• 7 كانون الثاني 2017
  • ثقافيات

 

 

بقلم : محمد عمر

 

شهدت السنوات الأخيرة صدور عشرات الكتب التي تبحث في المتغيرات الجديدة على عالم  اليوم، هكذا ظهرت كتب مثل «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» لتوماس بيكتي، و «الحداثة السائلة» للبولندي زيغمونت باومان، و«عصر الوصول: ثورة الاقتصاد الجديد» لجيرمي ريفكين، وغيرها العشرات.

هذه الكتب تكاد تطيح بكل ما سبق وعرفناه عن العالم، ويكاد مؤلفوها يجمعون على مقولة: «العالم الذي كنا نعرفه انتهى». ومن بين هذه الكتب يبرز كتاب عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين، المعنون «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم»، والذي ترجمه د.جورج سلمان، ونشرته المنظمة العربية للترجمة.

17825783بالنسبة لعالم اجتماع معروف مثل آلان تورين، يعتبر أن الموضوع الرئيسي لعلم الاجتماع هو دراسة التصرفات الاجتماعية التي ترتبط بالتاريخية، أي بعلاقات وصراعات الطبقات، قد يكون مفاجئًا أن يظهر كتاب له، كهذا، يحاول أن يثبت فيه أن التحليل الاجتماعي لم يعد أساس علم الاجتماع، وقد حلّ مكانه التحليل الثقافي، وأن المجتمع أصبح «لا اجتماعيًا» تنوب فيه المقولات الثقافية عن المقولات الاجتماعية.

يستهل تورين كتابه بالتأكيد على أننا نحتاج إلى براديغما جديدة لتحليل وفهم العالم الذي نعيش فيه الآن، ويقول: «إذا كنا لبثنا فترة طويلة نتوسّل، في وصفنا وتحليلنا الواقع الاجتماعي، مصطلحات سياسية، كالفوضى والنظام، والسلام والحرب، والسلطة والدولة، والملك والأمة والجمهورية، والشعب والثورة، حتى إذا تحررت الثورة الصناعية والرأسمالية من قبضة السلطة السياسية وظهرتا «قاعدة» للتنظيم الاجتماعي، عمدنا إلى الاستعاضة عن البراديغما السياسية ببراديغما اقتصادية واجتماعية، بحيث أصبحت الطبقات الاجتماعية والثورة، والبرجوازية والبروليتاريا، والنقابات والإضرابات (…) هي مقولاتنا التحليلية الأكثر تداولًا. (..) أما اليوم، فقد باتت هذه المقولات مبهمة، وبتنا بحاجة إلى براديغما جديدة. (..) لا سيما أن القضايا الثقافية بلغت من الأهمية حدًا يفرض على الفكر الاجتماعي الانتظام حولها».

بمعنى آخر، يرى تورين أن المجتمعات الغربية انتقلت من البراديغما السياسيّة، في الحداثة الأولى، التي حلت محل النظام الديني وتفسيره للعالم، إلى براديغما اقتصادية اجتماعية، في الحداثة الثانية، والآن في عالم اليوم، نحتاج إلى براديغما جديدة من لغة أو تحليل اجتماعي إلى لغة ثقافية تتناول الحياة الاجتماعية. يعني تورين في مفهوم البراديغما نموذجًا جديدًا لفهم طبيعة التحولات التي طرأت وتطرأ على المجتمع. وقد بات هذا المفهوم، بحسب تورين، يحيل إلى قيم جديدة، ثقافية، أصبحت مهيمنة على وعي الأفراد والجماعات تتمثل في: الحرية، وحقوق الإنسان، والهوس، والاستلاب، والهوية. 

ويوضح تورين الفرق بين «البراديغم» و«الخطاب»، بالاستناد إلى ميشيل فوكو الذي يرى أن عقلنة المجتمعات أدت إلى تعزيز منطق التكامل الاجتماعي، والسيطرة، وبالتالي توافر آليات متعددة (ميكروفيزياء النظام) للسيطرة على الفرد. ولكن في عالم سريع التغير، حيث يصعب السيطرة عليه، يضيف تورين إلى تحليل أو تشخيص فوكو للـ«الخطاب» آليات المقاومة، فيقول: «إذا كان الخطاب هو شكل من أشكال السيطرة، فإن البراديغم ليست أداة في يد النظام الحاكم وحسب بل هي أيضًا، إنشاء لدفاعات وانتقادات وحركة تحرير».

