• 18 آب 2017
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم: البطريرك ميشيل صباح

غضب يسوع المسيح على الباعة في الهيكل، وقَالَ لهم: «ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ». فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي» ( يوحنا 2: 16-17). غضب يسوع المسيح لأن الناس حوّلوا بيت الله من بيت صلاة إلى بيت تجارة. وتذكر التلاميذ ما ورد في الكتب القديمة، في كتاب المزامير: أنّ «غَيْرَة بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي» (مزمور 69: 10).

واليوم نشهد غيرة الكثيرين من أبناء الكنيسة يغضبون لممتلكات الكنيسة ولحرصهم حتى يبقى "مال الله لله"، ومال الكنيسة للكنيسة، ولا يصبح موضوع توازنات سياسية ولا موضوع صفقات تجرد الكنيسة من مالها، وتجرد المؤمنين، وتصبح مصدر تفرقة وانقسام بين الرؤساء والمؤمنين.

القضية أورثوذكسية، ولكنها قضيّة مسيحية. بمعنى أنّ كل مسيحي يهمه أن تكون الكنيسة الأورثوذكسية كنيسة مزدهرة قوية حية بوحدة رؤسائها ومؤمنيها، وبإيمانها وبأوقافها. كما يهمه أن تكون كل كنيسة سندا لكل كنيسة.

الأوقاف: يسوع المسيح أوصى رسله قال: "لا تحملوا كيسًا ولا مالًا (لوقا 10: 4). ومع ذلك، فالكنائس أصبح لها مع الزمن مال ووقف. أغناها أبناؤها. أو السلطات المدنية في مختلف العصور، بعضها أغناها وبعضها سلبها. ونحن الآن في فترة تاريخية تُسلَب فيها الكنيسة.

المال في الكنيسة لا بد منه، على أن يكون مالًا خادمًا للمؤمنين مقوِّيًا لإيمانهم، نزيهًا، لا مفسدة للكنيسة.

الكنيسة الأورثوذكسية في فلسطين "ملّاك" كبير، ينظر اليها الكثيرون بطمع واضح، مع أن دعوة الكنيسة هي أن تحمل بشارة الإنجيل السارّة إلى جميع الناس، إلى أهل الحرب وأهل السلام. ليست دعوة الكنيسة أن تكون صاحبة مال. قال يسوع المسيح: "لا تحملوا كيسًا ولا مالًا" (لوقا 10: 4). الأوقاف؟ هي مال لخدمة المؤمنين. صاحبها هم مَن مِن أجلهم أُوقِف المال. فالأوقاف في الكنيسة هي للكنيسة، والكنيسة هي الجسد الواحد، رؤساء ومؤمنون، وهي لأعمال الخير والمحبة والعدل والسلام.

التلاميذ في القدم باعوا كل ممتلكاتهم الخاصة (سفر أعمال الرسل الفصل الثاني والرابع)، ووضعوها عند أقدام الرسل لتكون مصدر حياة للجماعة. هذا أساس وجود المال في الكنيسة: المشاركة، بحيث يجد كل واحد كفايته ولا يبقى أحد في الجماعة المؤمنة محتاجا. ولما تكوَّن هذا المال، أوجد الرسل هيئة جديدة هم الشمامسة ليقوموا بخدمة المال، بخدمة الشراكة في المال، حتى لا يبقى أحد محتاجا. اليوم، المحتاجون في الكنيسة كثيرون. وأموال الكنيسة فصلت عن مفهوم المشاركة. وألغيت المهمة الشماسية في خدمة المال، واسترجع الرؤساء هموم المال، وكل ما يجر عليهم ذلك من متاعب، وما يسبب من فصل بينهم وبين الجماعة المؤمنة. وهذا موضوع بحاجة إلى دراسة معمقة متأملة مصلية. في الكتاب المقدس مصدر المال إذًا هم المؤمنون أنفسهم. وهدف المال هم المؤمنون أيضًا. وهذا يحتاج إلى إعادة نظر في مال الكنيسة، وإعادة نظر في التعامل معه، من قبل الرؤساء والمؤمنين: الكل شركاء في العطاء أولا، ليكونوا شركاء في "الاكتفاء"، لا أحد يعتبر الكنيسة بيت مال، ولا أحد يجعل مال الكنيسة مال تجارة ينتفع به الغني، أو يسلبه أهل الحرب، ويبقى المحتاج محتاجا.

