• 28 آيار 2020
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : بين لينفيلد

ترجمة : سعيد الغزالي ، خاصة بشبكة " أخبار البلد"

 

قمت بزيارة القاهرة عام ٢٠٠٦ لأكتب قصة عن ميراث الكاتب الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب الذي رحل في ٣٠ آب/ اغسطس من نفس العام. وقام بتكريمه أمامي في ذلك الوقت، مدير المقهى التي كان محفوظ يرتادها بصحبة عدد من الكتاب. وقال المدير، أثناء التكريم، إن محفوظ هو الذي كرم الذين منحوه جائزة نوبل بقبوله لها، وليس العكس.

وقد تعززت صحة هذا التصريح بنشر مجموعة قصصية، بعنوان "الحارة" التي تضم ١٨ قصة قصيرة وجدت لاحقا بين أوراق محفوظ. ونشرت المجموعة باللغة العربية عام ٢٠١٨ تحت عنوان "وسواس النجوم". تضمنت المجموعة سردا حيويا مشحونا بعاطفة غنية معبرة عن حياة الناس في حي الجمالية في القاهرة القديمة التي ترعرع فيها محفوظ وكانت منصة مكانية لبعض أعماله الشهيرة.

كان محفوظ ماهرا في تطوير شخصياته المتنوعة، التي شملت شخصية رئيس العائلة المستبد السيد أحمد عبد الجواد المأخوذة من رواية "ثلاثية القاهرة" الذي أدى فيها دور موظف صغير، يطمح أن يصبح وزيرا في وزارة عثمان البيومي المحترمة.

وفي مجموعته القصصية "الحارة"، لم يسبر محفوظ غور الشخصيات كأفراد، ولكنه تعامل معهم كمجموعة منتمية للحارة، وجعل محفوظ من الحارة ذاتها شخصية حيوية، وفي هذا العمل يعرض الكاتب قدرته المتميزة للوصول إلى أعمق مشاعر الانسان.

كان الناس في الحارة يتمتعون بالشجاعة والقسوة ويؤمنون بالمعالجين الروحانيين والقديسين وحتى الشياطين الذين-حسب اعتقادهم- كانوا يسكنون قبو احدى القلاع. وكان سكان الحارة يحتقرون السلطات الرسمية. ولعبت الشائعات دورا مهما في حياتهم. فكان للحارة لغتها الخفية والخاصة بها، رغم أنه لا أحد يعلم كيف انتشرت ومن نشرها بينهم. وقد تميزت هذه اللغة بأنها توسوس بالشكوك وتكشف الاسرار الغامضة.

كانت قصتي المفضلة "نصيبك في الحياة" التي كان فيها مختار الحارة يعلق على محنة جديدة وغير مسبوقة نكبت بها الحارة، بقوله بأن الحارة لم يسبق لها أن انتشرت بها المصائب، بهذه الصورة، وكأنها جهنم الواسعة التي لا يمكن أن تمتلئ.

كان تفشي الوباء فيها مؤلما، وقد انفجر بائع المعجنات بالبكاء، بينما كان يمسك "المِرق الخشبي" ويصرخ بأعلى صوته، مما جعل عائلته تأخذه للبيت وهو يصيح. فيتأثر بهذا المشهد صاحب محل كان يحمل سلة مليئة بالخضروات المخللة، ويبدأ بالبكاء بعنف، تزايدت هذه القصص في الحارة بصورة ملحوظة وواضحة، فيكتب محفوظ، بأن أعداد الضحايا من الرجال والنساء كانوا في ازدياد مستمر، وعندما يصل مأمور الصحة، يبدأ جولته بالتحري عن مسببات الوباء ويتنقل من بيت لبيت، ويصبح المأمور نفسه ضحية للوباء عندما تصيبه عدواه. 
ولكنه في نهاية المطاف يشفى في بيت الموسيقار عندما يستمع إلى اللحن العذب وضرب الطبول والتصفيق والغناء. فيتحول البكاء والعويل إلى ضحك هستيري.

والقصة المؤثرة بصورة فريدة هي قصة توحيده التي كانت تتحدث عن ذكريات فتاة صغيرة عاشت مع عائلة الراوي، وحسب رأيه، فإن الأشياء الجميلة كـ " السعادة والجمال والسحر تأتي دفعة واحدة". تمر السنوات ويلتقي الراوي بالفتاة صدفة في الإسكندرية، في بداية الأمر لا يستطيع الراوي أن يتعرف عليها، لأن الدهر أكل عليها وشرب وصار وجهها هزيلا وشاحبا ومتجعدا، وعندما سمع صوتها الساحر، عاد الماضي إليه مندفعا كزجاجة عطر تحطمت على الأرض" وامتلأ قلبه بالحنين إليه.

منحت لجنة نوبل محفوظ الجائزة لمقدرته الفنية على كتابة رواية عربية ذات بعد انساني وعالمي، فقد كان محفوظ متأثرا بالكاتبين العالميين الشهيرين بلزاك وديكنز، فقدم للعالم ٣٤ رواية متنوعة بصورة لافتة للنظر وشملت في بداية عمله كروائي ثيمات مصرية قديمة، منتقلا إلى رواية "أولاد حارتنا" التي ترمز إلى التاريخ الإنساني وانتهاءً بالروايات السياسية في الستينات التي استخدمت الرمزية للتركيز عل صعود الثورة المصرية. وكان لمجموعاته القصصية الثلاثة عشر وجوها عديدة، فعلى سبيل المثال، ترجمت المجموعة القصصية "الزمان والمكان" للإنجليزية وكانت تحتوي على "زبلاوي" التي تحتفل بجمالية الصوفية وتتحدث قصة "الفأر النرويجي" عن الأنظمة المستبدة، التي تستخدم التهديد الخارجي لتعزيز حكمها واستغلالها.

وتتصف بعض القصص المنشورة في مجموعة "الحارة" بالغموض، حسب ترجمة روجر ألين، الذي وجد فيها تشابها مع أعمال أخرى. وقد وجدت أيضا في مقتنيات الكاتب ملاحظة تقول بأن هذه الاعمال سوف تنشر في عام ١٩٩٤، لكنها لم تنشر أبدا، وربما يعود ذلك إلى قيام المتطرفين بمهاجمة محفوظ في ذلك العام. ولا يعرف ما إذا كانت المجموعة القصصية تمثل عملا متكاملا أو أنها جزء من عمل أكبر لم يكتمل. ما هو مؤكد ان قصص الحارة المتأخرة تقدم شهادة مقنعة على تنوع وعبقرية الكاتب الكبير.