• 15 شباط 2018
  • أقلام مقدسية

 

 تشكر ” اخبار البلد“ الدبلوماسي  التركي المعروف ”ارشد هورموزلو ” صاحب الخبرة الواسعة الذي خص  شبكة ” اخبار البلد“ المقدسية باعادة نشر مقالاته وتحليلاته لإهميتها في معرفة الواقع المحيط بنا ، ونشكره على هذه الثقة الغالية

 

بقلم : ارشــد هورموزلو

 

كثر الحديث عن موقع تركيا في الحياة المعاصرة ووقع الكثيرون في حيرة اختلاط المفاهيم بين الدولة والحكومة في عصرنا الحاضر. فالدولة مفهوم وعقد اجتماعي بين الشعب والمنظومة التي تضم أفراده من موال أو معارض، من محب أو كاره.

أما الحكومة فهي الأداة التي تحكم ما تضعه الدولة من مفاهيم لمدة محددة، تذهب بعدها أو تواصل الصعود. من هذا المنطلق اعترضت دوما على الحملات الإعلامية التي تظهر الى العلن كلما دب خلاف بين حكومة وأخرى، بينما مفهوم الدولة باق لا تراجع فيه ولا بعث جديد.

من هذا المنطلق ندعو دائما الى الحفاظ على مؤسسات الدولة حتى إذا تغيرت الحكومة أو تغير النظام. خذوا مثلا على ذلك تركيا كدولة كانت امبراطورية في وقت ما وأصبحت جمهورية فتية بعد سقوط النظام وليس الدولة. أتعلمون أن قانون الإدارات المحلية قد تغير في عام 2004 بعد أن ظل نافذا منذ أواسط عهد الدولة العثمانية، والأمثلة كثيرة على ذلك.

في هذا النطاق أود ومن زاوية المواضيع التي تطرح دوما على بساط البحث أن أشير الى أمور ثلاثة:

أولا: نظرة تركيا وبغض النظر عن تجاذبات حصلت في أمر أو آخر في السنين الأخيرة نحو الدول صغيرة كانت أو كبيرة هي نظرة التوجه اليها كدول ذات ندية، تشعر تركيا بالاحترام ازاءها وتحترم حقوقها ووحدة أراضيها وسيادتها. هذه الحدود التي تود مجاميع شعبها الحفاظ على وحدتها وكينونتها مقدسة وغير قابلة للتغيير، ولكنني أقول دائما أن هناك حدودا تجب ازالتها وهي الحدود والعراقيل التي هي بين الأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تجمع هذه الشعوب والمجموعات من أجل مستقبل مشترك.

يقودني هذا الأمر الى طرح أفكار وادعاءات ّ العثمانية الجديدة ّ التي تطبخ في محاور إعلامية واجتماعية كثيرة رغم التصريح الواضح بالأفكار التي ذكرتها قبل قليل.

هل تعلمون أن أسس الجمهورية التركية الحديثة والتي تأسست بعد سقوط الدولة العثمانية وحرب تحرير ضد قوى التسلط والاحتلال والتي دامت أربع سنوات الى عام 1923 قد بنيت على مفاهيم ّ الميثاق الوطني ّ والذي اعتمده آخر ّ مجلس المبعوثان ّ كما كان يسمى أي مجلس النواب، واعتمدت من قبل حركة التحرير وقادة النضال الذي توج بإعلان الجمهورية ولا زال يمثل ضمير الشعب التركي بمختلف أطيافه. لإن هذا الميثاق ينص في مادته الأولى ما يلي:

(ان مستقبل الأراضي التي كانت تسكنها أغلبية عربية والتي كانت ضمن الدولة العثمانية وتم احتلالها من قبل القوات المعادية في وقت وقف إطلاق النار بتاريخ 30 أكتوبر 1918 يتحدد بالتصويت الحر لسكانها وبيان رغبتهم في تحديد مستقبلهم.)

هل يكفي هذا التصريح والتعهد لأنهاء مقولات العثمانية الجديدة وسياسة توسعية مزعومة للجمهورية التركية في هذه المناطق؟ إذا كان الجواب نعم فابحثوا عن السياسات التوسعية في اتجاه آخر.

لقد قلت في مناسبات سابقة أنه كما لا توجد عباسية جديدة أو أموية جديدة فلا توجد هناك عثمانية جديدة، وفي يوم غابر كان البعض يتغنى بنموذج تركي. آنذاك كنا نقول إن النموذج التركي غير صالح للتصدير، فان من الممكن استلهام أية خبرة أو تجربة ناجحة. اذ لا ضير أن يستلهم البعض خبرة معينة كما نستلهم نحن في تركيا أية تجربة ناجحة مثل تجربة الامارات العربية المتحدة او الأردن او مصر أو غيرها. ولكننا يجب أن نعلم بأن كل بلد وكل مجموعة اجتماعية لها نموذجها الخاص بها، ولا يمكن استنساخ تجربة أخرى إطلاقا حتى ولو كان في حيز الممكن استلهام بعض الجوانب الناجحة لإضافتها الى النموذج المعني.

ثانيا: المرض الذي يتهدد العالم

إن جميع هذه التجارب والتي سبق ذكرها تتعرض حاليا لمرض اممي ودولي كبير وخطير في نتائجه. وإن لم يجتمع الدولي على الاتحاد في مجابهته ومعالجته والتصدي له فسوف لن تبقى تجارب ناجحة ولا خبرة يمكن الاستلهام منها.

