• 18 آب 2016
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : علاء الدين ابو زينة

 

تصور أن لديك قطعة أرض كبيرة ما، محاطة بسور من نوع ما، وفيها مختلف التكوينات والأشياء والمباني والتضاريس. لكنك، من بين كل شيء في حديقتك المسروقة، تحب بيتاً معيناً أكثر ما يكون. ثم ذات يوم، جاء جماعة فغلبوك وأخرجوك من أرضك كلها جملة وتفصيلاً، ووضعوك خارج السور. بعد ذلك وقفت هناك طويلاً، تصرخ وتلوح بيديك وتشتكي لهذا وتستنجد بذاك وتعيش مع القهر كل الوقت، لكنك تغضب حتى تبرز عروق رقبتك وتضاعِف الصراخ والشكوى -وقد تهدد بما تشاء من أشياء- كلما أحبوا أن يدخلوا ذلك المبنى الذي تحبه بالذات!

هذا هو ما يحدث في حالة العرب والمسلمين مع فلسطين والمسجد الأقصى. فبين الحين والآخر، تتصدر عناوين الأخبار محاولات المستوطنين دخول باحات المسجد، فيرتفع منسوب الغضب الشعبي والرسمي العربي موسمياً بالتزامن مع هذه المحاولات، ثم يهدأ الاحتجاج عندما تهدأ. لكن هذه الموجات من الغضب الآني المرتبط بالأقصى تصر على اجتزاء الحدث من سياقه المنطقي الأوسع: المسجد الأقصى هو جزء من فلسطين، وفلسطين محتلة؛ إذن: المسجد الأقصى مُحتل: نقطة.

وإذن، "الأقصى" يُنتهك لأن فلسطين محتلة، وهو جزء فقط -ولا يمكن أن يكون غير ذلك- من حديقتك المحتلة من السور إلى السور. وهو في الحقيقة مُحتل ومستباح أولاً وآخراً ودائماً وفي كل حين، سواء كان الغزاة في داخل ساحاته أو حول أسواره. فلماذا الحرفية والفصل، بحيث يتولد انطباع بأن كل ما يعنينا هو أن يبقى المستوطنون خارج أسوار المسجد، وأنهم طالما ظلوا خارج السور فإننا بخير وأدينا ما علينا؟ المسألة في النهاية بسيطة -من حيث المبدأ: حرِّر أرضك وتضاريسك وأشياءك، إذا كنتَ تغارُ حقاً على شيء، ولن يدخل أحد بعد ذلك مبناك الذي تحبه. أما أن تستمرئ بقاءك خارج السور وتترك الغزاة يرتعون في كل مكان، ثم تطالبهم بأن يفعلوا هذا ولا يفعلوا ذاك، فسوريالي جداً. إنه أشبه برجل واقف على سطح عمارة عالية، ويشاهد في الأسفل أحداً يضرب ابنه بلا رحمة في الشارع، ثم لا يفعل سوى أن يصرخ عليه ويشتم وهو هناك في مكانه لا يريم. فليصرخ إذن ما شاء، ولن يضير شيءٌ ذلك المعتدي الذي لا يكفُّ يديه شيء، ولا حتى إذا ناديت "الشرطة" إذا كانت من نوعية "المجتمع الدولي" و"الأمم المتحدة" -أو حتى "العرب والمسلمين" المنشغلين تماماً بتصفية بعضهم بعضا والتفرغ لأسلمة المسلمين وقتل أهل الطوائف الآخرين.

لا أعني بأي حال -طبعاً- أن تحرير فلسطين و"الأقصى" سهل في جملة المعطيات المعروفة. لكن الصراخ لا يخرج الموتى من القبور أيضاً. فإذا تحركت الأشياء في الصدور عند اجتياح باحات "الأقصى" فقط، فإن ذلك يتجنى على حقيقة أن "الأقصى" لم يكن في مأمن من مهانة الأسر في أي لحظة منذ اعتقلوه مع بقية الوطن المقدس كله بالنسبة لأصحابه بالمقدار نفسه. والأحرى أن يدخر الناس شيئاً من الطاقة التي تُهدر في الصراخ من بعيد والضغط على شرايين القلب، وأن يفكروا -ولو لمرة- بطريقة العقلاء؛ بكيف يمكن فك إسار المبنى الأثير في جملة الوطن الأسير. أما الآن، فقد تملك المسجد الأقصى وما حوله، والأرض كلها بمن فيها ومن عليها، هؤلاء المستعمرون الذين يفعلون بهم ما يشاؤون. وإلى أن يتغير ذلك، فكل الباقي كعزيف الجن في أرض عراء!

إننا أناس مأخوذون بالعواطف التي كثيراً ما تكون متعارضة. ولعل من المبرر أن تثور العواطف لدى دخول المستوطنين باحات "الأقصى" باعتبار أنه رمز ديني. لكن هذه الحقيقة ينبعي أن تُستكمل بحقيقة أنه رمز لاحتلال فلسطين أيضاً. وإذا كانت فلسطين محتلة، فإن ذلك ينبغي أن يستوجب الغضب الدائم غير الموسمي ولا المرتبط بحدث غير منفصل قطعاً عن سياق الاحتلال المتواصل. وفي الحقيقة، نعرف عما حدث لبقية مساجد فلسطين، التي هي مقدسة أيضاً، والتي حوّلها الاحتلال إلى خرائب تلقى فيها القمامة أو أماكن عبادة يهودية. فلماذا لا يغضب لها أحد؟ وكذلك، كل بيت وحجر وحقل بالنسبة لصاحبه الفلسطيني مقدس، وهو كله مصادر ويداس ولا يغضب أحد!

 عن جريدة الغد