• 22 تشرين الثاني 2017
  • ثقافيات

 

بقلم : أمير تاج السر 

في كتاب «داخل المكتبة.. خارج العالم»، الذي ترجمه السعودي الشاب راضي النماصي، وصدر عن دار «أثر» في الدمام منذ فترة، يمكنك أن تستريح كثيرا إلى نصوص بالغة الجمال وشديدة الفائدة، لكتّاب كبار من الجيل القديم، وضعوها في شأن القراءة، وأدلى كل منهم بما يراه مناسبا بحسب خبرته، في هذا الشأن الذي لا يزال محيرا، على الرغم من أن الكتابة عموما قطعت أشواطا كبيرة، وبالتالي قطعت القراءة أشواطا مشابهة لتلحق بما يكتب، خاصة في الغرب، حيث لم تعد القراءة عشوائية، بل انتقائية، وذات منهج متزن في الغالب. 

في كتاب «داخل المكتبة.. خارج العالم»، نصوص للإنكليزية فرجينا وولف والأمريكي هنري ميلر وغيرهما، من الذين عاشوا في عصر ذهبي من عصور الإنسان، قبل أن تخترع التكنولوجيا، ذلك الانتحار المزمن الذي طاول كل الأشياء الجميلة، الخاصة بالإبداع والمبدعين، بدءا من متعة احتضان كتاب، إلى متعة البحث المضني، عن كاتبك المفضل في مقاه ربما يرتادها أو صحف ومجلات ربما تسكنها صوره، أو احتفاءات هنا وهناك قد يكون ضيفا فيها، وقد كانت المقاهي بالذات أماكن مرغوبة ومدهشة للكتاب والقراء معا، فيها حلقات فكر وفن، وتخرج منها تجارب مهمة على كل الأصعدة، ولطالما سمعنا بكتاب، لا تأتيهم الأفكار الملهمة، إلا وهم يجلسون في مقاه، قد تكون ضاجة، لكن ضجيجها، لا يطمس الأفكار، ولا يلغي توارد اللغة إلى الذهن.

وعلى الرغم من أن فرجينا وولف عاشت في ذلك الزمان، وكتبت ما اعتبر أدبا حداثيا في حينه، ويعد الآن من الكلاسيكيات بلا شك، بعد تغير أسس الكتابة وتفرعاتها، إلا أن نصها أو مقالها عن القراءة، كان في غاية الإمتاع والثراء ومواكبا جدا، وناصحا أيضا لمن أراد القراءة في يومنا هذا. هي تذكر عذابات الكتابة عندها وعند غيرها من المبدعين، وكيف يلم الكاتب نصوصه من كل ما يمكن لمه، وما لا يمكن لمه أيضا، من الطبيعة والحياة، والزمن والموت ومعطيات أخرى كثيرة، وحتى روائح الأشياء وصلادتها أو ذوبانها، وعلى القارئ أن يشارك الكاتب بهجته أو حزنه بالنص المنجز، لا يوجد كاتب يستطيع أن يتقدم خطوة بلا قارئ جيد، ولا قارئ جيد، يستطيع تجويد قراءاته أكثر بلا كاتب جيد.

حوار الكاتب والقارئ الأزلي أيضا تعرضت له، وعلى القارئ أن يسأل نفسه مرارا لماذا يقرأ، مثلما يسأل الكاتب نفسه من حين لآخر: لماذا يكتب؟ هي تعتقد في المعرفة والمعلومات التي يمكن تجميعها من الكتب، المبعثرة في المكتبات وذلك فقط إذا أعيد ترتيبها، بحيث يبقى الجيد بعيدا عن غير الجيد، ويبدأ القارئ خطواته في تجميع تلك المعرفة. الخطوة تبدأ من المكتبة، من الكتب المكدسة على رفوفها، ومن ثم ينطلق القارئ.

