• 24 آذار 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : المحامي زياد أبو زياد

 

لا يمكن التعاطي مع الإعلان الأخير للرئيس الأمريكي ترمب عن الإعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان بمعزل عن تصريحه بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وقراره نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس، لأن كلا الأمرين هما وجهان لعملة واحدة وهي في صلب فلسفة الحكم في واشنطن هذه الأيام.

فالقدس والجولان هما اراض محتلة منذ عام 1967 وينطبق عليهما قرار مجلس الأمن رقم  242 لعام 1967 الذي ينص صراحة على حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية وعدم جواز ضم أراض الغير بالقوة ، وعلى احترام السيادة والسلامة الإقليمية لدول المنطقة. وكانت إسرائيل قد ضمت القدس في أواخر حزيران 1967 والجولان في 1981.

وإضافة ً لما سبق فإن القدس لا تخضع فقط للقرار رقم 242 وإنما هي مدينة ذات وضع خاص تحت إشراف دولي corpus separatum بموجب قرار التقسبم 181 لعام 1947 وعشرات القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن منذ احتلال القدس عام 1967 والتي تنص جميعها على أن ضم القدس لإسرائيل باطل وأن أية إجراءات أو تشريعات قامت أو ستقوم بها إسرائيل في القدس باطلة وملغاة ولا يترتب عليها أي أثر قانوني أو سياسي ، وعلى إسرائيل أن تتوقف نهائيا ً عن أية إجراءات تغير من واقع أو طابع القدس.

والحديث عن موقف الرئيس ترمب من القدس والجولان لا يقتصر على السياسة بل يجب رؤيته بشكل شمولي من خلال محاولة فهم ومعرفة دوافعه وأبعاده.

ولا بد لمن يريد أن يتفهم سلوك وسياسة الرئيس ترمب أن يراجع سيرته وسلوكياته قبل الوصول الى البيت الأبيض. سواء منها مغامراته في سوق المال أو طريقة أدائه حين كان مقدما ً لبرنامج تلفزيوني أو عنجهيته في حفلات المصارعة التي كان يرعاها ، وساديته في التعامل مع الآخرين. 

ولعل طريقة تصرف الرئيس ترمب في حلقات المصارعة هي التي ما زالت تتحكم في سلوكه كرئيس لأكبر دولة في العالم حيث يلاحظ بوضوح أنه يدير الشؤون السياسية العالمية وكأنه في حلبة مصارعة ، لا تهمه قيم ولا أعراف ولا مباديء وكل الذي يهمه هو الشعور بالعظمة والنصر والتفوق.

وإضافة لهذا الجانب الشخصي في شخصية وسلوك الرئيس ترمب فإن هناك جوانب أخرى لا يمكن تجاهلها وهي امتداد لشخصية حلبة المصارعة الاستعراضية المتفاخرة بالفوز وجوهرها الإحساس بالتفوق . وهنا يبرز بشكل خاص الشعور بتفوق الجنس الأبيض على الآخرين . وهذا الجانب متمكن من شخصية وسلوك الرئيس ترمب وقد وجد له تعبيرا ً في العديد من المناسبات سواء بشكل زلة لسان أو قول واضح ومقصود وكان من أبرزها تصريحاته بشأن المذبحة التي تعرض لها طلاب بجامعة فيرجينيا في تشارولتسفيل أثناء مسيرة البيض اليمينيين المتطرفين 11-12 آب 2017 حيث لم يصرح بإدانة الإعتداء من قبل العنصريين البيض المتطرفين واكتفى بإدانة العنف من الجانبين مما أثار عاصفة من الانتقاد والغضب ضد ترمب واعتبره منخازا ً للعنصريين البيض. وتكرر مثل ذلك في مناسبات مختلفة. وكانت آخر زلات اللسان تلك تعقيبه على الهجوم الإجرامي ضد المصلين المسلمين في نيوزيلانده حين قال " مع أطيب التمنيات " بدلا ً من أن يقول " التعازي".

ويبقى البعد الثالث في شخصية الرئيس ترمب وهو البعد الديني الإيفنجليستي والذي تمثل في اختياره نائبا ً له ميخائيل (مايك) ريتشارد بينس من يمين الحزب الجمهوري والمؤيد لجماعة Tea Party اليمينية المتطرفة والذي يعرف نفسه بأنه أولا ً مسيحي وثانيا ً محافظ وثالثا ً جمهوري. ويعتقد الكثيرون بأن بينس بالاشتراك مع السفير الأمريكي بإسرائيل ديفيد فريدمان ومن ورائهما عراب الإستيطان الملياردير اليهودي تشيلدون أديلسون  يقفون ، رغم اختلاف دوافعهم ، وراء التأثير على ترمب في قراراته ذات البعد الديني المسيحياني وعلى رأسها الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونزع صفة الاراضي المحتلة عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 ، وأخيرا ً الاعتراف بالسيادة الاسرائيلية على هضبة الجولان . وجميع هذه القرارات تصب في خانة الاعتقاد المسيحي الإفنجليستي بأن عودة اليهود الى أرض الميعاد وتجميعهم فيها وإقامة الهيكل ستؤدي الى ظهور السيد المسيح الذي سيقيم الدولة المسيحية.

