• 22 كانون الثاني 2018
  • ثقافيات

 

 

بقلم : عزيز العصا

 

لا شك في أن المشهد الثقافي المقدسي يعاني شظف الوجود والبقاء، فالتهويد الذي يلتهم كل ما تصل إليه يد الاحتلال من مكونات هذا المشهد المادية وغير المادية، من عمرانية وتراثية وحضارية، وكل ما يتعلق بالحياة اليومية للمقدسيين. ولكن، بالمقابل، هناك حالة من الصمود والمواجهة يقوم بها المقدسيون، فرادى وجماعات، رغم ما يعتريهم من ضعف الإمكانيات والقدرات، والانعزال عن محيطهم الوطني والقومي، مقابل احتلال يمتلك أشكال القوة والدعم والإسناد الدولي على الأصعدة كافة.

هنا، لا بد من التوقف لكي ننظر مليًّا في الخطوات التي يمكن القيام بها من قبل صانع القرار الفلسطيني والعربي والإسلامي وعلى مستوى المنظومات الفكرية والمنظمات الإنسانية التي تؤمن بحق الفلسطينيين في عاصمتهم المحتلة، التي "يُفتَرض" أن تكون محميّة بالقوانين واللوائح الدولية التي تمنع الاحتلال من العبث في المخزون الحضاري والفكري والثقافي بشكل عام للبلد الواقع تحت الاحتلال!

لأن الشأن الذي نتحدث فيه ثقافيّ، فإن الأنظار تتجه نحو جهة الاختصاص، وهي: وزارة الثقافة الفلسطينية ودورها في المحافظة على المشهد الثقافي المقدسي. كما تتجه الأنظار إلى الجهات والمؤسسات العربية ذات الصلة بالثقافة وشئونها وشجونها، مثل: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإيسيسكو) وغير ذلك من المنظمات والمؤسسات.

كشاهد من داخل الحدث، أردتُ في هذه العجالة التحدث عن فعل جاد وفاعل قامت به وزارة الثقافة مع "الألكسو" في أواخر العام المنصرم. إذ شهدت الدار البيضاء في المملكة المغربية الشقيقة نشاطًا مكثّفًا يتعلق بالشأن الثقافي العربي، وهو ملتقى بعنوان: صياغة رؤى للعمل الثقافي العربي (خلال الفترة 28-30 تشرين الثاني، 2017). وقد مثّل دولة فلسطين في هذا الملتقى السيد "جاد عزت الغزاوي" مستشار وزير الثقافة للشؤون العربية والإسلامية، وبترشيح من السيد جاد وصلتني دعوة من "الألكسو" لتقديم مداخلة حول "آفاق العمل الثقافي العربي للحفاظ على الطابع العربي والاسلامي للقدس".

  انعقد الملتقى وناقش المحاور التالية: تطوير العلاقات الثقافية العربية البينية والتثّاقف العربي-العالمي، تطوير السياسات الثقافية العربية القادرة على مواجهة التحديات الراهنة، وضرورة حماية اللغة العربية وتوسيع مجالات استخدامها وانتشارها، والعمل على النهوض بالتراث الثقافي العربي. بالإضافة إلى ذلك كله، حظيت القدس باهتمام فوق العادة من الحضور، حتى أنها انفردت بمحور خاص بها.

  قبل الغوص في تفاصيل محور القدس، وماذا جاء فيه من توصيات، لا بد من الإشارة هنا إلى ما تميّز به الوفد الفلسطيني في هذا الملتقى من رجاحة التصرف، ودقّة الطرح، والقدرة على تركيز النظر في القضية الجوهرية للقدس، بعيدًا عن التقليد الذي ينظر إلى المساعدات المالية، سواء بالتلميح أو بالتصريح. فقد أعلن الغزّاوي، من خلال كلمة مكثّفة، وبكلمات واضحة، أن "فلسطين لم تأت هنا لكي تطلب مالًا لحماية المشهد الثقافي المقدسي"؛ وإنما تطالب الأشقاء العرب بدعم معنوي والوقوف بقوة واقتدار إلى جانبها في مواجهة المخططات الاحتلالية، وأن تكون "القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية" مظلة للمؤسسات الثقافية المقدسية. 

بعد استعراض المشهد الثقافي المقدسي، الذي انتهى بعدد من التوصيات، اعتمد الحضور التوصيات التالية:

− اعتبار كلّ ما يُوجد في القدس ثروة ثقافية قومية، تخصّ الأمّتين العربية والإسلامية، وحثّ المنظمات والمؤسّسات الدولية المختلفة، مثل اليونسكو وغيرها، لحماية هذا الموروث، ومنع الاعتداء عليه.