أظنني أتفق مع هذا الرأي كثيرا، وقد أشرت مرارا إلى ألا ضرورة لسؤال الكاتب في أي فرصة نجده فيها: لماذا تكتب؟ ولكن المنطقي هو تتبع كتابته واستخلاص النوايا الطيبة منها، واستخلاص الخبرة والمعرفة أيضا، والمشاركة الفعلية في ترقية نصوص الكاتب، بالثقة فيها، واعتبار ما تحمله داخلها أمرا ليس مقدسا بالتأكيد، ولكنه نتاج من الواجب احترامه، وإن تمت مناقشته، فلتكن بهدوء واتزان. لا حاجة لك للصياح في وجه كتاب لأنه لم يعجبك، ولا ضرورة، لسب الكاتب لأن ما طرحه من أفكار، لم يناسب ما كنت ستطرحه، لو كتبت.

فيرجينا تحدثت عن الأدب الرديء أيضا، هي تقول بأنه مضيعة لوقت الناس، الذين ينفقون فيه ساعات وأياما ولا يخرجون بشيء وربما سمم لديهم إحساس المتعة وحب المعرفة وهجروا القراءة إلى غير رجعة.

كانت فيرجينا تتحدث عن أدب رديء، في زمن لا يوجد فيه أي أدب رديء ظاهر كما أعتقد، فالذي وصل إلينا وقرأناه كان أدبا عظيما كله، ولا بد أن غيره لم يبارح أوراق كتابته، ذلك أن نشر كتاب في ذلك الوقت والعثور على متلق له، كان من الأشياء الصعبة للغاية، وبالتالي لن يغامر أحد بخسارات كثيرة من أجل ما لا يتوقع وصوله للناس واستحسانهم له.

لذلك ظهرت فيرجينا وولف، وظهر توماس هاردي، ثم ظهر أنطون تشيكوف وتولستوي ودوستوفسكي وكافكا، وكل تلك الأقمار التي أضاءت وذهبت لكن الضوء ظل باقيا.

الآن ومع هذا الكم الكبير من الأدب الرديء، أو لأسميه: الأدب الناجم عن رغبة في أن يصبح الناس أدباء، بلا مقومات، يمكننا أن نقول بأن وقت من تبقى من القراء يضيع مؤكدا وبلا أي معرفة أو متعة سيتم الحصول عليها لأن لا معرفة في الأساس. الرديء يأكل الجيد، والناشرون يبالغون في النشر ومعارض الكتب تبالغ في عرض ما يصلها من أي شيء، في أي شيء لدرجة أن تعثر على كتب لها أسماء لا تعرف كيف تنطقها أصلا،، وتتحدث عن مواضيع، قد تكون مهمة ولكن سوء التعبير يفسد أهميتها. وأيضا تلك الغابة من حفلات التوقيع التي تشق تشابكها، ولا تعرف، من يوقع، وماذا يوقع.

وعلى الرغم من ذلك، فأنا شخصيا لا أعتبر الأدب الرديء خطرا لدرجة بعيدة، هو محاولات قد تنجح وقد تخيب وقد تتطور إلى أدب جيد في المستقبل إن أراد أصحابها أن يتطوروا.

نص هنري ميلر في كتاب المكتبة، أيضا كان عظيما وجميل المفردات ويحتفي بالقراءة من كل أوجهها، تلك التي تؤدي كعادة يومية والتي تؤدي حين تسنح الفرص وثمة إجماع من كل من وضع نصا في الكتاب بأهمية القراءة للمجتمع، إنها المنفعة التي ما بعدها منفعة. إذن داخل المكتبة، المكتبة المرتبة والمبوبة جيدا، بالتحديد، يُصنع عالم ثري مواز للعالم الخارجي، عالم يمكنك أن تتحدث فيه مع شخصيات الكتب، تحاورها وتحاورك، تستلهم منها الأشياء المفيدة وتترك ما لا تجده مهما. هذا بالضبط هو خارج العالم الذي قصده العنوان، لأن العالم هنا أجمل من العالم الحقيقي المعيش.

 عن القدس العربي