والوقف هنا في فلسطين؟ الوقف أرض. والأرض في فلسطين هي موضوع صراع. والوقف أرض فلسطينية. فتمريرها إلى شعب آخر في حالة حرب، هو عمل حرب. هو خروج على الشعب، وعلى المؤمنين، وخروج على الكنيسة التي رسالتها رسالة عدل وسلام. تبديل ملكية الوقف، أي أرض الكنيسة، هو عمل حربي، هو تجريد الكنيسة، وتجريد المؤمنين، وتجريد فلسطين من جزء منها.

عبر:

القضية أورثوذكسية ولكنها، كما قلنا، تهم كل مسيحي. وهي قضية إنسانية. لأن الصعاب والتحديات التي تواجهها الكنيسة الأورثوذكسية تواجهنا جميعا. قال يسوع المسيح: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" كل واحد منا، وفي جميع الكنائس، كيفما نظر أيّ واحد منا إلى ذاته في إيمانه، كل واحد منا في كل كنيسة، الرؤساء والمؤمنون، أغصان في المسيح الكرمة الحية. هذا هو العمق المسيحي الذي ننظر منه إلى واقع الأوقاف الأورثوذكسية وغير الأرثوذكسية. وعلى هذا الصعيد وفي هذا العمق ننظر في بقائنا، لأن القضية المسيحية في القدس وفي فلسطين هي قضية بقاء.

كلنا نحن المسيحيين في حاجة إلى مراجعة وإعادة نظر ومراجعة مواقفنا الإيمانية ووحدة مواقفنا وحضورنا في مجتمعنا. كما أن أهل الحرب أنفسهم في حاجة إلى مراجعة مواقفهم، حتى يكفوا عن الحرب ويدخلوا طريق الحياة والحق السلام. نراجع أنفسنا فنرى أن مال الكنيسة تحوّل عن هدفه. وأهل الاطماع سلبوا الكنيسة والمؤمنين هدفهم وبشارتهم.

في يومنا هذا يسمع المؤمنون عن صفقات بيع وتأجير من قبل الكنيسة، لها تبعات سياسية خطيرة عليهم وعلى الكنيسة. بعض الأوقاف في باب الخليل وضعت في أيدي جماعات متطرفة من أهدافها إقصاء الفلسطيني المسيحي أو المسلم على السواء. مال الكنيسة هو لحياة المؤمنين، وأصبح مصدر إقصاء للمؤمنين أنفسهم. الإنسان الفلسطيني والمسيحي بالذات يواجه أزمة بقاء في القدس، السكن وغير السكن. ومال الكنيسة يأخذه الغرباء. يسمع المؤمنون بصفقات الملايين، وكثير من المؤمنين في حالة "حرمان" ومهدَّدون بالإبعاد.

كل هذه الإشكاليات تضعنا امام مواجهة الحقيقة، ومواجهة مسؤولياتنا. هذا وقت اجتماع الجماعة وإعادة تفعيل الشراكة بين المؤمنين، بين الرؤساء والمؤمنين، وبين الكنيسة ومجتمعها، وبين الكنائس كلها. الكنائس كلها مسؤولة لتحديد وجهتها ورسالتها في الارض المقدسة. من يبدأ هذا التحرك نحو الحياة؟ القضية هي قضية بقاء كل الكنائس. هي قضية رسالة كل الكنائس. من يبدأ التحرك نحو الحياة؟

. القضية الأرض المقدسة كلها بيت الله، وقد منحنا الله أن نكون من سكانها. وأرضنا تطلب منا أن نبذل جهدا لنستحق أن نكون من سكانها، جماعة تحب بعضها بعضا، مسؤولة بعضها عن بعض، ومسؤولة عن مجتمعها، حاضرة فيه وأقوى من الحرب فيه، حامية لأوقافها من الحرب، وصانعة حق وعدل وسلام.

عن القدس