• 17 شباط 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : د .علي قليبو

 


“كوكب اليابان" مصطلح  مزعج متداول بين الفلسطينيين والعرب عامة  كإشارة انهم يختلفون جذريا عنا.... سرعان من يكتشف من يقيم باليابان ويعاشر اليابانيين انه لا يوجد فرق بين إنسانيتهم وبيننا فهم ليسوا كائنات من كوكب اخر بل ثقافة وحضارة عريقة نتشارك  معها نحن الفلسطينيين خاصة بسمات عديدة ولولا فارق اللغة لما احسست بالغربة  اطلاقا!

النظام  وصرامة تطبيقه  وطاعة الشعب الياباني  وتربيتهم على احترام القانون والانصياع له كبيرا وصغيرا هو احدى اعظم الفروق بيننا وبينهم وتقف نزعتنا الفردية حاجزا  في مسيرة وتطبيق القانون  بينما نجد ان روح الجماعة والتعاون بين أفراد المجتمع بالمدرسة والعمل والبيت هو  الأساس الذي نغبطهم عليه لأدبهم وحسن   معشرهم.... وخلاف مجتمعنا لا يتربصون لبعض بالشر والنميمة ومحاولة الإيقاع ببعضهم البعض والشماتة. حيث ان الشيطان في المجتمع الياباني  يبقى خارج الإطار الاجتماعي وهناك طقوس دينية موسمية لطرده: عندنا الشيطان منا وفينا (ينخر في عظمنا) أما عندهم فهو حب السلام وإيثار الآخر على الذات  ومراعاة اداب وعادات المجتمع. وتجنب التميز والظهور على حساب الآخرين ....

كما نحب ان نقول ان اليابان "بلاد مسلمين بدون إسلام " وهذه اهانة لهم حيث انهم يعتزون بديانتهم بعقيدتهم فالأخلاق ليست محصورة بالإسلام! 

لا يختلف اليابانيون عنا سوى بالنظام الصارم الذي  لا يترك لا شاردة ولا واردة بدون  ان ياخذها بالحسبان فيحاولون قدر الإمكان توقع الحوادث.

فتجد اليابانيون قد رسموا الموقف الإنساني بكل تفاصيله بدلا من المثل العربي  " ابعد عن الشر وغني له" تجدهم قد درسوا كل   المواقف المجتمعية، ليتجنبوا اي احتكاك قد يولد العنف اي حادث قد يصيب بالشر. فينتشر في ارجاء البلاد رجال امن ليسوا بشرطة ولا أفراد جيش بل هم كادر كامل متكامل من  الموظفين  على  نواصي محطات القطارات ، على أماكن عبور الجموع من المدارس او  مداخل ومخارج السوبر ماركت. وكل مكان  لينبهوا السيارات وعابري السير   و لينظموا حركات المرور...

احيانا امر يوميا بما لا يقل عن العشرات منهم حيث تكون مهمتهم  في  توفير طريق أمنه للطلاب صغارا و كبارا (ما يوازي مرحلة التوجيهي ) ومساعدتهم لعبور الشوارع بدون حوادث...كل النظام مبني بصورة متكاملة حتى إمكانيات الحوادث وأماكن حدوثها مرصودة  لتجنبها. فتجد انهم في عملهم لا يتوقفون عن الطاعة والانصياع للإرشادات فحسب ولكنهم ايضا  فطنين  منتبهين يعملون بكل جد واخلاص وتفانٍ  فلا تلكؤ ولا مماطلة ولا تباطؤ لآداء الواجب، وبأسلوب جميل نجدهم يسرعون الخطى في تلبية الطلبات أيا كانت.

إن النظام الياباني نظام صارم، يحدد لكل شخص  خطوات و مهام مرسومة ومحددة، فتجد قواعد مكتوبه في كل مكان  وتردد المايكروفونات على السلالم الكهربائية  نفس ارشادات السلامة  طول الوقت  ....

إن الشخص هنا مكبل ، فمن منظورنا نحن ممن تعود على الحياة في اوروبا او اميركا او بلادنا، فإنه لا يستطيع التنفس و ان النظام (فاطس على) نفسهم -في تعبير شعبي- و هذا كله في مقايضة مقابله الهدوء والسلام والطمأنينة. 

ونحن اخترنا ما يشبع نزعتنا الفردية من عشوائية وما يرافقها من حركات ارتجالية عاطفية هيً جزء من حضارة البحر الأبيض المتوسط!

في تجربة حدثت معي شخصيا يوم امس، فقدت كرت القطار عندما وصلت المحطة المنشودة حيث لا تستطيع مغادرة محطة القطارات بدون الكرت الممغنط والذي يحمل تفاصيل رحلاتك اليومية وطبعا يحتسب رصيدك!

فلم أستطع الخروج فتذكرت انني قد جلست على المقعد بانتظار القطار  ونبهني صديقي انه من الممكن ان أكون قد نسيته على المقعد حيث انك لا تدخل بدون  ادخال الكرت الممغنط بالمكائن لقراءته....

ذهبت الى المسؤول لأعلمه بذلك،  فأولى كلامي كل الاهتمام وطلب مني الانتظار  للقطار القادم وباشر  بالاتصال في  المحطة التي صعدت منها الى المترو ....

لا تدري دهشتي حين وصل القطار التالي بعد خمس دقائق وكان  الكرت مع سائقه الذي احضر الي الكرت بكل فخر واعتزاز....

وهكذا  و في خلال ما لا يزيد عن عشر دقائق تم حل المشكلة   ...

إن فرصة فقدان الكرت و الممتلكات الأخرى، هي مرصودة و معروفة وحلولها  سريعة وناجعة، فكل النظام مبني على التخفيف من حدة التوتر، و ذلك لضمان سير الأمور في طريقة سلسة.

بالصورة ادناه موظف المحطة الفخور  وقد وقف معي قي صورة تذكارية.

كلمة اخيرة:

يتداول  العديد من الفلسطينيين اقاويل مفادها ان اليابانيين ليسوا متدينين  لا تخرج عن كونها إشاعة لا علاقة لها بالواقع اطلاقا فلم  ارى قط شعب   يوازي تقواه تقواهم وتدينهم لكنهم  بخلافنا لا يتكلمون عنه بل يشاركون بكل مواسمهم الدينية ويصلون  و يحافظوا على   عقيدتهم  ولم يصبح الدين عندهم اعلان عام ولا هو مشروع سياسي لخلق الفتن  ومع ان الإشارات الدينية تحف بك من كل زاوية  لكنهم لا يفاضلون بين دينهم ودين غيرهم   بل يعتبرونها علاقة خاصة مع الهتهم  بخلافنا حيث اصبح الخطاب الديني مصدر  انقسام وأحزاب وملل وحروب   يعاني من  نتائجها المسلمون.

اليابان ليست كوكب اخر بل شعب   انتهج السلام والطمأنينة والاستقرار  أسلوب حياة.