• 12 تموز 2020
  • ثقافيات

 

بقلم : تحسين يقين

 

 

 ما بين الممكن من الحب، والسلام، تمضي رحلة مينا من ميدان التحرير وميادين فينا؛ وما بين خلاصه، وخلاص مجموعته الصغيرة، ممن يعشق ويحب، بكل ما يحمل ذلك من دلالات إنسانية، فرديا وعاما.

ربما لم يجد مينا دورا ليقوم به، في وقت انتهت فيه أو كادت أدوار البطولة، فما الذي سيفعله وهو المفعول به، وهو الذي "خد في وشه" وترك البلاد لا يدري، انه: رب يوم بكيت منه فلما انقضى صرت ابكي عليه، وهو الهارب واللاجئ من مجتمعه بكل ما فيه من غبن وقيود، ليلاقي هناك غبنا عنصريا آخر وإن اختلفت القيود.

إلا أنه يصر على امتلاك دوره، من خلال بوحه داخل الرواية، باتجاه تعميق الشعور الإنساني والتبشير به؛ من خلال نماذج هنا وهناك.

إنه مصير إنساني إذن، وهو الخلاص عبر ترك ما هو متكلف، وعيش الحب والجمال، والخلاص من العنصرية؛ فثمة ما يربط بين العاشق مينا، وبين محبة السلام، ف"على هذا الأرض ما يستحق الحياة".

خلاص عام لا مجزأ، للبشر شرقا وغربا، فالعدالة واحدة والحب واحد..

عبر تلك الرحلة الإنسانية لمينا، ولمن جعلهم يرتحلون معه من شخصيات، ونحن منهم، في المكان والزمان، حتى لكأن وصف الأماكن يحوز مساحة لا في النص بل في قلبه.

ولعل رحلته خارج المكان، مكانه الأصلي هي الرحلة المهمة، بل هي التي استدعت رحلته: حياته السابقة في مصر.

لذلك ليس من الغريب ولا من العجيب أن تلتقي المصائر معا في النهاية، كدلالة عميقة على وحدة مصير الإنسانية؛ فمن خلال شهدة (نيالا) ونادين، تختفي الفوارق، ويصير التضامن الإنساني في أسمى درجاته، حين تهدي المصرية شهدة شعرها الجميل، لنادين التي يسقط شعرها بسبب المرض.

هل هي الجمالية (من خلال إهدائها ضفائرها وهي المميز للجمال المرأة)، مقابل وفاء نادين لكراهيتها قبح الاستعلاء ربما؟

هل ثمة رمز من خلال مبادرة شهدة واستقبال نادين الحنون لها؟

المصير، شعر شهدة-نيالا هدية لنادين المريضة، لتسعد باستعادة ولو رمزية لما هو شعر حقيقي لا مجرد باروكة مصنوعة!

قصة حب، مثلث متساوي الأضلاع، هو وهما الغائبتان، مكانان وزمانان، إلى أن يلتقيا، وخلال ذلك ثمة قصص حب قصيرة، يجمعها الصداقة في الوعي والرغبة في اللاوعي (لعله ما زال في الصندوق الأسود تفاصيل أخرى).

حب قديم وحديث، ومصير كل واحد، ونظرة كل منهما الإنسانية تجاه الأخرى دون جلد لمينا.

 رواية، تخللها قصص قصيرة، هي قصص النساء هنا، باستثناء شهدة-نيالا ونادين، حيث أن يمكن فعلا أن تكون كل قصة على حدة، لولا وجودها العام ضمن بنية فكرة الرسالة، التي قصدت نقد المجتمعين المصري والنمساوي، العربي الشرقي والأوروبي الغربي.

وهكذا، فقد طاف بنا الروائي طارق الطيب أيما طوافا، حد الطوفان، رابط هنا بين أخيه الحاج رمسيس الذي طافت به أمه وهي تحج الى بيت الله الحرام، ومآله، الذي تركه معوما، (دون ذكر المصير ليكون رمزا للمهاجرين) ليلاقي مصيره في البحر وهو يبحث عن الخلاص من مجتمعه.

رواية جمعت ما جمعته من مصائر أفراد، ومصير الراوي، مينا سليمان، باتجاه وجودي، عبر سبر نفسية الشخصيات ضمن سياقاتهم/ن الاجتماعية والثقافية، من خلال شفافية اللون والخط، كما يلائم شخصية الرسام مينا، الذي يلجأ الى فينا رساما، فيصير مرسوما، فبدلا من الفاعلية، يصبح مفعولا به، وبدلا من التعبير والبوح، يعبر عنه آخرون وأخريات يتعلمون فن الرسم-والتعبير.

"كل الأشياء عن نفسه" صفحة 105، طفولته، واكتشافاته للحياة والجسد، ولعل عمله كموديل هو ما أعاده للماضي لتذكر حالات الجسد.

