• 1 كانون أول 2016
  • أقلام مقدسية

 


بقلم : د. عودة مشارقه


ما بين الثاني من تشرين ثاني والتاسع والعشرين منه، يعيش الفلسطينيون أحداثاً وذكريات، فيها غصة وإحساس عميق بالظلم التاريخي الذي مارسته (دولة عظمى) بحق الشعب الجريح، الخارج لتوه من فقر ضرائب الخاوات والأتاوات، وسطوة (المخاتير) المتنفذين لدى (الباب العالي)، وبقايا نفوذ تركي حلّ به الوهن، يندحر يوماً بعد يوم، وخلال تشرين يعود الحنين، ذكرى رحيل رمز الثورة الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات، يتبعها رمز الكفاح والمقاومة، الذي قضى شهيداً في التاسع عشر من هذه التشرين، ويده قابضة على الزناد، الذي روى بدمائه الأرض، إنه الشيخ المجاهد عز الدين القسام.
ثم الإعلان عن يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، وكأن تشرين شهر فلسطيني بلوحة فنان تحكي قصة (ألم وأمل)، لكن الألم تحقق واتشح بسواد الموت، والحكم بإعدام الفلسطيني لمجرد حيازته بضع طلقات دون سلاح، فالإنتداب البريطاني على فلسطين بقرار عصبة الأمم المتحدة، راح ينفذ وعد آرثر جيمس بلفور المشؤوم، والذي كان في حينه زير خارجية بريطانيا، في رسالته الموجهة في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
لم تتردد بريطانيا في تعيين سفراء وقناصل على درجة من العلم والوعي بالبلاد التي يُنتدبون إليها، وفي الأعوام الأخيرة، ظهر جلياً للشعب الفلسطيني ما يقوم به القناصل البريطانيون من نشاطات ومشاركات اجتماعية، ومؤسساتية، وفي مواسم لها بصماتها في حياة الناس، مثل موسم الزيتون، أو مساعدة ودعم برامج ذوي الاحتياجات الخاصة، أو دعم المرأة الفلسطينية والفئات المهمشة...الخ.
لقد التقيت وخلال عملي الرسمي السابق، القنصل البريطاني العام آنذاك السير فنسنت فين الذي يتقن العربية بطلاقة تامة، وخلال حوارنا التعارفي سألته: متى ستعترف بريطانيا بذنبها وما أوقعته من ظلم تاريخي ضد شعبنا الفلسطيني؟ وأتبعت قائلاً بأن ألمانيا أبدت بوضوح شعورها بذلك تجاه اليهود لأسباب تعود إلى ما يطلق عليه بالهولوكوست، وما فعله هتلر، ونتيجة لهذا الشعور تعاطفت ألمانيا بقوة مع دولة الاحتلال، وقدمت له وما زالت المعونات والمساعدات الهائلة، ومنها على سبيل المثال تقديم غواصة ألمانية متطورة جداً لإسرائيل ومساعدات أخرى عديدة، بالإضافة إلى الدعم السياسي الكبير، وسمح لي بأن أطرح سؤالي الأخير: هل ستعترف بريطانيا بدولة فلسطين كعضو كامل الحقوق العضوية في الأمم المتحدة؟ علماً أنني أعرف الإجابة سلفاً وفعلاً كما توقعت.
للوهلة الأولى لم تُعجب تساؤلاتي بعضاً من زملائي الحضور، وقد دفعني ذلك للإصرار عليها، وتلك قناعتي كفلسطيني، بأن بريطانيا سبباً رئيسياً في مأساتنا التي نعيش، ولن تحقق لنا هذه المساعدات الاستهلاكية تطلعاتنا الحالية حتى من الكل الأوروبي، فنحن تواقون لدولة حرة مستقلة ذات سيادة وطنية كاملة، ولن تكون أكياس من دقيق وموازنات لوظائف بعقود، أو أثاث مكتبي وأجهزة حواسيب بديلا لها.
وعلى نهج سلفه يواصل القنصل البريطاني العام في القدس، الدكتور أليستر مكفيل الدور، ولا يتردد من المشاركة والطاقم القنصلي في قطف الزيتون مع العائلات الفلسطينية، التي فقدت أجزاء من أراضيها خلف الجدار العنصري، أو تلك التي يعتدي على أشجارها المستوطنون المحميون بقوات وعسكر الاحتلال، ولا يتورع سعادة القنصل مكفيل عن طرح الحقائق التي عاشها وشاهدها بأم عينه، مثل صدمته من نتائج اعتداءات المستوطنين على قرية اليانون أو عانين، مشيراً إلى خسارة الفلسطينين لعدم مقدرتهم على قطف ثمار بعض أشجار الزيتون، مقدراً إياها ما بين 30-45 مليون دولار أمريكي سنوياً.
