• 5 شباط 2020
  • ثقافيات

 

بقلم : تحسين يقين

 

كل ما في القصة إبداعي، جعل العمل الأدبي مكتملا، لذلك كان أثرها عميقا جدا..

نصا للمبدع مورتن دور ورسما وألوانا للفنانة لارس هورنامان، يدل على وعي بعالم النفس والطفل بل والحياة.

قصة طفلة مهاجرة في قارب مكتظ بالمهاجرين، وحيدة، تعصف الأمواج به، فتعلب الأمواج بقسوة بحياتهم، فترى فيما يراه النائم، ما بين اليقظة لثوان ومفارقة الحياة، تستعيد "أمينة" ما كان من سلام البيت، اللعب والطعام الشهي، ثم حكايات الأم عن الملكة زنوبيا، التي اعتادت الأم تريديها لتشجيع طفلتها، بأن بإمكان المرأة القيام بما يقوم به الرجل، ثم لتستعيد حكاية رحلة الهجرة...في البحر.. إلى الما.

قارب ممتلئ في عمق البحر، ف"زووم" على الركاب الساهمين، متنوعي الأعمار، تجمع سحناتهم مشاعر التبعثر والتعب، والضياع، والخوف من المجهول، يرتدي بعضهم بدلة النجاة، تحتضن الأمهات أطفالهن، بعض الفتيان وقفوا على جوانب القارب يتطلعون إلى ما وراء الماء..أمتعة قليلة، شنط للظهر شعور بالتعب الذي يصعب حتى معه إظهار الشعور. إنه إرهاق الجسد والروح، لبشر امتلأ القارب بهم، بافتراض أنه قارب النجاة. ثم "زووم" مقرب لطفلة، وضعت يديها فوق بعضهما بعضا، إشارة إلى أنه ليس في اليد حيلة، في حين راحت عيناها تقرأ المشهد بشيء من الضجر والاستسلام أيضا. وهنا تم اختيار اللون الأزرق

خوف يطل، ملامح الكبار ضاجة خائفة، أما هي فتتابع التأمل الصامت دون خوف، من خلال عقد الذراعين على الرجلين جلوسا على الأرض، كما يلائم حالة الانتظار، فجاء اللون رماديا.

البحر هائج، يتقاذف القارب، يرتفع فيظهر كأن الركاب يطيرون منه..لكن يقعون على صفحة الماء، سحناتهم تعبر عن مواجهة مصير صعب، هي آخر نظرات لعيونهم/ن، يزهدون بحقائبهم، لكن ظل الكبار، أمهات وآباء محتضنين أطفالهم.

وجه الطفلة تصافح قدرها في الماء فيه الخوف والتساؤل، أما الزبد فيترك بصماته بعد حرب الأمواج في مدها وجزرها، فكان اختيار اللون الرمادي مناسبا.

الطفلة الخائفة بدون حيلة ولا مقاومة ترتفع في الفضاء، وتهوي في الماء، تفلت "فردة" الحذاء، وتظهر فقاعات تنفسها.

هنا، في هذا الهدوء، في ثوان ولحظات، ترى المكان كبيرا وخاليا، لعل ذلك دفع الرسامة لاختيار الرمادي المخضر.

-"هنا لن يعثر عليّ أحد"!

9 صفحات، باللون البني والبيج، عبرت عن سياق زمني ومكاني آخر، استرجاعي، لعله ما يمكن أن يكون قد خطر بذهن طفلة تغرق، كحنين إلى البيت والأسرة، قبل ركوب البحر هربا ولجوءا من إيذاء البشر. هنا، تظهر مشاهد لعبة "أمينة"، "الطميمة"، التي نسميها "الغميضة أو الطمة"، يظهر البيت والباب وابتسامة الأم وحنانها، وكيف أن الأم لحبها لإسعاد ابنتها توهمها انها لا تعرف مكانها، لجلب السعادة لها.