ولا يقتصر وجود العنصر المسيحياني الإيفنجليستي على مايك بينس نائب الرئيس وإنما على عدد لا يُستهان به من كبار المسؤولين الذين يحيطون بالرئيس ترمب ومن بينهم وزير الخارجية مايك بومبيو الذي قال اثناء زيارته الأخيرة قبل ثلاثة أيام لإسرائيل في مقابلة مع شبكة الأخبار المسيحية  CBN بأن الله ربما يكون قد بعث الرئيس ترمب الى الأرض لإنقاذ الشعب اليهودي . 

ولا بد من رؤية وفهم الهجمة الشرسة ضد الإسلام والمسلمين والدعم المطلق لإسرائيل على خلفية هذا التفكير والمنهج الذي تتبناه الإدارة الأمريكية تحت الرئيس ترمب والذي بدأ مع الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن.

أما على الصعيد السياسي ، فإن من الواضح منذ الآن بأن الرئيس ترمب قد بدأ حملته الإنتخابية لانتخابات 3 تشرين ثاني (نوفمبر) 2020 وهو من أجل ذلك يسعى الى ضمان إعادة انتخابه لدورة رئاسية ثانية من خلال استمرار تأييد اللوبي اليهودي اليميني له وكذلك اليمين المسيحي الإيفنجليستي . وهذا يتضح تماما ً من قراراته وتصرفاته.

وفي إطار كل هذه التصرفات لا بد من القول بأن الرئيس ترمب بحكم وقوفه على رأس أكبر دولة في العالم إنما يُشكل بداية تغيير في السياسة الدولية وعلى وجه التحديد في دور مجلس الأمن والأمم المتحدة ، ومعنى وقيمة قراراتها في ضوء تحدي الرئيس ترمب لهذه القرارات واستهتاره بها والعمل خلافا ً لها واستخفافا ً بها.

وأذكر حين كنت طالبا ً للحقوق بجامعة دمشق في مطلع الستينيات حين كنا نشعر بالإنبهار ونحن ندرس ونحفظ اختصاصات مجلس الأمن التي تتلخص في حفظ الأمن والسلم الدوليين ( المادة 24) وحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية بطريق المفاوضات والتحقيق والوساطة والمقاربة والتحكيم والتسوية القضائية وغيرها من الوسائل السلمية (المواد 33 – 38) ، وكذلك دور مجلس الأمن في نزع التسلح وتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية وغير ذلك من صلاحيات تدعم دوره في حفظ الأمن والسلم الدوليين. 

وقرارات الرئيس ترمب بشأن القدس وهضبة الجولان وعدد من الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية المناخ وغيرها تُثير تساؤلا ً وتحديا ً أمام الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالذات وهو ما جدوى وجود مجلس الأمن والأمم المتحدة في ظل المنهج الجديد للدبلوماسية الأمريكية.

وعلى المجتمع الدولي أن لا يقف مكتوف اليدين موقف المتفرج من قرارت الرئيس ترمب بشأن القدس والجولان ليس بصفتها قرارات تهم العرب وإنما بصفتها قرارات تنزع الشرعية عن مجلس الأمن والأمم المتحدة.

وعلى المجتمع الدولي أن يبادر الى أخذ زمام المبادرة إما لثني الإدارة الأمريكية الجديدة عن الاستمرار في تهميش مجلس الأمن ونزع صلاحياته وتفريغه من محتواه ، أو البحث عن صيغة جديدة للأمم المتحدة تُعيد إليها دورها تماما ً كما حدث مع عصبة الأمم المتحدة التي جاءت الأمم المتحدة لتحل مكانها.

فهل نحن على أبواب نهاية الأمم المتحدة بصيغتها الحالية والبحث عن منظمة جديدة أكثر تمثيلا ً لإرادة المجتمع الدولي وأقل رضوخا ً لغطرسة بعض الدول العظمى وعلى رأسها أمريكا أم على أعتاب فوضى عارمة على صعيد العلاقات الدولية أشبه بشريعة الغاب القوي يأكل فيها الضعيف.

السنين والأيام القادمة ستجيب على هذا التساؤل.