• 12 نيسان 2018
  • ثقافيات

 

 

 بقلم : ابراهيم خليل 

 

من المؤسف أن نجد كثيرا ممن يطلق عليهم من باب التسامح مصطلح روائيين لا يترددون بين الحين والآخر في الخوض خوضا عميقا في مستنقع التجريب، فينشرون نتائج ذلك على هيئة روايات وهي ليست كذلك. وعندما يفرغ المرء من قراءة الكتاب الموسوم بعنوان «مجانين بيت لحم» (نوفل، بيروت، 2 ط،2015) وتجاوزه لما هو مطبوع على الغلاف الأنيق، من لفظ صريح يحدد جنس الكتاب، وينسبه حصرا لجنس الرواية، وبتجاوزه أيضا لما ذكر من أن الكتاب فاز بجائزة الشيخ زايد ـ فئة الآداب لعام 2015 يجد نفسه مضطرا للتساؤل الآتي: ما الذي يميز الرواية عن غيرها من الفنون الأدبية السردية أو المقالية؟ وهل كل ما يروى هو بالضرورة رواية؟ دعونا- إذن- نعرف الرواية، ونتذكر بعض ما يتصف به الجنس الروائي من مزايا تجعل منه فنا أدبيا مستقلا عن غيره من فنون الأدب عامة، وعن القصص بوجه خاص.

ثمة من يعرّفون الرواية تعريفات شتى، بعضها يناقض بعضها الآخر، أو يختلف معه يسير الاختلاف. بيد أننا ننطلق في هذه الوجازة من تعريف نرى فيه تعريفا جامعا مانعا وفقا لفلاسفة المنطق، وما يذهبون إليه، ويلهجون فيه، فالرواية في رأينا حدثٌ، أو أحداث متخيلة تقع لمجموعة من الشخوص المتخيلة في مدة زمنية ما، وفي فضاء مكاني ما، في الحدود التي تسمح بها أداة التعبير، وهي اللغة.

وقد يحتاج هذا التعريف الذي نجده في كتاب « الزمن والرواية « لمندلاو، إلى شرط آخر، وقيد لا بد من التنويه به، والتنبيه اليه، وهو وجود الراوي، الذي يروي الأحــــداث ملتزما بمبدأ أن لكل حدث جديد سببا، فالأحــــداث التي تقع فجأة دون تفسير أو تعليل واضـــح يجــــعل منها وقائع زائفة، تتأبى على قانــــوني الاحتمال والضرورة، لذا تضعف الرواية، وتجعلها قريبة قربا شديدا من (السواليف) التي يتداولها عامة الناس في مناسبات عديدة يحلو فيها السهر والسمر.

ومن يقرأ «مجانين بيت لحم» لا يُنكر أن في هذا الكتاب السردي راويا، وأن هذا الراوي ـ في كثير من الأحيان- هو المؤلف نفسه، وهو يذكر ذلك صراحة غير مرة بعبارات من مثل: وأنا أحضر لكتابة هذه الرواية، و.. وأنا أروي هذا بصفتي راويا كلي المعرفة.. ولا يعرف شيئا عما يرويه.. إلخ.. ولكن هذا الراوي يحاول كتابة هذه الرواية مستعينا برواة آخرين، بعض هؤلاء الرواة من أصدقاء الراوي المؤلف، وبعضهم من المؤرخين، أو مؤلفي كتب المذكرات والصحافيين.. الذين استعان بما كتبوه، ودونوه، عن بعض المجريات، وضمنه نسيج الأخبار التي جمعها، وكدسها في فصول الكتاب التي يقارب عددها الأربعين فصلا، بعضها في أقل من صفحة واحدة.

ولا ننكر أن وقائع ما يجري لشخوص هذا الكتاب، وهم بعدد أكبر بكثير من عدد الفصول، تجري في فضاء مكانيٍّ بؤرته مخيم الدهيشة، ولكن الأمكنة التي تحيط به تؤدي دور البيئة الحاضنة لكثير من هاتيك الحوادث، وما يتعلق بها من تفاصيل، ولا سيما بيت لحم، والخليل، والطريق فيما بينهما، وطريق القدس بيت لحم و.. و.. إلخ. وقد تقع بعض المجريات في بيروت، ودمشق، وفي حيفا، ويافا، وغيرها كعمان في الأردن. وذلك لما يتطلبه قدوم بعض الأشخاص، أو سفرهم، أو تجوالهم، بين مدن شتى، وأماكن متعددة، ومتفرقة. 

وعلى هذا الصعيد لا ننكر أيضا أن المؤلف- أسامة العيسة- قد ساق لنا أحداثا يقع أقدمها في القرن التاسع عشر كقدوم إبراهيم باشا في حملته العسكرية على بلاد الشام عامة، وفلسطين خاصة سنة 1831 وبعد ذلك زيارة غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا للديار الفلسطينية المقدسة نحو عام 1898إلا أن هذه السلسلة من المشاهد، والشخصيات، والحكايات المجزأة، التي يوحدها أنها جميعا تروي بعض غرائب المجانين، أو العقلاء الذين لا يستطيع الراوي التفريق بينهم وبين المجانين، تفتقر للحد الأدنى من الترابط، والتماسُك. فليس في الكتاب السردي هذا حدث مركزي تجتمع حوله وتدور المتواليات السردية الكثيرة جدا، التي تروي وقائع جرت في المجمل في نحو قرنين من الزمان. بعضها أصبح من التاريخ المحض، كحملة إبراهيم باشا، وزيارة غليوم الثاني، وبعضها آنيٌ، كالحديث عن وزارة سلام فياض، أو « بوتين مرَّ من هنا «، « أوالروس قادمون». 

