• 14 كانون أول 2017
  • ثقافيات

بقلم : رزان ابراهيم 

■ اللافت في رواية «زمن الخيول البيضاء» لإبراهيم نصر الله أنها تشكل مرجعا حقيقيا يساعد متلقيها على تأمل القضية الفلسطينية، خصوصا أنها تصدر عن روائي عاشت فلسطين فيه وتغلغلت، بل شكلت من منظوره امتحانا لضمير العالم. كذلك قدرته على ضبط المرحلة التاريخية، ساعده عليها انغراسه الواضح بين المصادر والمراجع والصور والحكايات الشعبية. كما لا يفوتك هذا التوغل العميق في عادات وتقاليد المجتمع الفلسطيني. ويبدو من غير الصعب لقارئ هذه الرواية التفلت من إحساس بأنه في العمق من أدب قائم على معرفة مستقاة من الوعي السياسي، يقتاده بكثير من الحنكة والذكاء، باتجاه رحلة مشبعة بالمسالك العويصة، كما هي رحلة الفلسطيني المشبع بالوطن بكل ما اعتراها من اختلالات فكرية اجتماعية ماضوية، ما زالت تلقي ظلالها على حاضرنا اليوم، فلا غرابة لو قلنا إن التصوير الإبداعي لنصر الله في هذه الرواية، يدفع باتجاه تنويري يضع المتلقي أمام مسؤوليته تجاه فلسطين، ويمنحه قناعة قوية بعدالة القضية الفلسطينية من خلال روابط عقلية ممتزجة بأخرى عاطفية.

الأدب والتأريخ

يبقى أن التحدي الأكبر الذي يمكن أن يجابه كاتب الرواية، خصوصا المنخرط في قضية لها أبعادها التاريخية، هو مسألة عدم التفريط باشتراطات الخطاب الأدبي الصعبة، درءا له من مغبة الوقوع في مطب الخطابات الجافة المباشرة. وهو ما نجح فيه إبراهيم نصر الله، الذي تبنت روايته شكلا دراميا عبرت عنه شخوص إشكالية بأبعاد نفسية واجتماعية مركبة. وما دمنا نتحدث عن اشتراطات الخطاب الأدبي، فنحن بالضرورة نبحث عن الفكرة الجمالية داخل هذا الخطاب. فإن كانت الرواية تحكي تاريخ الشعب الفلسطيني فترة أواخر عصر الدولة العثمانية، إلى فترة تسليم الإنكليز فلسطين إلى الدولة الصهيونية، فإنها تتلمس خطابا أدبيا تحضر فيه الكائنات الخيلية بتواتر مدروس ضمن خطة جعلت منها مثيرا سرديا يخاطب الحواس، وعليه فإن الخيل في الرواية لم تبرز بسمتها الدلالية الساكنة، بما يبقي القارئ في طور التعرف عليها شيئا فشيئا على امتداد صفحات الرواية، وهو ما يتوافق مع ما ذهب إليه الشكلانيون من أن الشخصية مظهر لساني تتفكك بموجبه إلى دال ومدلول، لذلك تبدأ «الفرس/الحمامة» مورفيما فارغا يمتلئ تدريجيا بالدلالة كلما تقدمنا في القراءة.

الكون الصوفي

إن المدقق في القراءة يصبح بإمكانه ملامسة ما يسميه ليفي بروهل «مشاركة صوفية»، تحمل في طياتها إمكانية عقد صلات بين الإنسان والحيوان، وهو أمر له قيمته من حيث تعزيز التعالق الوشيج بين عناصر النص، حيث يرتبط البشري بغير البشري، بما يذكرنا بفكرة الشاعر روبنسون جيفر، حول مذهب يزيح التركيز من الإنسان إلى غير الإنسان؛ أي نبذ الأنوية البشرية والاعتراف بجاذبية ما يتجاوز البشري . وبإمكاننا تمثل هذه المشاركة من خلال الوقفات التالية .. في لحظات الحزن مثلا «كانت ينابيع الدمع قد انفجرت في عيني خالد، كما في عيني الحمامة»، وعليه حضرت الحمامة لتكون علامة صادقة عن مكونات الحدث النفسي الداخلي وكذلك الخارجي وعلى الأخص في ما يتعلق ببطل الرواية الرئيسي «خالد». وحين حلم «خالد» بأن مولود الحمامة الذكر قد مات فإن هذا كان ينبئ بآت مفجع. وهو ما أصبح حقيقة حين تلاشت الأحلام البيضاء بمقدم اليهود، حين فتح لهم الإنكليز كل السبل لاحتلال فلسطين. وهو ما يحضر في إطار إحاطة القارئ بأجواء تناسب ما هو آت من أحداث، بما يتماشى وما نعرفه من أن العين الواصفة هي عين السارد العالم بكل شيء، وحاضر في كل مكان وزمان. كذلك قبيل اختفاء الحمامة شوهدت وهي تعدو بكل جنون، وتناقل الناس أنها كانت تنتظر « خالد» كي يترجل عنها، ولما خاب ظنها بدأت تبكي، بل إن من أهل الهادية من رآها عند قبر «خالد» على التل البعيد. وما إن بدأوا بمغادرة بيوتهم حتى تراءى لهم طيف الحمامة البيضاء، الذي ما كان يظهر إلا ليعود ويختفي. ومع الهزيمة النهائية شوهدت الحمامة أبعد مما كانت في أي يوم مضى. وأخيراً حين نرقب حركة الخيول نجد أنه بمرور الزمن لم تعد تظهر سوى الفرس الرمادية التي لم تشبه الحمامة أو حتى الكحيلة، مع أن سكان الهادية ظلوا في حالة انتظار لظهور هذه الحمامة من جديد. ولهذا دلالته الواضحة. فنستنتج مما تقدم أن حركة الخيول وصهيلها واندماجها مع الثوار في قرية الهادية الفلسطينية يظهر على نحو مدهش في الرواية، لنكون مدفوعين إبان هذه الصور الرامزة المختارة بعناية باتجاه حكايات من شأنها إعادة بعث الطفل في داخلنا من جديد، كمعتقدات طفولية، تسمح بتصديق المحكيات الروائية، مع كثير من الانفعالات تصلنا من خلال صور فنية وروابط استعارية مرتبطة بحركة الخيول، بما يمكن اعتباره عنصرا فاعلا في مؤازرة بنية النص والعمل على مد خيط تنتظم داخله الحكايات المتنوعة، التي حفلت بها الرواية.

