• 4 كانون الثاني 2017
  • ثقافيات

 

بقلم : عبد اللطيف الزكري

الأدب الكبير هو ذاك الأدب الذي يجعل الحياة أكثر إنسانية مما هي عليه، وهو الذي يؤسس الحلم بالرفعة الممكنة – الممكن بلوغها، الرفعة التي يصبو إليها الجميع، والتي تكاد تكون في يد كل واحد منا، لكن الأديب وحده هو من يمسك بها.

الأدب الكبير هو الأدب الذي يجعلنا نتجرأ على النظر إلى الحياة، بكيفية تختلف عن المألوف، وهو الذي ينطوي على المخاطرة التي تمكننا من معرفة البعد الإنساني الحقيقي فينا، البعد الذي تقضمه بشراهة عوادي الحياة اليومية، البعد الذي افتقدناه بسبب لاهج من الانغماس في الحياة المعتادة.

الأدب الكبير هو خالق الوعي، الذي يجلو حقيقة شرطنا الإنساني برمته، لأنه يومئ إلى إمكانيات الحوار الممكنة، بعد هذا الصراع التراجيدي الأليم الذي لما نزل نعاني منه، بسبب جمود الذهنيات، وانغلاقها على تفسيرات أحادية لحقائق الحياة والكون الكبرى. الأدب الكبير هو الذي يجعل الذهن متوقدا مفتوحا متأهبا لتأمل جديد الحياة على الدوام، ومنها هذه الوسائط الجديدة، للتواصل الإنساني، التي أعطت للعالم الافتراضي قيادة جانحة، تبعد الإنسان عن التواصل المباشر، التواصل الروحي اللازم الذي يجعلنا نشعر بمعاناة بعضنا بعضا. التواصل الافتراضي تواصل مجرد، ينأى عن الجوهر الكامن في نفوسنا، ولن نظفر بهذا الجوهر إلا إذا أضحى التواصل الافتراضي ذاته مشبعا بالأدب الكبير، أدب «اللقاءات» المفعمة بأواصر المحبة، باعتبارها أسمى ما يميز الإنسان في هذه الحياة. 

الأدب الكبير هو الذي يجعل الحياة قابلة للمس، يجعلها حسية أو محسوسة ملموسة كما يقول صاحب نوبل (2014) الروائي الفرنسي باتريك موديانو، فالكلام يتجسد متى نفخت فيه الروح الملهمة الخالقة حياةً. تزداد وحشة الإنسان في هذه الحياة، بعدما غدا الحاسوب هو الكوة الافتراضية التي طفق البعض يقضي (كل) حاجاته بها.

الأدب الكبير هو الذي يوقظ فينا الإحساس بجدة أشياء هذا الكون، ويجدد علاقاتنا بها، فنغدو ثملين بالفرح لما تنطوي عليه هذه الأشياء من مقاصد سرية، جعلتنا الحياة الهادرة المألوفة، نغض عنها أبصارنا لفرط ألفتها، إن الأدب الكبير هو الذي يعيد إلينا التوازن المفقود في النظر إلى الأشياء – كل الأشياء- في هذا الكون وهذه الحياة التي نعيش في كنفها. إن الألق الوهاج الذي يضفيه الأدب الكبير على روح الأشياء يمتعنا مثلما يغذي فينا روح مساءلة هذه الأشياء بنوع من الرجة المدهشة والخاطفة المستديمة في نورانيتها، التي لا تفارق حقيقة الأشياء في روحانيتها وماديتها. إننا نعيش في عوالم صغيرة، هي العوالم التي تحتضن معاشنا وعملنا، أما الأدب فيخلق، على الدوام، طقسا جماليا يؤبد هذه الحياة ويفتحها على عوالم فسيحة كبيرة تنتقل بنا من جغرافيا إلى جغرافيا، ومن بلد إلى بلد، وكأننا نسكن المسكونة كلها – بتعبير ميخائيل نعيمة – نسكن الكون كله. وإذا كانت العوالم الافتراضية تمكننا من ذلك أكثر من الأدب – كما يبدو في ظاهر الاستعمال – فإن الأدب يتجاوز تجريد الممارسة الحياتية التي نلفيها في العوالم الافتراضية، ليحولها إلى عوالم محسوسة ممتلئة بأنفاس الحياة، الأنفاس اللاهبة اللاعجة القوية قوة الحياة ذاتها..

يخرج الأدب الكبير الإنسان من وحدته وعزلته، ويعقد أواصر الصلة بينه وبين الأشياء التي تملأ حياته، سواء تلك الأشياء المنبثة في الطبيعة أم تلك التي صنعها بنفسه ووهبها شكلا، ثم تركها وراءه إثر عبوره في هذا الكون الهائل. فالأدب يحفزنا للتعرف على هذه الأشياء، ويدلنا على شكل العيش الذي نعيشه مع بعضنا ومع الأشياء التي تَحُوطُنَا. إن الأدب الكبير هو أدب الحياة في كل العصور.

الأدب الصغير هو الأدب الذي ينحاز لإيديولوجيا أو عقيدة انحيازا متعصبا، نافيا عما سواه إمكانية حيازة الحقيقة. هو الذي يتعصب لعرق أو إثنية أو طائفة تعصبا مطلقا، جاعلا من التعصب وظيفته الكاملة والنهائية.

