• 17 كانون الثاني 2019
  • ثقافيات

 

 

بقلم : تحسين يقين

 

ليس هذا اكتشافا!

بل ضرورة إستراتيجية..

لماذا؟

لأننا عجزنا عن الوحدة، التي صارت ذكرى وشكلا رمزيا، فتشظت الدول القطرية على نفسها، ولم ننج نحن في فلسطين من ذلك، فلعلنا نتصالح فعلا، ولعل بلادنا العربية كذلك.

كثير هم من يتفقون مع الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ في أن الثقافة هي المجال الوحيد الذي يمكن أن تتحقق فيه الوحدة العربية، ذلك أن العرب حين ينتجون ثقافة إنما ينتجونها عربية، وان تعميم هذه الثقافة كمنتوج على البلاد العربية يصب في الوحدة الفكرية والشعورية للإنسان العربي.

في زمن صعوبة تحقيق الوحدة السياسية، فإن هناك مجالاً لتحقيق ما هو أفضل، ألا وهو الوحدة الثقافية، وهي الوحدة الشعورية الفكرية.  لقد فشلنا بشكل عام في تحقيق الاستقلال السياسي، حيث لم يكن مسموحاً لنا أن نكون مستقلين أو أحرار، لأن العرب الأحرار يمكن أن يتوحدوا.

ما نحتاجه حتى يصبح كلام المرحوم نجب محفوظ قابلاً للتطبيق أن تكون دوافع الكاتب في أي بلد عربي دوافع أصيلة تنبع منه، ومن مشروعه العربي، فإذا لم تكن الدوافع الثقافية أصيلة، فإن الثقافة المنتجة ستأخذ صفة القطرية الضيقة.

لكن أين هي الثقافة والمثقفون وجمهورها العربي حتى يتحقق أثرها الوحدوي؟

 فحتى تكون الثقافة مجالاً لنحقق فيها الوحدة العربية، نحن بحاجة إلى وجودها الفاعل في الدول العربية، ونعني به وجودها من منظور المشروع العربي الذي ينظر إلى العرب كأمة في العمق ولا يعترف بالحدود الوهمية بين الدول.

نحن بحاجة إلى وجود أركان الثقافة والفنون من أدب وشعر وقصة ورواية ومسرح وسينما وفن تشكيلي وغناء وموسيقى تؤسس على الإبداع، لا أن تكون منابر الثقافة أبواقاً للنظم تستخدمها في الترويج لها.

نحن بحاجة إلى شعر عربي يتجه للفكر والشعور العربيين والإنسانيين، لا يكون سطحياً ولا مفرغاً من معانيه.

نحن بحاجة إلى قصة عربية تنطق بالمكان والزمان والروح لا تعتمد في انتشارها على الإثارة اللحظية بقدر ما تعتمد على إثارة الفكر والروح.

نحن بحاجة إلى مسرح عربي يفصح عن دواخل الإنسان العربي يحاكي أعماقه ولا ينشد السطح، يحاور فكره لا غرائزه وضحكاته، مسرح حقيقي فيه نص حقيقي ومخرج حقيقي وممثلون حقيقيون ..

 سينما عربية ترتقي بالقصة والرواية هي ما نحتاج إليه حتى لا يقال سينما إثارة أو عنف..

فن تشكيلي يعبر عما نحتاجه حتى لا نصبح لوحات فناني العرب مجرد خربشة بمبرر الفن المعاصر .. ولا هو فنا ولا معاصرا.

نحن بحاجة إلى إعلام عربي متفتح وناضج ومسؤول ومثقف يقدر الإنتاجات الثقافية والفنية فيغطيها وينشرها، كي تصل إلى المواطنين، كي تأخذ دورها التنويري، لا أن يصبح الإعلان ناقلا لما هش وركيك في الثقافة والفن.

نحن بحاجة إلى مؤسسات وأفراد داعمين للثقافة، يؤمنون بدورها في حياة الشعوب، ونحن بحاجة لسياسيين وصناع قرار مثقفين، يدركون أن الثقافة هي ضمان الوحدة والتنور والتحرر.

لقد جمعت أم كلثوم العرب بالفن الغنائي، شعرا وموسيقى، شعورا وفكرا، طوال نصف قرن، وهي تشدو، فكان يسمعها العرب في كل الأقطار، لقد جمعتهم ليس لأنها ابنة منصورة مصر فقط، بل لأنها عربية من مصر.

الثقافة ليست فقط مجال تحقيق الوحدة العربية بل هي الضمان، لأنها تعبر بجمال عن كل ما هو إنساني في حياتنا، بعيدا عن الأهواء والمصالح والنزاعات. وحتى تؤدي دورها لا بد من وصولها إلى المواطن الذي لا يصلها.

والثقافة والفنون كلمات وصور، وتصوير وغناء وفنون تشكيلية ومسرح وسينما، وهي المكتوب والمسموع والمرئي والالكتروني. فلا ننفي جنسا على حساب جنس آخر.