ثالوث الجمال الفلسطيني

تتعمق الفكرة الجمالية أكثر في هذه الرواية من خلال ثالوث «المرأة، الوطن، الفرس» الذي ظل حاضرا تحتضنه مظلة واحدة يصعب على القارئ أحيانا فصل الواحد منها عن الآخر، ومع هذا الثالوث بدت في عائلة الحاج محمود سرقة الفرس، كما سرقة الروح لا يجوز السكوت عن ضياعها، ولو ضيعت فلزام تكريس العمر بحثا عنها، أما إهانة الفرس، فكما هي إهانة المرأة، والقاعدة تقول: «صنها تصنك، وراعها برفق تكن حصنك» كما هو الحال في التعامل مع المرأة، لذلك كنا نرى الحاج محمود وقد تعامل مع الحمامة كواحدة من بناته. ومن هذا الباب يختلط على القارئ وصف للحمامة بدا وكأنه لامرأة، كما حين بدت تسير مثل بنت صغيرة فرحة بجديلتها، أو حين نقرأ عن عنقها الطويل، أو عينيها المضيئتين بالرغبة، أو حتى حين ينقل لنا الراوي إحساس خالد بدفء أنفاسها، وغيرها من أوصاف تتكرر، ليتصاعد هذا التوحد أكثر وأكثر مع اعتقاده أن ياسمين المرأة التي أحب هي الحمامة نفسها. ومع هذه المشاهد المتتالية نتلمس اندماجا مباشرا بين المشبه والمشبه به يصعب معه الفصل بينهما. في هذا العمل الضخم كانت الفرس حاضرة بالاتساق مع معاني الصراع التي غزت الرواية. ومن هذا الباب تظهر محاولة اغتصاب الحمامة من قبل فحل من الخارج أو الحصان حالة موازية أو مناظرة لحالة اعتداء على شرف فتاة، التي لا تختلف عن حالة يعتدى فيها على الوطن، فلا غرابة إذن أن يحافظ خالد على الحمامة حين أريد لها غصبا أن تكون هدية للوالي بدل الضرائب المستحقة على البيت، ويفكر بأن « العاشق لم يكن أقل في معركته من أجل عشقه من معركته من أجل فرسه». 
هذه التقابلات الثنائية بين الشخصيات التي تقع في دائرة العلاقة مع الفرس، وعليه فإن «الهباب» هذه الشخصية الكريهة الذي راودته فكرة اختطاف الحمامة، لم يلق من سكان الهادية سوى الاحتقار والبغض، وهو الشعور ذاته الذي واجهه به «الأدهم» حصان «ريحانة» المرأة التي اتخذها زوجة له رغما عنها، وكنا على مدار عدة محاولات نرقبه وقد فشل في محاولاته المستمرة وضع سرج على ظهره منذ وضعت ريحانة هذا الأمر شرطا لقبوله، إلا أنه هرم وشاب قبل أن يتمكن من امتطائه ليحضر «الأدهم» بديلا عن زوج كان قد توفي غيلة، وليكون مصيره كما مصير هذا الزوج تماما. وهو ما يؤكد أن مواضيع النساء لا تنفصل بحال من الأحوال عن مواضيع البنى الاجتماعية والسياسية القائمة في العالم، بل نستطيع من خلال هذه الرواية القول: إن أدبا كالذي يقدمه إبراهيم نصر الله، وإن كانت الصورة القائمة عنه أنه ميدان ذكوري ـ بمعالجته أحداث الصراعات السياسية المحتدمة بين الأطراف ـ يصبح ميداناً أنثوياً حين يعالج تأثير هذه الصراعات السياسية في المجتمع الإنساني، وهو ما ظهر لدينا من خلال الربط السابق بين سلوك الرجل السياسي، وسلوكه الاجتماعي والشخصي، اللذين لا ينفصلان بحال من الأحوال. وهنا تكمن أهمية قراءة تنظر في صور رامزة نتلمس من خلالها خيطاً يجمع حوادث منفصلة بخطوات متلاحقة في عملية تطور منظمة، ليكون في النهاية كل تفسير هو فرضية ومحاولة قراءة نص، بما يؤكد حتمية الولوج في مسألة الإدراك الجمالي غير المنفصل عن عملية تفسير لعمليات ذهنية استهلها الروائي عن قصد وعمد، موجهاً إياها إلى قارئ يسعى من جديد إلى إبداع النص حين يسعى إلى ملء أكثر من فجوة مبرمجة من طرف النص نفسه.

عن القدس العربي