إن ما يقوم به القنصل مكفيل محط تقدير واحترام شعبنا، وما تقدمة الحكومة البريطانية من نشاطات داعمه تستحق الشكر والثناء، لكنه في العرف الدبلوماسي مجرد علاقات عامة، تحقق الفعالية المطلوبة من الاتصالات المؤسساتية والشعبية لأولئك الذين يعرفون السبيل للوصول إلى قلوب الناس، ونسج علاقات التواصل، طلباً للمعلومات التي يمكن توظيفها بكفاءة في السياسات والقرارات، التي تمكن الدولة من إنجاز قاعدة بيانات دقيقة، في إطار إدارة المعرفة بالدول والشعوب التي يتواجد فيها سفراؤها، تجعلها قادرة على لعب الدور المطلوب فيها، وفقاً لسياساتها الخارجية وحساباتها الدولية على الحلبة السياسية العالمية، التي تضمن لها بقاؤها ونماؤها وسيطرتها، لتظل ضمن المجموعة التي تقود العالم، المهيمنة على المؤسسات الأممية، وذلك من أبجديات السياسة الدولية للقوى العظمى.
لقد أكد السفير مكفيل في مقالاته المنشورة في الصحافة الفلسطينية باللغة العربية، وضمن لقاءاته الإعلامية مع الإذاعات وبعض الفضائيات، على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة على حدود العام 1967م، مشيراً إلى إدانة حكومته لدولة الاحتلال في إنشاء المستوطنات واعتداءات المستوطنين، وأن المملكة المتحدة ستدعم الفلسطينيين، وقد قدمت ما قيمته (67) مليون دولار أمريكي للسلطة الوطنية الفلسطينية خلال الفترة 2013-2014م، وهذه المساعدة فقط حسب تعبيره جزء من التزام بريطاني بدفع 217 مليون دولار أمريكي للفترة 2011-2015م.
وهنا نقول ليس هذا هو المطلوب الإستراتيجي من بريطانيا لدعم الفلسطينين، وهي التي نفذت مع دول أوروبية أخرى سياسات تقاسم الأدوار، لاستغلال ثروات الأمة العربية، وتقسيم المنطقة إلى دويلات هزيلة متناحرة متناثره متفرقة إلى الأبد، وهذا هو الواقع العربي المعاش الذي خططت له منذ عقود، ولم تفلح كل لجانها التي أرسلتها إلى فلسطين لمعالجة ثوراتها الشعبية في محاولة لتهدئة الفلسطينيين، وهذا ابتداءً من بلفور الشؤم والنكد، مروراً باتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو، وهي مؤامرات دفع الفلسطينيون ثمنهاغالياً، ليعيشوا الغربة والسجن والقهر والموت ظلماً وزوراً وبهتاناً، وما بقي أمام بريطانيا أو المملكة المتحدة، إلا أن تدرك ما فعلته وما أوقعته من ظلم تاريخي، إذ لا تكفي اسعافات أولية لجروح عميقة أصابها التلف المزمن، وأنه آن الأوان لقول الحقيقة والإعتذار لشعب العذابات والإعدامات، وعليها أي بريطانيا إن أرادت إصلاح ما أفسدته، هو السعي الحثيث عبر المجموعة الدولية التي تقود المعمورة إلى إنصاف الشعب الفلسطيني، عبر وعد جديد بإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة الوطنية المستقلة والكاملة كباقي دول العالم، وإلا ستظل نشاطات القنصل ومقالاته ونشاطاته وتضامنه مع الشعب المظلوم امتدادا لحكاية بلفور، وسياسات تقاسم الأدوار بين الكبار من تجار الاقتصاد العالمي، والتي تصبح مكشوفة للشعب الفلسطيني خاصة، ولشعوب المنطقة العامة، فهل ستصل بريطانيا حد الجرأة وتعلنها على رؤوس الأشهاد أنها مذنبة بحق الشعب الفلسطيني، وأنها ستحمل همه السياسي للتكفير عما حصل، أم ستظل تلطم على مأساتنا بحفنة من الدولارات والمساعدات.