ويظهر لنا عالما إنسانيا لا عنصرية فيه في محيطه، عبر تقدير "طنط جورجيت"، حيث تختفي الفوارق الدينية، ويظهر الأب معلم تاريخ ناقدا سياسيا باتجاه العدالة، تلك هي مصادره الأولى، وهي التي يدخل بها فينا، بكل تلك القيم الإنسانية النبيلة، بالإضافة لمله للجمال، الجسد بشكل خاص.

ولعل ذلك هو ما يعيده لتذكر أحداث صغيرة مثل "الحمام" تضفي على النص حيوية وتعميقا لما صار عليه وإليه. استدعاء الماضي وهو في النمسا كان وسيلة له ليتكئ عليها وجوديا أيضا.

وهناك حيث يعمل على عكس ما جاء له، يلتقط فرصة التعرف على الآخرين ممن يلتقون إنسانيا معه،

يرتبط بالأشخاص عمليا كمجدولينا مديرة المعهد، ولا يمنع ذلك من التقاط فرصة عاطفية أيضا، كذلك كاندانة الأثيوبية، من خلال حفلة الإيطالي قادر..

لكن شخصيتي كل من نادين النمساوية وشهدة-نيالا المصرية، هما الخطان الرئيسيان له، هما عشقه: في البدء شهدة، ثم نادين، زمنيا، لكنه اختار سردا إبداعيا، بحيث بذر بذورا فيه ذكر لشهدة-نيالا، كحكايتها، أكثر من حكايتهما معا، سوى من ضمير سارد عن البدايات، لكنه يعود لذلك ليكمل القصة، قصتهما معا، في حين جعل الحديث حول نادين هو مسار الرواية، كونه يتحدث عن وجوده في فينا، وخلال ذلك ظهرت النساء الأخريات والرجال بدرجة أقل.

عالم نادين الحنون الملائم لشخصية رسامة، وبداية التعارف، أحبته وحنّت عليه معلومات وعرفته بفينا،

ثم توثيق العلاقة، بالرغم من وجود نساء أخريات في الوقت نفسه، إلا أن العشرة، بينهما، جعلتها المقربة منه والحبيبة والصديقة، لدرجة تلاشي الأخريات سوى من ذكرهن كصديقات. وأكثر ما عمق علاقة الحب هو مصاحبة نادين لمينا في رحلة البحث عن أخيه الذي يحتمل تعرضه للغرق مع المهاجرين عبر البحر نحو أوروبا.

 وفي رحلة المصير، يفاجئنا الراوي حينما عاد لبداياتها المؤلمة، حيث تظهر صدماتها العاطفية، والاجتماعية خصوصا حين رافقت الزوج إلى الولايات المتحدة، حيث تفاجأ بأفكار الطائفة التي تنتمي لها أسرة زوجها. وقد عمقت تلك شخصية نادين وعلاقتها بمينا.

وفي العودة لإكمال فراغات قصة شهدة-نيالا، أو لإتمامها من جهة، وإظهار البدايات من جهة أخرى. تظهر "شوشو" التي تتعلم الباليه، تظهر أسرتها، الأم نوال والأب كامل، وتوتر العلاقة بينهما، وكيف أنها ورثت حرارة الأب، لا برودة الأم، التي لربما كان للختان أثر عليها، وإن لم تظهر حادثة ختانها بل ختان الابنة، بحيث يذكرنا الأثر النفسي السلبي له على شهدة، بما حدث من قبل للأم التي كانت مسكونة بشبهها الجمالي من فاتن حمامة، والذي أورثته لابنتها التي صارت تسعى لشبيه عمر الشريف، إلى أن تجد شخصا يشبه الشكل لا المضمون وهو عمر بنهو.

خلال القص يبوح مينا بعلاقته بها، التي توجت بزواج عرفي، ومن ثم تركها، للتزوج رسميا بآخر. ولعل الزواج العرفي لم يكن زواجا كاملا، لأنه من خلال السياق، لا تظهر الحياة الزوجية، بقدر وجود إطار شرعي-يحلل الجنس الناقص، وهذا احتمال عززه زواجها من عمر بنهو الذي مرّ بهدوء.

تظهر مرة ثانية في الثلث الأخير من الرواية صفحة 248 دكتوراة في علم النفس والفن، تماما كما يشبه بداية تعارفهما في تكسي أجرة يحدث له خراب، حيث يتمكن من دعوتها على كوب شاي في "جروبي"، حيث يكون كتابها عن الفن وعلم النفس مجالا له لبناء علاقة ينجح فيها.

أما النساء مثل كاتيا، وشلتها، يوناس ولارا وفلوريان ولويزا وأحاديث الثقافة وصولا لشاطئ التحرر من الملابس، فقد مثلت كل واحدة قصة قصيرة داخل الرواية، لولا عودته لذكرها فيما بعد. ولعل سيليفيا كانت صاحبة الحظوة في الوجود بعد (شهدة ونادين) والتي ربما شجعته على اكتشاف نفسه، خصوصا حينما تعلق الأمر بكيفية تقديم نفسه، كذلك حازت القصة وصفا لبيتها المطل على فينا.