على أي حال، يؤكد تورين على «انهيار المجتمع»، أي انهيار النظرة الاجتماعية للحياة الاجتماعية، محاولًا تبني تحليل «لا اجتماعي» للواقع، وهذا هي الفكرة المركزية للقسم الأول من الكتاب.

لتحديد أطروحته هذه يقسم تورين «البراديغما الجديدة» إلى قسمين: في القسم الأول يحلل نهاية الاجتماعي وجميع ظواهر التفكك والفصل الاجتماعيين التي تميز التحولات في القرن الحادي والعشرين، أما في القسم الثاني فيحلل المفاهيم التي تشكل لب النموذج الجديد (البراديغما)، وهي: الذات الفاعلة والحقوق الثقافية. ونقطة الانطلاق بالنسبة لتورين هي تحليله للعولمة كشكل من أشكال الرأسمالية المتطرفة التي عملت على فصل الاقتصاد عن المؤسسات الاجتماعية والسياسية القومية. وكان من نتيجة ذلك كله تشظي ما كنا نسميه «مجتمعًا» وانهيار الفئات الاجتماعية القديمة، وكذلك انتصار الدعوة إلى الفردانية التي تصورها وتروجها وسائل الاتصال والإعلام.

انطلاقًا من كل ذلك يدعو تورين القارئ إلى إعادة النظر، وعن حق، في المفاهيم والأطر الفكرية المستخدمة في تحليل ودراسة المجتمعات الحالية. ذلك أن مفاهيم مثل الطبقة الاجتماعية، التحرر، الحركة العمالية (…) يجب أن ينظر إليها في ضوء المتغيرات الجديدة.

وكتاب تورين هذا تحليل جدي، وربما صاعق، للمتغيرات التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين، أو منذ بداية القرن الجديد. لقد تغيرت الظروف التي كانت تعيش فيها المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية بفعل مجموعة معقدة من القواعد والأعراف الجديدة. بحيث صرنا «نعيش في مجتمع أصبح «لااجتماعيًا» تنوب فيه المقولات الثقافية عن المقولات الاجتماعية، وحيث علاقة كل امرئ مع ذاته تضاهي في الأهمية ما كانت عليه عملية غزو العالم قديمًا».

ينطلق آلان تورين من هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 وتداعياتها كنقطة فاصلة بين عصرين، حيث دخلت أمريكا والعالم معها في مرحلة تاريخية جديدة، عنوانها البارز هو لغة الحرب، كتلك التي عاشتها أوروبا سنة 1914، تاريخ بدء الحرب العالمية الأولى، أي الدخول في مرحلة حرب الكل ضد الكل. ويرى تورين أن العالم سيدخل بعد 11 أيلول مرحلة مشابهة لهذه الأخيرة، «إذ أن أيلول/سبتمبر 2001 لا يشكل نهاية عهد وحسب، بل نهاية تصوّر معيّن، نهاية سير معيّن للمجتمع الأميركي والعالم كله. (..) إذا نظرنا إلى ما حولنا رأينا مجتمعات مدمرة، مشرذمة، مقلوبة رأسًا على عقب. ولقد كنا نعرف أن الحياة العامة تخضع لسيطرة الأهواء أكثر منها لسيطرة المصالح، لكن الأهواء باتت ترمي أكثر فأكثر، في عالم اليوم، إلى إنكار الأخر بدلًا من الدخول معه في صراع».

أصبحت حياة المجتمعات، حتى أكثرها وفرة وغنى وأشدها تعقيدًا وحصانة، مهددة منذ ذلك الحين بالخوف والعنف والحرب. وسطوة الخوف هذه الناجمة عن الشعور باقتراب النهاية والتهديد القاتل، جعلت من فكرة الحرب المقدسة التي ينبغي خوضها باسم الخير ضد الشر، فوق كل الحقائق الاجتماعية.

 

وتحت جلبة الحروب المقدّسة بات العالم في تراجع مستمر، وحيثما نظرنا نرى ملايين الناس المهجرة واللاجئة، يعيشون تغييرات جغرافية وسوسيو-ثقافية تدمّرهم أكثر مما تدخلهم في الحداثة. كما أدت هذه المتغيرات إلى تراجع المكاسب التي حققتها الحركات النقابية. ومن يقود صراعات التخلف هذه ليس الفئات الأشد فقرًا، بل تلك الأقدر على الضغط على الدولة. إن الطبقات الوسطى المهددة هي التي تقود صراعات التخلف أكثر من الطبقات الأشد فقرًا وضعفًا. ولعل من تداعيات كل ذلك أننا فقدنا المعنى في عالم اليوم. ولم نعد نؤمن بالتطور وإنما بتنا نشعر بالقلق والخوف من تفكك المدن والمناطق الريفية بفعل العنف الاجتماعي والحروب الجهادية.

