغة كتاب "المعالم المعمارية في القدس المملوكية" بتكليف من مؤسسة التعاون ، باللغة الانجليزية ثم ترجمته بالعربية ، وتلاه كتيب عن تاريخ حي الثوري الاجتماعي للمؤسسة الألمانية ويلي براندت ، وسلسلة مقالات من ضمنها مقالات عن اشارات ومفهوم مصطلح الوجه بالمجتمع الفلسطيني، والمزيد من الابحاث في تاريخ فلسطيني الاجتماعي من منظور انثروبولوجي ، فكتبت  في شبكة " أخبار البلد" عن تاريخ بيت جبرين كمعلم حضاري فلسطيني عبر التاريخ، وعن التصوف في الريف الفلسطيني وعن التراث الفلسطيني عامة، و تناولت في مقالة منفصلة  الجانب الانساني في جانحة الكورونا ، ومتوجا اعمالي بمقالة عن مفهوم الانسان الكامل بالإسلام وارتباط هذا المفهوم بالمعراج ورمزية القدس....إن انهماكي في كتابة هذه المواضيع الخاصة في الجانب الثقافي الفلسطيني الوطني، سلبني من أعمالي الفنية الأخرى....

 وفي معرض اجبته على سؤال حول مشاريعه الثقافية الفنية والحضارية قال د قليبو :" مع الحجر الصحي ومجموعة الاغلاقات توقفت عن ابحاثي الميدانية في قلعة رابود الكنعانية وهي الان احدى خرب دورا،  وبعد اغلاق اريحا توقفت عن الاعتناء بالبيت والبستان هناك، مما دفعني لاستكشاف الطبيعة الخلابة في احراش القدس التي قد زرعها الإسرائيليون  كجزء من البرنامج الصهيوني لطمس معالم القرى المهجرة واخفاء نظام توزيع واستعمال الاراضي الزراعية الفلسطينية من كروم التين والزيتون والعنب وذلك تحت غطاء أخضر يخال للزائر الغريب انه في أوروبا… فلقد اخفوا اثار وجودنا التي ما زالت جذورها واطلالها ظاهرة للعيان!

في الحجر الصحي المفروض علينا اصبحت هذه الاحراش غرب القدس فوق اراضي القسطل وصوبا وسطاف وخربة اللوز وقيسلون ملاذي من سجن العمر في شعفاط، فبدأت برنامج زيارات يومية وشرعت بالتقاط صور سرعان ما اصبحت لوحات فنية... وحيث ان جمال الربيع المدهش يردد صدى اللوحات الفنية الرومانسية الاوروبية ، وما رافق تلك الحقبة التاريخية من موسيقى كلاسيكية والشعر، فلقد تبلورت في مخيلتي الفنية ، رؤية شاعرية في مشواري التأملي اليومي في اكناف الطبيعة ، والتي سرعان ما عكستها عدسة كاميرا التلفون لتصبح لوحات فنية ، لا تعتمد على ابراز التقنية الفنية المتطورة للكاميرا والمونتاج الحاسوبي ولكن تعتمد على اثارة الاحساس بالدهشة امام روعة الطبيعة ، من خلال رؤية تأملية تحليلية  وصياغة هذه التفاصيل ، في اطار صورة تثير الانبهار، وتوالت الصور ، وتوالى نشرها على صفحتي بالفيسبوك ، واعجب الجمهور بها ، واستمر الحال حتى افل الربيع وجفت الزهور وبقي الاحساس الغامر بالجمال ، فكانت هذه الخطوة مدخلي للعودة للمرسم.... وشاءت الصدفة انني كنت قد اعدت بناء مرسمي بالخريف الماضي ، اثر عودتي من اليابان فدخلته نظيفا جديدا حتى لوح الزجاج السميك الخاص بمزج الالوان كان جديدا وجاهزا... كما شاءت الاقدار انه  في رحلتي الاخيرة الى استنبول كنت قد اقتنيت مجموعة فراشي رسم وعدد كبير من انابيب الالوان .... كل شيء كان بانتظاري!

كما أبعدتني اقامتي باليابان ستة اشهر وعملي كبروفيسور وباحث في جامعة كيوتو وانهماكي بدراستي للمظاهر الاجتماعية والدينية والثقافة اليابانية عن الرسم… حيث انهمكت في ابحاثي وما زلت في طور وضع اللمسات الاخيرة في كتاب سيظهر قريبا عن الحضارة اليابانية بالإضافة إلى كتاب اخر عن تاريخ رابود الاجتماعي من العصور الكنعانية حتى الان...

مع استمرار جانحة الكورونا عدت الى مرسمي....عدت الى الفن و الى وجود تتناغم فيه اطياف الالوان وتتهادى الى خاطري رؤى واشكال تصبح لوحات تعبيرية مستوحى من قدسنا الجميلة ، وطبيعتنا الخلابة ، ستكون محور معرضي الفني القادم بإذن الله حال انحسار تسونامي كورونا.