الأدب الصغير هو الأدب الذي يرفض المثاقفة والحوار والتفاعل مع الآداب الأخرى، بدعوى الحفاظ على الهوية والخصوصية. هو الأدب الذي لا يشمل الإنسانية كلها مهما كانت الخصوصية والمحلية التي يعبر عنها.

الأدب الصغير هو أدب التعصب للعرق أو المذهب، دونما إيمان بأن الكون، والحياة فيه، من حق الجميع، أما الوجود في مكان من هذا الكون إنما هو وجود حياة لغاية هي تحقيق إنسانية الإنسان بأغلى وبأعلى ما يمكن من التحقيق. الأدب الصغير أدب طائفة من الناس لا كل الناس. الأدب الصغير هو أدب التوجيه بالرؤية الضيقة، والآراء الماحقة، فهو أدب الأفق الضيق والفكر المختنق. الأدب الصغير أدب الإيديولوجيا الجامدة، وهو الأدب الذي يقول بأنه هو الأدب الوحيد في العالم ولا أدب سواه.

الأدب الكبير هو الأدب الذي يطوي في أعطافه شوق الكتابة ولذتها ومباهجها في المعرفة والحياة. كتب رسول حمزاتوف كتابه الكبير، كتاب الأدب الكبير الذي يحفزك على محاورته، كتبه لبلده (داغستان) وسماه «بلدي» كما كتبه للإنسانية كلها، بينما الأدب الصغير هو أدب الإيديولوجيا الذي يموت بموت تلك الإيديولوجيا أو موت الدعاة لها.

يقول مارون عبود في كتاب «مجددون ومجترون»: «القديم والجديد نضال الأبد، بل صراع الحياة» وهو حال الأدبين الكبير والصغير، إذ يعيشان، عادة، في بيئة واحدة، أو بيئات متقاربة أو متباعدة.. بيد أن الأدب الكبير يحيا، لأنه أدب الحياة، والأدب الصغير يضمحل ويموت ويندثر لأنه أدب مَوَات. ما من ثقافة أو حضارة لم تعرف هذا الصراع المحتدم بين الأدبين الكبير والصغير، وهذين الأدبين هما مما يَرُوجُ في ثقافتنا العربية المعاصرة، وليسا في شيء مما كتبه عبدالله بن المقفع تحت هذا المسمى (الأدب الكبير. الأدب الصغير)، وإن يكن لهما صلة بذاك التراث الإنساني الباذخ الذي غذى عقول أجيال عديدة، ولما يزل يمارس وظيفته في التحفيز الروحي على الإبداع والابتكار. إن تراث عبدالله بن المقفع وسهل بن هارون وإبراهيم الصولي ومحمد بن الزيات وعمرو بن بحر الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن العميد.. هؤلاء الذين سماهم محمد كرد علي «أمراء البيان» في كتاب تحت هذا الاسم، هو تراثنا الروحي والمادي في أدبنا، مذ كان هذا الأدب إلى الآن. وبما أن كل عمل فني أدبي هو مخاطرة فإن الأدب الكبير دليل على ممارسة هذه المخاطرة في استكشاف الحياة وجلاء أوجاعها ومسراتها ومباهجها، لأن الحياة، لمن يتمثل سرها القوي، هي حياة مباهج العمل الدائم والراحة المقترنة به، وهما معا مما يشف عن جمال هذه الحياة التي يجعلها الأدب الكبير أجمل مما هي عليه، فهذا الأدب هو في سعي دائب وملاحقة مستمرة للظفر بأفضل العوالم الممكنة. على أن هذا الأدب الكبير لا يظفر بهذه التسمية، إلا إذا حقق أدبيته بأفضل الطرائق الجمالية المتاحة. فليس أدبية الأدب في الإلحاح على شكلانية هذا الأدب إلا إذا كانت بلا معنى. ولا يتحقق معنى الأدب إلا إذا كان كبيرا، وهو الأدب الذي ينطوي على قدرات إبداعية عظيمة عظمة إنسانية الإنسان. ولطالما استحوذت الأعمال الأدبية العظيمة على قارئها بالفكر الأدبي الذي توصله إليه كما بالطريقة التي تم بها توصيل هذا الفكر. إن نضج التجربة واكتمالها الفكري والفني هما مما يحقق للأدب أدبيته، ويجعلان الرغبة فيه دائمة وعظيمة، فالاهتمام بالأدب مقترن، عادة، باكتماله الفكري والفني ولهذا حظيت كثير من الأعمال الأدبية بالبقاء والتداول عبر الأجيال المتعاقبة، لأنها انطوت وبقدر عال من إحكام الصنعة الجمالية على الاكتمال الفكري والفني. إن أدبا يخاطب كل جيل وكأنه ظهر للتو هو أدب كبير، لأن الأدب الكبير هو الذي يلازم الإنسانية في حياتها، وفي تحولات هذه الحياة، فما هو تجربة كلية يصدق على حياة جميع الأجيال لا على جيل واحد فقط. إن الأدب الكبير هو أدب الحياة كلها، مذ كانت هذه الحياة وإلى ما يعمل على استمرارها لتكون حياة إنسانية مبتغاة مشتهاة.

إن الأدب الكبير هو الأدب الذي يتجدد باستمرار تداوله، إنه الأدب الجديد دائما..لا يصيبه البلى ولا تعروه عوادي الزمن بالإهمال أو السقوط في مهاوي النسيان. إنه الأدب الذي تَنْشَد إليه القراءة في كل زمن، وهو لذلك أدب جديد دائما.

٭ قاص وناقد مغربي

عن القدس العربي