ثم لتستكمل الكاتبة السرد، لتأتي صفحة زرقاء مخضرة (لوحة أمينة) تنادي بمأساة: أنا هنا في الماء"!

ثم، تعود إلى تلك الأيام، مع مشهد آخر: إعداد الطعام، لتتلون الصفحات الأربع القادمة بالبني مرة أخرى، والبيج، وصنع الدولمة (ورق العنب المحشو)، يظهر نوعان من الدولمة، الأول ما اختبرت مذاقه أمينة، وهو  المكون من أرز فقط، بسبب الفقر، أما النوع الثاني فيأتي من ذاكرة أم أمينة، "لحم الخروف، والفلفل الأسود، والثوم، وعصير الليمون، والزيتون"، ليأتي الأب ويعترها لذيذة، وهو لأنه يعرف حال الأسرة، يتحدث عن نقصان الملح، كونه الوحيد المتوفر مع الرز، حتى لا يجرح زوجته، التي تطفر من عينيها دمعة، حزنا على ما وصلت إليه الأسرة.

ثم لتستكمل الكاتبة السرد، لتأتي 3 صفحات لأمينة، مع عبارة "البحر أيضا مالح، متذكرة ذهب والديها للمدينة، فصفحة بنية وبيج، تقوي الأم ابنتها وتشجعها كفتاة، وتذكرها بالملكة زنوبيا، حيث 6 صفحات ما بين الأزرق لزنوبيا، ملكة سوريا، على خلفية بنية، مع معلومات عنها "كأجمل امرأة، ومحاربة، وأن مملكتها امتدت من الاسكندرية إلى أنقرة، من مصر إلى تركيا". تظهر تدمر، ونعلم عن حربها ضد قيصر روما، وأنها " كانت تجيد ركوب الخيل مثل رجل وتقاتل مثل رجل وتحكم مثل رجل"، لذلك بإمكان أمينة أن تكون مثلها كما ترى أمها.

ثم، تعود إلى تلك الأيام، مع مشهد آخر: تعرض قريتها لغزو وقصف، لتتلون الصفحات الأربع القادمة بالبني مرة أخرى، والبيج، بعد أن انتظرت عودة والديها، وكيف أعدت الرز، تفاجأ بالدبابات والطائرات بصوتها المزلزل.

ثم لتستكمل الكاتبة السرد، لتأتي صفحة زرقاء للملكة زنوبيا، أو لعلها تتخيل نفسها كذلك، حيث ترى "أشعة الشمس عبر الماء"، فصفحة أخرى لها كأنها نائمة في الماء.

هنا، تعود الصفحات بنية وبيج، 15 صفحة، تستأنف سرد خروجها مع عمها هربا من البلدة، بعد ترددها لأنها بانتظار والديها، يقنعها العم بصعوبة ذلك، يتسللان من البلدة، حيث يختبئان من المسلحين في الطرق، حيث تظهر آثار الحب والدمار. الكلب الخائف الوحيد، يجد نفسه مستأنسا بهما، لتظهر صفحتان زرقاوان لأمينة وهي تهوي في البحر نائمة، لتستأنف السرد، حيث عمها يفاوض الصيادين، الذين أخذوا منه كل نقوده.

تعود إلى الوراء سريعا، لتتذكر أمينة، وكيف كانت تصنع نقودا ورقية تحاكي بها النقود، ورسمت عليها وجه زنوبيا، لتشتري كعكا من أمها على سبيل التدلل واللعب. ثم (ليتداخل السرد البني والبيج 6 صفحات) عن رحلتها في القارب وحدها، لأن عمها اراد الاطمئنان عليها، فلا يملك مالا لراكبين. تقوي نفسها باستلهام روح زنوبيا القادرة.

يظهر القارب الصغير بحمولته الزائدة، يبحر القارب ليلا تمنحها امرأة قطعة بسكويت، رجل عجوز طبطب على خد أمينة، تحلم ببلد ليس فيه جنود.