− ضرورة الرّصد، سنويًا، لمكوّنات المشهد الثقافي المقدسي التي يتمّ المساس بها؛ بمصادرتها و/أو تهويدها من قبل سلطات الاحتلال وتطوير آليات المتابعة لما يجري في القدس، عبر شبكة اتّصال وتواصل إعلامي عربي؛ لكي تُبقي على كلّ ما يجري في القدس تحت الضوء.

− مُواجهة التّهويد العمراني؛ بترميم المباني القديمة، ومتابعة أي مبنى مُهمل، وتأهيله للاستخدام من قبل المقدسيّين. والعمل على حصر الوقفيات في القدس، وتوثيقها وتسجيلها ومتابعتها.

− إعادة كتابة "تاريخ القدس"، بموضوعية ومنهجية علمية دقيقة، بعدة لغات، للتصدّي للادّعاءات الإسرائيلية وإعادة طباعة الكتب "القيّمة"، ذات الصلة بالقدس ومشهدها الثقافي؛ بأبعاده المتعدّدة.

− المحافظة على ما تبقّى من المخطوطات المقدسية؛ بترميمها وحفظها، باعتبارها من أبرز الشواهد على عروبة القدس، لا سيّما وأنّ غالبيّتها موجودة في ظروف سيّئة من حيث الحفظ.

− تطوير برامج أكاديمية في الجامعات العربية، على مستوى الماجستير والدكتوراه، للدّراسات المقدسية، وغير ذلك من المشاريع البحثية العلميّة، التي تتناول موضوع القدس.

− إطلاق موقع إلكتروني بعدّة لغات وإتاحته للباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي في القدس والأراضي العربية المحتلّة.

− إطلاق مشاريع وأنشطة عربية وإسلامية مشتركة لفائدة القدس والتراث العربي الإسلامي بها، تزامنا مع الاحتفاء بالقدس عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2019، وإعلان 2019 سنة للتراث في العالم الإسلامي.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما انطلق "جاد عزت الغزاوي" للمشاركة الفاعلة في اجتماع اجتماع اللجنة الدائمة للثقافة العربية، ممثلًا للجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية؛ في إطار الإعداد للدورة الواحدة والعشرين لمؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي التي ستستضيفها جمهورية مصر العربية خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2018. فكان من أبرز نتائج هذا الاجتماع اختيار الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش: رمزا للثقافة العربية لعام 2018.

لم تكن تلك التوصيات، التي جاءت قبل قرار ترمب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، مجرد ترف فكري، وإنما هي مادة للتحدث والتقرير حولها خلال مؤتمر القمة الثقافي العربي الأول المنوي عقده في هذا العام (2018). وعليه؛ فإن قراءة متمعنة للتوصيات المتعلقة بالقدس، المذكورة أعلاه، تجعلنا ندرك حجم المسؤوليات الكبرى التي وضعتها وزارة الثقافة الفلسطينية أمام وزراء الثقافة العرب، لعلّ أكثرها عمقًا ووضوحًا ما يشير إلى اعتبار المخزون الثقافي والحضاري والتراثي في القدس ملك الأمتين العربية والإسلامية، بل ملك الإنسانية جمعاء؛ لأن التراكم الحضاري في القدس على مدى يتجاوز العشرة آلاف عام، شمل غالبية أمم الأرض، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. 

في حال انعقد هذا المؤتمر، واعتمد هذه التوصيات، فإنه لا بد من التوقّف عن اعتبار القدس مجرد مدينة فلسطينية محتلة، إلى جانب المدن الأخرى المحتلة، وإنما يصبح من الواجب على المسؤولين عن الشأن الثقافي في الأقطار العربية التوجّه الجماعي إلى المنظّمات الدولية، والتأكيد على أن القدس هي عاصمة لنحو ملياري عربي ومسلم. كما أنه عليهم الرد على قرار ترمب بإعلان القدس عاصمة لدولة فلسطين، والعاصمة الروحية والفكرية والحضارية للأمتين العربية والإسلامية. 

وفي جميع الحالات، يبقى المشهد الثقافي المقدسي، الذي يتصدى –بما يمتلك من إرادة- للتهويد والأسرلة والعبرنة وكل أشكال الجوْر والظلم، بانتظار الفعل الثقافي العربي!

عن القدس