• 13 تشرين الثاني 2020
  • ثقافيات

 

بقلم : كايد هاشم

 

أصبحت القراءة من أحب هواياتي منذ بدايات وعيي للحياة ، كنت في السابعة أو الثامنة من عمري وكان لي صديق في مثل سني من جيراننا في جبل اللويبدة، من أسرة المظفر، المقدسية الأصل، تسكن في فيلا من بيوتات عمّان القديمة الجميلة أسفل منحدر جبلي يقع أعلاه شارع السعدي، وللفيلا حوش واسع يبدأ من مدخلها الخارجي الذي يُصعَد إليه ببضع درجات في ممر يتصل أوله بشارع الخيام، وكان هذا الحوش ملعبنا الآمن بدلاً من الشارع الذي لم يكن مسموحاً لنا باللعب فيه، رغم أنه في أواخر الستينات وأوائل السبعينات كان مرور السيارات فيه قليلا . وللفيلا درج حجري يصعد إلى شرفتها النصف دائرية المطلة على جبل عمان وجبل القلعة وجزءاً من وسط البلد أو شارع فيصل وبعضاً من شارع الأمير محمد . وتحت هذا الدرج غرفة على شيء من الاتساع كانت العائلة تستخدمها كمخزن وتمتلئ  بكتب مكومة داخلها دون ترتيب، ويبدو أنها بقايا مكتبة قديمة . 

لم يكن صديقي محمد المظفر أصغر إخوته مهتما بالكتب وإنما كان يحب السينما وتسمح له والدته بأن يرتادها مرة كل شهر مع أصدقائه لحضور عروض الأفلام في دار سينما الخيام القريبة من المنزل، والتي كانت عروضها غالباً من الأفلام الأجنبية .

في تلك الأيام كانت السينما وإلى حد ما الراديو والتلفزيون في أوائل عهده وسائل الترفيه السائدة، أما الثقافة الممزوجة بالتسلية أحياناً فالكتب أولاً ثم المجلات مصدرها، وكانت المجلات وفي مقدمتها "العربي" الكويتية، والمصرية مثل "المصور" و"الهلال" و"روز اليوسف" و"حواء" و"الكواكب"، واللبنانية  "الصياد" و"الأسبوع العربي" و"الموعد" و"الشبكة" تأتينا بشكل دائم، يحضر والدي - رحمه الله - بعضا منها أسبوعياً زوادة لعطلة يوم الجمعة، وأشارك الوالدين تصفحها ومطالعة بعض ما فيها . 

لكن لا شيء حينذاك استهواني أكثر من الكتب التي كان والدي لا يتوانى عن منحي ما أطلبه من أثمانها، ويوصي جاره الطيب العالِم البسطامي صاحب المكتبة الصغيرة في ساحة البريد وسط عمّان أن يعطيني ما أشاء منها ويدفع له ثمنها مهما كان المجموع، فأذهب إلى متجر الوالد برزمة الكتب التي اخترتها، وأجلس في ركن مرتفع قليلاً وأمضي عطلة الصيف المدرسية أو عطلة الربيع منتصف العام الدراسي في قراءة الكتب كل يوم حتى يحين موعد إغلاق المحل في السابعة أو الثامنة مساءً.

وخلال النصف الأول من السبعينات تكونت لدي نواة مكتبتي الخاصة، وأذكر من أوائل الكتب التي طالعتها في ذلك الحين : "القاهرة الجديدة" و"القط الأسود" لنجيب محفوظ، و"مختارات سلامة موسى"، و"الأجنحة المتكسرة" و"دمعة وابتسامة" لجبران خليل جبران، وسيرة عباس محمود العقاد "أنا" و"رحلة قلم"، و"الشريط الأسود" و"نظرة إجمالية في الأدب المهجري" لعيسى الناعوري، ومن كتب التراث "البخلاء" للجاحظ .

كنت بدأت أتعرف على بعض المكتبات في وسط البلد وأرتادها وأشتري بنفسي ما يعجبني، ومن هذه المكتبات مكتبة الأقصى التي أسسها صاحبها الشيخ أحمد الخطيب رحمه الله في إربد أولاً، ثم انتقلت إلى مقرها بشارع الأمير محمد في عمّان، وكانت غنية بالمراجع والكتب الأدبية التي كانت تنشرها دار المعارف بمصر وغيرها من دور النشر المصرية وأيضاً اللبنانية، وكان أحد أبناء صاحب هذه المكتبة زميلاً لي بالمدرسة فكان يخبرني عن الجديد من الكتب وساعدني بتجليد بعض كتبي عندما استحدث والده قسماً للتجليد في المكتبة، وما أزال أحتفظ بهذه الكتب المجلدة حتى اليوم .

المكتبة الأخرى كانت مكتبة المحتسب في شارع الملك حسين الذي كنا نسميه شارع السلط، وهي مكتبة عريقة تأسست في القدس، وكانت من أغنى المكتبات بكل جديد يصدر في مصر ولبنان وسورية وأحياناً العراق فضلاً عن الأردن، ومن هذه المكتبة اشتريت مجموعتي الأولى من سلسلتي "إقرأ" و "كتاب الهلال" المصريتين،  وأحتفظ حتى الآن بالعديد من أعدادها، وكذلك كتب طه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين وروايات محمد عبد الحليم عبد الله، وكتب لبنانية لمارون عبود وميخائيل نعيمة وفيليب حتي وعبد الله العلايلي، وغيرها وغيرهم .

وعثرت يوما عن طريق المصادفة على مكتبة قديمة تقع في شارع المحكمة الشرعية القديمة الذي يلي طلوع جبل عمان من جهة سينما رغدان، صاحبها كان رجلا كبير السن من عائلة جردانه لكنه كان عارفا بالكثير من الكتب وقيمتها وطريقة بيعها والتعامل مع هواة الكتب القديمة والنادرة، ورغم أن أكوام الكتب لم تكن تتيح للرجل إلا حيزاً ضئيلاً يجلس فيه حد مدخل المكتبة المتراكمة كتبها حتى السقف، فقد كان كما أحب أن أسميه "حارس التراث" يستطيع الوصول إلى الكتب التي تطلب منه وإنْ بشيء من المشقة وكثير من الغبار المتطاير فينفض الكتاب قبل أن يسلمك إياه ويتسلم ثمنه كما يحدده هو جازماً حازماً ويضيق بالمساومة ويرفض البيع إذا ساومه أحدهم، ومن الكتب التي تسنى لي أن أقتنيها أجزاء من كتاب "معجم الأدباء" لياقوت الحموي بإعتناء المستشرق الإنكليزي دافيد صمويل مرجليوث، ونشر الدكتور أحمد فريد رفاعي في القاهرة في الثلاثينات .

 مكتبات وكتب أخرى وذكريات معها في حلقة قادمة، فإلى اللقاء ....