وأخيرا، مليحة الفتاة الريفية التي يقع في حبها، وفي تصويرها (رسمها) عارية، حيث كان من الطبيعي التعرض لها بخجل وبحدود، كونها ورث منها أن صار موديلا عاريا للرسم.

مضمون ناقد للمجتمع

من خلال كونه موديلا عاريا للرسم، نشط لديه استدعاء الماضي، أكان لذكر حوادث بسيطة عن العري-الفيزيقي، أو وهو الأهم نقد المجتمع المصري، كإيراد مينا حادثة مظاهرات الخبز عام 1985، ونقده لمآل الطبقة الوسطى، في ظل التحولات التي صاحبت سياسة الانفتاح. وذكره لتهريب أو إهداء الآثار للأجانب، كحال ما تم إهداؤه للدبلوماسي زوج مجدولينا، يأتي في سياق نقدي أيضا لأهل الحكم. ولعله أيضا ذكر شيئا عن مجتمع الريف، خلال سرد علاقة مينا بمليحة. وثمة إشارات نقدية خجولة، للواقع الاقتصادي لأسرة عمر بنهو، ودلالات الفروقات الاقتصادية وصولا لقتل "الخضرجي" غير المتعمد، ربما هو تعمد روائي، محاكاة وقراءة لما في نفس عمر. أما وصف ختان شهدة فهو ليس نقدا بل إدانة لهذه العادة. وكذلك حفلة قادر، وفضح الدبلوماسيين العرب.

أما نقد وتعرية المجتمع النمساوي كاره الأجانب، فقد تم خلال:

ما ذكره عن ميدان حقوق الإنسان الذي أحال لما حدث من عنصرية دامية في الماضي. وحديث نادين عن عنصرية النمسا في سياق تاريخي، كما جاء في أطروحتها التي لم تقبلها الجامعة، المتحدثة عن العنصرية النمساوية في القرن السابع عشر. وإشاراتها حول الجلد كأكبر عضو في الجسم، أي نقد خفي للعنصرية القائمة على اللون. كذلك نقد سيليفيا ومينا الحاد للصحف في كيفية تغطية أخبار الجرائم. وإيراد قصة الأطفال عن السود، ومعاناة مانويل الذي ابوه أفرو أمريكي. وأخيرا معاناة كاندانة الأثيوبية.

أسلوب الرواية

في التقنية، تعدد الضمير السارد الغائب والمتكلم، من خلال أكثر من متكلم، أي هناك أكثر من سارد، يتفق مع اتجاه الرواية الجديدة في تعدد الأصوات الساردة. إضافة إلى اليوميات، التي حملت حيوية واقعية تحمل سمة الطزاجة. كذلك الحال مع أدب التجوال، الذي ظهر جليا كون الراوي مينا أصلا ما زال في الرحلة. ولعل ذلك تقاطع مع استدعاء الماضي في أكثر من موقع، وهنا كان للوصف حضور البطولة أيضا. كما أن العودة لتاريخ اللوحات الفنية كان له علاقة مع كون الشخصية الرئيسية فنانا من جهة، والإشارة إلى الإنسانية عبر الفن من ناحية أخرى. أما تعلقه بعلم النفس، وبداية تعرفه بشهدة، فقد تم ربطه من خلال وصفه لمسكنه الجديد في الشارع الذي كان يقطن فرويد فيه.

لقد بذر الكاتب بذورا في البداية كان يعود إليها بحيث جعلها تنمو لتكون (تخلق) الحكاية، استخدم بذور البداية، ليكملها مشوقنا وصولا للنهاية، التي أخذت منحى بوليسيا في فصل البحث عن أخيه رمسيس.

كما تم توظيف الأحلام والتي جاءت بصريا بخط مختلف، تماما كسرديات الآخرين، في إشارة لتعددية السرد، وكان ذلك جميلا وموحيا، لكن مع تعدده صرنا نشعر بالتعددية دون معرفة السارد، كأن الكاتب أراد إيصال رسالة حول وجهات نظر الناس تجاه ما كان ويكون.

أما خط فرح المصري، فقد قصر استخدامه على أبيه خصوصا في رسالة الحب القديمة لأشجان، ورسالة أخيه الذي يلجأ فيها له لمساعدته لتخليصه من واقعه. أي أنه ربط نوع الخط هنا مع علاقات حميمية.

وأخيرا، هناك متسع لحب الشرق والغرب، شهدة ونادين، حيث تكتمل دائرة كل منهما على حدة وهما معا، حين يتم تجاوز ما هو عاطفي الى ما هو إنساني. ولعل إيراد وصف البيتين القديمين في مصر وفينا، من خلال مليحة ومجدولين، يأتي في هذا السياق.

إنها لغة إشارية، وخجولة البوح، لكنها باحت بكل ما هو مهم باتجاه تصالحية لا باتجاه التصادم العنيف.

صدرت عن دار العين، الطبعة الأولى 2018

تصميم الغلاف: هبة حلمي عن لوحة الفنان النمساوي ايجون شيلي

وقعت في 373 صفحة من القطع المتوسط