وقبل أن أتبسط في خفايا هذا المرض الخطير أود أن ألفت النظر الى ممارسات المجتمع الدولي في التساند لمحو أمراض معينة كانت مجالا لتهديد الحياة المريحة في أقطار متعددة من العالم وتراجع أثرها بفضل الاجماع الدولي على محاربتها.

اسألوا أولادكم وأحفادكم ماذا يعني مرض البلهارسيا أو الملاريا. كثير منهم لم يسمع حتى بأسماء هذه الأمراض لأنها تتجه الى الانقراض بفضل هذا التساند الدولي وإن كانت تظهر بين الفينة والأخرى في دول لا تزال تعاني من الفقر والعوز والافتقار الى العناية الصحية المستندة على قواعد الوقاية.

ولكن المرض الذي أردت الإشارة اليه هو الإرهاب الدولي. إنه المرض الذي سيقضي على مستقبلنا وآمالنا في حياة حرة سعيدة. فإن لم يجتمع المجتمع الدولي على التصدي له مهما كانت أسبابه ومبرراته فسوف يلتهم آمال أجيالنا القادمة.

ولعله يجب أن أذكر طريقتين يتحتم علينا اتباعهما للحيلولة دون استفحال هذا الخطر الذي يتهدد مستقبلنا،

 الأولى تتمثل في التركيز على التعليم الجاد الحضاري الذي ينشأ أجيالا جاهزة للنهوض بالأمة. وفي تركيا وبغض النظر عن أية اختلافات سياسية ومنهجية بين الحكومات والمعارضة فهناك أولوية واحدة لدى الجميع تتمثل في التركيز على التعليم. ولو سألت الحضور عما يعتقدونه من أولوية في ميزانية الدولة لدينا فإنني أتصور أن الكثيرين سيجيبون بأنها للدفاع. ودعوني اذكركم بأنها حاليا ومنذ عقود هي للتعليم.

أما الطريقة الثانية وقد تكون أقرب للمفاهيم التي نتناولها فإنها تتمثل في الامتناع عن الحملات الإعلامية وتلك المضادة كلما نشأ خلاف بين دولتين في هذه المنطقة أو غيرها. إن التركيز على الأخطاء في الطرف المقابل وحث الجماهير على تنمية الشعور بالكره والحقد والمواجهة تجاه الآخر مهما كان وكائنا من كان يقود الى خلق حالة من الضغائن والرغبة في الانتقام ويحفز ذلك ممن يتصيدون هذه الظاهرة لتبويبها نحو الفعل بدلا من القول وتحريكهم للإحنكام الى السلاح بدلا من الحوار وقد يقود ذلك الى سيطرة أفكار راديكالية على طرق التعامل وهذا سوف ينتج أخطارا لا يحمد عقباها.

حري بنا ان ندعو الكل الى نبذ الاعتماد على الحملات الإعلامية في وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والاتجاه الى الحوار الهادئ واحترام فكر الآخر طالما لا يجنح الى العنف.

ويكفي لإيضاح ذلك ما اقتبسه هنا من مقال للسيد عماد عباس يقول في قسم منه:

 ّ ما أن تبرز أزمة جديدة أو يلتهب جرح أزمة قديمة حتى تجتاح أجسادنا حمى التشهير والانتقام والانتقاص من بعضنا، نستخدم وسائل كثيرة لتسقيط الآخرين، نستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ونستشهد بأقوال الأولين والآخرين 

للنيل من الآخرين. نستحضر كل قصص التفرقة التي مارسها الاستعمار الإنجليزي من الهند الى العراق والتي نحفظها عن ظهر قلب، فندخل عليها تحسيناتنا وتحديثاتنا لتلائم روح العصر ثم نسقطها على خرائطنا لنجهز بها على بعضنا. ّ

 

ثالثا: طرق التعاون

إن أسلم طريقة للتعاون يتمثل في التكامل. فالعلاقات بين الدول تستند على ضلعين مهمين، أولهما المشاعر والتفاهم الاجتماعي والثقافي والديني، فتركيا مثلا تعتبر هذه المنطقة عمقها التاريخي والديني والاجتماعي وتود أن تكون في نفس رقعة الصورة التي تجمعكم وأتصور أن الكثيرين من أفراد المجتمعات في هذه الدول تشعر تجاه تركيا بنفس الشعور.

والضلع الثاني يتمثل في التكامل الاقتصادي، فهناك هدر كبير في تكرار المشاريع التي يمكن أن تتوحد في هذه الدولة لموضوع معين بينما تتركز في أخرى لأمر آخر. خذوا مثلا الصناعات الدفاعية فأننا لسنا في حاجة الى البعيد عندما نستطيع أن نتكامل في منطقتنا بتكنولوجيا حديثة موحدة تخدم الكل وتوفر عليهم الانفاق غير الضروري.

فاذا اجتمع الضلعان كما هو الحال في منطقتنا فسوف يكون التكامل اقتصاديا وثقافيا سهل التنفيذ وخاصة عندما نتقبل موضوع الاستلهام المتبادل للخبرات والمفاهيم كما تم ذكره فيما سبق.

أخلص الى القول وعودا على بدء أن تركيا لا تعيش فورة من انطلاقة جديدة ولا تعاني من تراجع واحباط وهبوط. لا هذا ولا ذاك. بل أن هذا البلد الذي يضع أقدامه على قارتين مختلفتين ويطير بأجنحة متعددة جاهز للاستماع االى الكل وإجراء حوار حضاري يفيد الكل عندما نفكر في مستقبل أجيالنا القادمة.