وإلى التفكك والفصل الاجتماعي، يضاف تقهقر التنشئة الاجتماعية، أي أفول الاجتماعي، وتغلغل العنف بألف شكل وشكل في كل مكان، مطيحًا بكل المعايير والقيم «الاجتماعية»، وهذا يضيف صورة جديدة، هي «تزايد المطالب الثقافية، سواء بشكل طائفي محدَثّ أو بشكل دعوة إلى ذات فاعلة شخصية والمطالبة بحقوق ثقافية. لقد كنا بالأمس نتحدث عن فاعلين اجتماعيين وعن حركات اجتماعية، أما في العالم الذي دخلنا فيه فغالبًا ما يقتضي الكلام عن ذوات فاعلة شخصية و«حركات ثقافية»».

وفي المجمل، يتناول هذا الفصل من الكتاب ثلاثة موضوعات، هي: أولًا: التفكك الاجتماعي، وثانيًا: تعاظم القوى الموضوعة فوق المجتمع: الحرب، والأسواق، والطائفية، والعنف الشخصي والبين-شخصي، وأخيرًا: الدعوة إلى الفردانية بصفتها مبدأ لأخلاقية معينة. يقول تورين: «ولكن أليست هذه الموضوعات مترابطة؟ أليس أفول الاجتماعي هو الذي يؤدي إلى تفاقم العنف؟».

مع ذلك، فتورين ليس متشائمًا، فهو يرى أنه ورغم انتصار الفردانية المفككة فإننا نسعى إلى إنقاذ وجودنا الفردي المميز، ما يعمل على تكوين ذات فاعلة حرة عبر النضال من أجل تحصيل الحقوق، وأن هذه الذات الفاعلة تجهد من أجل إيجاد مؤسسات وقواعد قانونية تدعم حريتها وقدرتها الإبداعية، ومحط الرهان في هذا النضال هما العائلة والمدرسة. 

خلاصات 

ينتهي تورين في مؤلفه «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم» إلى خلاصات أساسية تساعد في فهم طبيعة التحول في المجتمعات المعاصرة.

- نقطة الانطلاق هي العولمة، التي ليست في عرفنا عولمة الإنتاج والتبادلات وحسب، بل هي شكل متطرف من أشكال الرأسمالية، بنوع خاص، يقوم على الفصل التام بين الاقتصاد وسائر المؤسسات التي لا يسعها ضبطها والتحكم بها، لا سيما الاجتماعية منها والسياسية.

- زوال الحدود هذا، من كل نوع، يجر إلى تفتيت ما كان يسمى مجتمعا.

- الانهيار المتلاحق لمقولات التحليل والعمل الاجتماعية ليس حدثًا غير مسبوق، فقد كنا، في بداية الحداثة، نتمثل الواقعات الاجتماعية ونعبر عنها بمصطلحات سياسية، كالنظام والفوضى والسيادة والسلطة والدولة والثورة. لم نستبدل بهذه المصطلحات السياسية، إلا بعد الثورة الصناعية، أخرى اقتصادية اجتماعية، كالطبقات والكسب والتنافس والتوظيف والمفاوضات الجماعية. لكن التغيرات الراهنة هي من العمق بحيث تقودنا إلى التأكيد أن براديغما جديدة هي في صدد الحلول مكان البراديغما الاجتماعية، كما حلّت هذه الأخيرة محل البراديغما السياسية.

- إن وقوف الفردانية منتصرة على أنقاض التصور الاجتماعي لوجودنا، يظهر هشاشة «أنا» تتبدل باستمرار بفعل ما تخضع له من مؤثرات. وإن تفسيرًا أكثر تأنيًا لهذه الحقيقة من شأنه أن يركز على دور وسائل الإعلام في تكوين هذه الأنا الفردية التي تبدو وحدتها واستقلالها مهددتين.

- على أن لهذه الفردانية بعدًا آخر، ألا وهو أننا، في مجتمع نخضع فيه لا لتقنيات الإنتاج وحسب، بل لتقنيات الاستهلاك والتواصل، أيضًا، نسعى إلى إنقاد وجودنا الفردي، المميز. وهو ازدواج خلاق يلد، إلى جانب الكائن الإمبريقي كائنًا حقوقيًا يعمل على تكوين ذاته فاعلا حرا عبر نضاله من أجل نيل حقوقه.

