• 23 تشرين الثاني 2016
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : بلال حسن التل 

 

قلنا في المقال السابق, أن من أهداف ندوة «الأوقاف الذرية في القدس» التي نظمها منتدى الفكر العربي, والمعهد الملكي للدراسات الدينية, برعاية ومشاركة صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال, البحث عن سبل إبقاء شعلة الأمل متقدة لدى المقدسيين وأن من هذه السبل تفعيل دور الوقف الذري, ليكون عنصر بناء وثراء لأبناء القدس وصمودهم, من هنا تأتي أهمية الدعوة التي أطلقها سمو الأمير, بضرورة مراجعة المفهوم التقليدي للوقف, وإزالة المعوقات التي تحول دون تحويل الوقف إلى مصادر ثراء وغناء وصمود, وتوظيفه لخدمة المواطنة الأصيلة في القدس, ودعم صمود أبنائها.

علاوة على مافي دعوة سمو الأمير من أهمية لضرورة مراجعة التجربة التاريخية للأوقاف التي كشفت عن الكثير من القيود التي تحول دون الاستفادة المثلى من الوقف, وبالتالي ضرورة إيجاد السبل والحلول الفقهية للتعامل مع هذه القيود وإزالتها, ومن ثم التخلص من آثارها السلبية على الوقف,علاوة على ذلك كله, فإن دعوة سموه تصب في تيار المطالبة بالإصلاح الفقهي العام, الذي أصبح ضرورة ملحة في أيامنا هذه, التي أفرزت فيها معطيات الحياة الكثير من الحقائق والوقائع التي لم تعد الأحكام الفقهية الموروثة تلبيها, فمن المعروف أن الفقيه والمجتهد يتأثر أولاً ببيئته وبالمعطيات المتوفرة بين يديه ساعة إطلاق حكمه الفقهي, الذي يتأثر أيضاً بحجم المعارف والعلوم لدى ذلك الفقيه, ولا يماري أحد في أن تغيرات جوهرية طرأت على البيئة وعلى حجم العلوم والمعارف, مما صار لابد معه من اجتهادات فقهية جديدة, تلبي احتياجات العصر وتجيب على أسئلته, وتنقذ المسلمين من الحرج في الكثير من المسائل الذي لم يعد الموروث الفقهي يتناسب فيها مع معطيات العصر, ولعل ما تعانيه بعض وجوه الوقف من إشكاليات خير مثال ودليل على حاجتنا إلى إعادة النظر في بعض الاجتهادات الفقهية, وهو ما عبر عنه صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال بدعوته إلى مراجعة المفهوم التقليدي للوقف. وهي دعوة تصلح أيضاً كمدخل لإحياء الدور الحضاري للوقف في حياتنا, ومن ثم إعادة الحياة إلى المجتمع المدني في حضارتنا, أي أن يعود الوقف رافعة أساسية من روافع النهوض الحضاري لأمتنا, كما كان في السابق, عندما كانت لدينا وقفيات تغطي كل جوانب الحياة, ابتداءً من البعوث العلمية وانتهاءً بالأوقاف التي تُعنى بالحيوانات الضالة, وما بين هذه وتلك, من بناء للمدارس والمعاهد والمكتبات العامة والطرق والجسور والمستشفيات, علاوة على محاربة الجوع والفقر, أي كل مكونات التنمية الشاملة المتوازنة بمصطلح هذا العصر. 

إن أي دارس لتاريخ الوقف ودوره في حضارتنا سيجد دون كبير عناء أن المجتمع المدني في بلادنا كان شريكاً أساسياً في صناعة التقدم والازدهار فيها,خاصة من خلال الأوقاف, وهو دور لابد من العودة إليه, ولعل ندوة « الأوقاف الذرية في القدس» تكون مدخلاً مهماً من مداخل إعادة إحياء الدور الحضاري للأوقاف, خاصة وأن سموه أثار سؤالاً جوهرياً عن سبل تطوير مفهوم الوقف, ليصبح عملاً إنمائياً اجتماعياً, يُحسن من إدارة الأولويات وفقاً للقاعدة الفقهية « المصلحة غاية الحكم», متسائلاً سموه أيضاً عن كيفية تنمية رأس المال بمفهومه الواسع, مقترحاً وضع خطة إنمائية للقدس من خلال تحويل القدس إلى منطقة تنموية, وبذلك نعزز من دور الأوقاف في حماية القدس, فمن المعروف أن الأوقاف المقدسية الإسلامية منها والمسيحية, شكلت ومازالت سداً منيعاً في وجه المخططات الإسرائيلية واعتداءاتها المتكررة, وسعيها لابتلاع المدينة المقدسة, وتغير هويتها, وهي الهوية التي تلعب الأوقاف دوراً رئيسياً في الحفاظ عليها, خاصة وأن السجلات الوقفية في القدس تشكل مصدراً هاماً من مصادر التاريخ السياسي والاجتماعي والحضاري للمدينة, مما لا يمكن معه التلاعب بحقائق المدينة ومكونات تاريخها الحضاري, وفضائها الديني, ولعل مما سيعزز أهمية هذا الدور مشروع أطلس الأوقاف المقدسية الذي يجري إعداده لأول مرة في تاريخ المدينة, التي تضم حوالي1800 وقف إسلامي و240وقفاً مسيحياً, تؤكد كلها هوية القدس وتمنع تزييف هذه الهوية وفق المخطط الصهيوني الاستيطاني التوسعي.

كثيرة هي المصابيح التي أضاءتها ندوة « الأوقاف الذرية في القدس» غير أن واحدة من أهمها هو تأكيد الندوة على ضرورة وأهمية عمل جميع من لهم علاقة بالأوقاف في القدس, سواء في المحاكم الشرعية أو الأوقاف أو متولي الوقف وغيرهم, بروح الفريق الواحد, سداً لأية ثغرة قد يتسلل منها العدو الإسرائيلي, الذي يتربص بالقدس وأهلها, والذي تحبط الأوقاف الكثير من مخططاته, من هنا تاتي أهمية تماسك جبهة الأوقاف في ظل الرعاية الهاشمية للمدينة المقدسة وأوقافها, وهي الرعاية التي يثمن المقدسيون أهميتها في صمودهم وحماية أوقاف مدينتهم ومن ثم هويتها. 

الراي الاردنية