وعندما نتعرض لها، فمعنى ذلك التأثر الإيجابي في التفكير والتعامل والإيجابية، فهي والتعليم قادران على النهوض بالإنسان العربي قبل التفكير بالوحدة.

لكن للأسف فإن النظم العربية استولدت ثقافة وفناً ينسجم مع حالها في تنويم الفكر حتى لا ينازع الحكم أحد في حكمه..

"الوحدة تتحقق عبر الكتاب لا عبر الساسة"، تلك خلاصة تأمل الكاتب الكبير نجيب محفوظ ..

فالساسة يصنعون الكتاب على مقاساتهم، ويخلقون لهم شهرة من خلال إعلام تابع.

حين يتحقق وجود هذه الثقافة، فإننا نأمل أن تكون ثقافتنا المرجوة المنتجة وجمهورها، والحال كذلك هي معبرنا جميعاً نحو الوحدة.

 علينا أن نفكر بإبداع، ندفع الأطفال والفتيان والفتيات إلى الإقبال على الكتاب ومصادر المعرفة..

والوحدة التي نقصد، هي أن نكون معا بتنوعنا واختلافاتنا، وتشابهنا، ومواقفنا تجاه المصير، لا أن نكون نسخا متشابهة تكرر نفسها.

وفي حالة الفقر الثقافي، تغدو حياتنا فقيرة أيضا..بل نصبح معرضين للتشظي والانقسام، ليس عربيا فقط، بل على مستوى الأقطار.

آن الأوان أن نعيد الاعتبار للكاتب، كما قال نجيب محفوظ. وآن الأوان كي نكون قدوة حسنة لأطفالنا بالإقبال على مصادر المعرفة والثقافة.

مسؤولية المثقف أن ينهض بنفسه، وبإبداعه، وأن يطور من صنعته، فلكل صنعة أدوات تحتاج لدربة وتعلم وصقل مهارة، وأن لا يرى نفسه مركز الحياة، بل يراها في سياقها العادي والطبيعي، وأن يبدع بروح المسؤولية الذاتية والوطنية والإنسانية العالية، والمعرفية والعلمية في الأساس الأول. ثم أن يطور بإنتاجاته، ويحترم نفسه، ويتذكر قول الشاعر: "ولو أن أهل العلم صانوه لصانهم ولو عظموه في النفوس لعظما" وعليه أن ينتمي لنفسه في فكرها وشعورها الفريد، ولمجتمعه الصغير والعالم من حوله، ولمهنته ومجالات خبرته...

في ظل محدودية ميزانية الثقافة في بلادنا، على الأفراد أن يبادروا إلى الإنفاق على الثقافة كاستثمار للأهالي في أطفالهم، لأن الثقافة ستكون عونا لهم في التعليم والاندماج والتنمية. وهي بحكم منطلقاتها الإنسانية تربي الطفل على الجدية، فيصبح مدركا لموقعه في الحياة، فينطلق في الحياة الحرة، فطفل بلا شعور قومي ووطني وإنساني، هو طفل بائس ينقصه الالتزام والانتماء. فالمنتمي للجماعة قوي، وللشعب، وللأمة، وهذا يزيد من متانة حياته وهو وأسرته.

همّ الأسرة، فالأهل والأقرباء والأصدقاء والحي والبلد ..الهم لا يبتعد كثيرا، وثمة انسجام..

فنحن حين نهتم بفضاء البيت وساحته، نهتم بالحي، وحين نهتم بالحي، نهتم بما أكبر، في الخدمات والتطوير..

وحين نتأمل أشعارنا الشعبية والتراث المحلي والوطني والقومي..نجد أنفسنا هنا وهناك..

وحين نأكل ونشرب ونغني..ونلقي النكات..نحن معا..

حين يفكر العربي بأطفاله، تكون عيناه على أطفال الحي، والوطن، وبلاده العربية..

المحلي والوطني والقومي والإنساني: الثقافة هي المفتاح.

فحين بفكر الفرد بخلاصه، فإنه يفكر بخلاص وطنه والوطن الكبير..

أي حين يفكر بضمان حياة أفضل لنفسه، فهو في الوعي واللاوعي يفكر في الوطن العربي..

لهذا صار الربيع العربي ربيع كل واحد فينا أو هكذا يجب أن يكون..أي حتى يكون ربيعا حقيقيا لا بدّ أن تتكامل فيه المستويات الذاتية الشخصية والمحلية فالوطنية والقومية ثم الإنسانية..

وحين تفكر الدولة القطرية وتخطط وفق العدل والمساواة واحترام الحقوق تكون عينها الأولى على تنمية ونهضة بلدها بمدنه وقراه وتجمعاته السكانية، وتكون عينها الأخرى على ما هو أوسع..الوطن العربي. وهذه هي الثقافة والتنمية والوحدة.