- لقد كان لدينا صورة عن قدراتنا الخلاقة، على الدوام، لكن، لطالما كان يتم إسقاط هذه الصورة ما وراء تجربتنا الخاصة. لقد اتخذت وجوهًا متتالية هي: الله، والدولة، والتقدم، والمجتمع اللاطبقي. أما اليوم فإننا مباشرة وبدون خطاب وسيط، نولي البحث عن ذواتنا أهمية مركزية. وإرادة الفرد هذه هي الذات الفاعلة. 

- إن وجود الذات الفاعلة كمبدأ تحليلي مشروط بشمول طبيعتها، فهي، كالحداثة، تقوم على مبدأين أساسيين: اعتناق الفكر العقلاني، واحترام الحقوق الفردية الشاملة، تلك التي تتخطى جميع الفئات الاجتماعية الخاصة. وقد تجسدت الذات الفاعلة أول ما تجسدت، تاريخيًا، في فكرة المواطنية التي فرضت احترام الحقوق السياسية الشاملة بغض النظر عن كل الانتماءات الطائفية. وأحد التعابير المهمة عن هذا الفصل بين المواطنية والطوائف هي العلمانية التي تفصل الدولة عن الكنائس.

- لقد كان النضال من أجل الحقوق الاجتماعية قائمًا في صميم الحياة الاجتماعية والسياسية خلال الفترة التي كانت فيها البراديغما الاجتماعية مسيطرة، أما اليوم فقيام البراديغما الثقافية، يضع المطالبة بالحقوق الثقافية في الواجهة، مثل هذه الحقوق، وإن كان لا يزال يجري التعبير عنها بالدفاع عن نعوت خاصة، تخلع على الدفاع المذكور معنى شموليًا.

- ينشأ على أنقاض المجتمع الذي زعزعته وهدمته العولمة صراع مركزي بين قوى لااجتماعية عززتها العولمة، كحركات السوق والحروب والكوارث المحتملة، من جهة، وبين الذات الفاعلة المحرومة من دعم القيم الاجتماعية التي تم القضاء عليها.

10- المعركة، رغم ما سبق، ليست خاسرة سلفًا، لأن الذات الفاعلة تجهد من أجل إيجاد مؤسسات وقواعد قانونية تدعم حريتها وقدرتها الإبداعية، ومحط الرهان في هذه المعركة هما المدرسة والعائلة.

- بالعودة إلى التاريخ، كان تاريخ التحديث الأوروبي يكمن في استقطاب المجتمع بتكديسه الموارد والثروات، على أنواعها، في أيدي نخبة معينة وتحديده سلبيًا الفئات المقابلة والمتشكلة دونيًا. لقد كان هذا النموذج من الفاعلية بحثًا غزا قسمًا كبيرًا من العالم. لكنه كان أيضًا، بحكم طبيعته هذه بالذات، حافلًا بالصراعات والتوترات.

- لقد كونت الفئات الاجتماعية الموصومة بالدونية، إبان هذين القرنين الأخيرين، ولا سيما فئة العمال، تليها فئة المستعمرين، والنساء في الفترة نفسها، حركات اجتماعية ترمي إلى التحرر. وقد تم للفئات المذكورة تحقيق الكثير من أهدافها، ما أدى، أولًا، إلى تخفيف التوترات الملازمة للنموذج الغربي، ولكن، أيضًا، إلى إضعاف دينامية هذا الأخير. والخطر يتهدد هذا القسم من العالم هو أنه لم يعد مؤهلًا لأن يضع نصب عينيه المزيد من الأهداف، ولا قادرًا على مواجهة صراعات جديدة.

13- لا مطمع لأي دينامية جديدة في أن تبصر النور إلا على قاعدة عمل قادر على إعادة جمع ما باعد بينه النموذج الغربي، بتجاوزه كل الاستقطابات. مثل هذا العمل بدأ يظهر من خلال حركات حماية البيئة، مثلًا، تلك التي تناضل ضد العولمة. لكن الفاعلات الرئيسات لهذا العمل، الآن وغدًا، هن النساء، لأنهن يشكلن، بفعل الهيمنة الذكورية، فئة دنيا، ويتولين قيادة عمل أشمل من معركتهن التحررية، يتمثل في التأليف بين كل التجارب الفردية والجماعية 

عن موقع حبر