تعود الصفحات زرقاء 14 صفحة تتخللها صفحتان بالأسود، إلى النهاية، في القاع، تظهر سفينة غارقة باسم زنوبيا، الأسماء سوداء، السفينة قديمة تحللت بفعل الماء. تهمس لأمها كأنها ما زالت تسترجع ما كان من لعبة: اعثري علي!

 وكأنها تصرخ للكون وللإنسانية!

لم تحدد القصة جنسية محددة، وإن أوحت إلى سوريا، من خلال قصة الملكة زنوبيا، ملكة تدمر، التي تم توظيفها في القصة، حينما شجعت الأم طفلتها بروايتها لها تقوية لها في مواجهة الحياة. لقد أبدع الكاتب بأن جعل القصة قصة كل المهاجرين.

نجحت القصة عالميا، ترجمت الى اللغات الكورية والنرويجية والسويدية والفرنسية والإسبانية والعربية والكرواتية والتركية والانجليزية والفارسية. 

 

كما بدأنا بالأزرق ننتهي به..

والألوان تلك؟

8 صفحات منها الغلاف الأمامي في المقدمة، و9 في آخر القصة، بمجموع 17 صفحة زرقاء..ترى على ماذا دلت؟ وماذا كان دورها؟

نصا ورسما، ولونا، يدل على وعي بعالم النفس والطفل بل والحياة؛ إنه رسم إبداعي، وتلوين أكثر إبداعا، بحيث جعل المساحة الزرقاء بحرا وسماء كبيرة بما تكفي لرحلة القراء الأطفال والطفلات، بحيث تجعلهم فعلا يحسون ويعيشون نفسيا وماديا تلك الرحلة، كأنهم في الماء، وتحت السماء، بما يحمل أيضا اللون الأزرق من دلالات متعددة، منها البرودة.

كذلك، من إبداع التلوين أنه يجعل الطفل يتحول موضوعيا مع اللون، فما أن يأتي المشهد بلون معين، حتى نراه يستأنف ما كان من أحداث، خصوصا البيت-الوطن بما فيه، وقصة زنوبيا أيضا.

تنتهي القصة بعبارة المأساة:

"البحر كبير وخال، هنا لن يعثر أحد عليّ، هنا لن تعثر أمي ولن يعثر علي أبي"، إنها مشاعر مفتوحة على الزمان والمكان والإنسان.

في قاع البحر نقرأ اسم زنوبيا باللاتيني على سفينة غارقة..كأنه الكاتب أراد إكمال الدائرة، بما كان من قصة ملكة تدمر، ونهايتها المأساوية..ودائرة تكرار الحكاية في عالم البشر، وتلك المأساة الأكبر، رغم ما توحي به المأساة من عبث ساخر حينما تتكرر! مدهشة الرسوم، لقد عمقت النص فعلا..

عمل ابداعي رائع، اعتمد على مخاطبة الطفل، شعورا عميقا وفكرا إنسانيا..وعمق في الوقت نفسه حقوق الطفل في كل مكان: التزويد، والأمن، والتعليم، والترفيه..إنها محاور اتفاقية حقوق الطفل الدولية؛ تلك التي وظفها الكاتب بعمق وإبداع من خلال اللعب والحكايات، والطعام..

النجاة النجاة!

نسلك سبلها..ونحتاط، والمأساة حين تجري الرياح بما تشتهي أحلام الصغار والكبار..

إنها صرخة لوقف الحروب..الآن وليس غدا.

القصة من تأليف الكاتب: مورتن دور، ورسومات الفنانة لارس هورنامان. الناشر للنسخة العربية: مؤسسة تامر، بدعم من البيت الدنماركي في رام الله، ترجمة دنى غالي. الطبعة الأولى دار نشر كوبولت-كوبنهاجن بدعم من اتحاد الكتاب الدنماركيين وصندوق دعم الفن والأدب الدنماركي.