فالقارئ لا يستطيع أن يجيب عن سؤال افتراضي من مثل: ما الذي يريد المؤلف قوله في هذه الرواية؟ أو ما الحكاية التي استحالتْ في هذا اللون من السرد شبه القصصي لنوع أدبيّ يسمى رواية؟ وذلك لو أنه حاول أن يلخص أحداث الكتاب فيما يمكن تسميته موجزا لحكايةٍ ما لما استطاع. ومنتهى ما يستطيع قوله هو أن هذا الكتاب لا يتعدى كوْنه « عرضَ حال» لوطن دمَّره المحتلون، ووقع المفاوضون على بيّع ما تبقى منه، فهو إذا جاز التعبيرُ يروي نتفا ومتتاليات عن الشأن الفلسطيني بعضه أقرب إلى التنكيت، وبعض أقرب إلى التبكيت، يجمع فيه بين الجدّ، والهزْل، على طريقة كتّاب المقامات ممن يدفعون بهذا الأسلوب الساخر السأم عن القارئ.

وعلى أي حالٍ، إذا أريد بالشخصيات في هذا الكتاب أن تكون شخصيات روائية كتلك الشخصيات المشهورة التي يعددها القارئ مما يتذكره من أبطال الروايات العالمية؛ كإيما في مدام بوفاري لفلوبير، أو ديفيد كوبرفيلد، أو أوليفر تويست، لديكنز، أو كمال عبد الجواد في ثلاثية محفوظ، أو ديمتري في الأخوة كارامازوف لدستويفسكي، أو سعيد مهران في اللص والكلاب رائعة نجيب محفوظ، أو أبي النحس في رائعة إميل حبيبي، أو سراب عفان، ووليد مسعود، في روايتي جبرا، فإن هذا يبدو مضحكا باعثا على السخرية. فشخصيات هذا الكتاب بدءا بشخصية إبراهيم باشا، وغليوم الثاني، ومرورا بجبرا إبراهيم جبرا، وهشام شرابي، ووالد الراوي الذي جعل من سرواله علما في حزيران 1967، ومريم العسلينية، وسلوم، وسليمة، وأبي عصري، والعبد علوي، وبهيجة صبري، إلى آخر هذا الألبوم المتعدد الصفحات، المملوء بالصور الفوتوغرافية… شخصيات ليست روائية.. ولا تربطها علاقاتُ توافق، أو صراع، كالتي نشهدها في الحياة اليومية، التي تعبر عنها الروايات، والقصص في العادة.

فالكاتب العيسة يتناول في فصل من الفصول جنون إحدى الشخصيات، ثم ينتقل ليحدثنا عن مجنون آخر، أو مجنونة أخرى، في فصل تال، وهكذا تختفي الشخوص، فلا يعود إلى ذكرها مرة أخرى، باستثناءات قليلة جدا لا تترك أثرا في الحكاية، مما يؤكد أيضا غياب الترابط بين متواليات هذا الكتاب السردي. والإطار الخارجي لها هو الدهيشة، وهو إطار لا ينمُّ عن تفاعل المواقف، والشخوص فيما بينها تفاعلا يؤدي لشيء من التماسك النصي. فلو حذف القارئ من الكتاب عددا من الفصول متتابعة، أو متفرقة، ثم أعاد قراءته، فمن المؤكد أنه لن يحسَّ بأي فرق بين النسختين. فهو على سبيل المثال، وليس الحصر، يروي لنا بعض مظاهر الجنون لسيدة اسمها أميرة علاء الدين محمد في الفصل (24) (ص162) وهي في رأيه قصة نموذجية تتعلق بالنساء حصرا (ص163) وهذا لا مرية فيه، ولا خلاف، ولكن ما علاقة هذه القصة بحكاية شفيقة المصري المجنونة في الفصل 25 (ص170) وما علاقة جنون شفيقة هذه بجنون رفقة علي، التي جاءت إلى مخيم الدهيشة من غزة 1967 لتزيد عدد المجانين في المخيم واحدا؟(174)

ويستطيع القارئ أن يواصل تصفُّح هذا الكتاب الساخر عن رجال، ونساء، هم في رأي الراوي مجانين على طريقة الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري المتوفى سنة 406هـ في كتابه «عقلاء المجانين «.

بيد أن المؤلــــف أسامة العيسة زاد على ابن حبيب هذا، فأضاف إلى دائرة السؤال شخصياتٍ سياسيَّة من مثل: (الختيار) وهو يُكني بهذا اللفظ عن ياسر عرفات، ومن الروايات التي يسوقها عنه يتضح أنه يعدهُ أحد المجانين، أو لا يختلف عنهم على الأقل، فتصرفاته في جبل أنطون في بيت لحم، وقصر الضيافة، والمستشفى، ودير المجانين، لا تختلف عن تصرفات أي من المجانين الذين أفاض في ذكر جنونهم المطبق. كذلك حديثه عن شخصيات أخرى مثل الأقرع، وهو بلا ريب يعني بهذا اللقب أحمد قريع (ابو العلاء) وسلام فياض، وأبي مازن، وآخرين

فالكتاب بهذا المعنى « عرضُ حالٍ « لا أكثر، وطابعه الساخر، الهزلي، قد يشد القارئ شدا، لكنه يفتقر مع ذلك لشروط النسق الروائي.

عن القدس العربي