• 10 تموز 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : محمد خضر قرش

 

لأول مرة من أكثر من نحو عقدين تطأ قدماي عمان ولا أتمكن فيها من زيارة الدكتور صبحي في منزله بالصويفية. كان اخر لقاء جمعني به في أواخر شهر مارس /آذار المنصرم والذي صادف ذكرى ميلاده التسعين. وشرحت له أوضاع واخبار مدينة القدس وكل ما يتعلق ببرنامج التمكين الاقتصادي الذي ستبدأ مؤسسة فجر القدس للقروض والشؤون المالية بوضعه موضع التنفيذ اعتبارا من شهر نيسان/ابريل التالي. وقد أطلعته على المسودة بكل عناصرها والخطوات التنفيذية المنوي القيام بها والمزايا التي ستترتب عليها وخاصة وضع خطة متوسطة الأجل لتمكين العائلات المقدسية اقتصاديا (وخاصة في البلدة القديمة وسلوان والأحياء المجاورة لها) من تثبيت وترسيخ وجودها في عاصمة العواصم ومهد الديانات بلا منازع وتاج رأس العرب وفلسطين بلا منافس. وكان أول الممولين لبرنامج التمكين الاقتصادي وهو ما زال مسودة لم يطبع ولم يوزع بعد. وقد أرسلت له ولأعضاء مجلس الإدارة لاحقا البرنامج بصيغته النهائية. وبعد اطلاعه عليه، وعدني ببحث الموضوع في أول اجتماع يعقد للمجلس قبل ان يغادر منصبه كرئيس لجمعية يوم القدس نظرا لبلوغه التسعين من عمره المديد المليء بالتضحيات والنضالات والمواقف الصلبة الشجاعة والتي لم تهن نفسه ابد، ولم تنحنِ هامته لأحد. فأمام القدس لم يجامل أي مسؤول مهما كان مقامه. وقد زودني بكتاب رسمي موقع من قبله وربما كان اخر كتاب يوقعه قبل استقالته، يعلمني به بان مجلس إدارة جمعية يوم القدس قد قرر المساهمة في برنامج التمكين الاقتصادي وأرسل لي نسخة من الكتاب الذي وجهه للأخ سائد البديري الرئيس الجديد لجمعية يوم القدس بتاريخ التاسع من ابريل /نيسان الماضي قبل وفاته بنحو ثلاثة أسابيع فحسب. وقد طلب منهم الاتصال بكاتب هذه السطور للوفاء بالالتزام. وفي منتصف العام الماضي تقريبا طرحت له بعض المواضيع الحساسة المتعلقة بتسريب العقارات بما في ذلك نظام الإيجار والاستئجار القديم المعمول به في دائرة الأوقاف وغيرها، وقد وجد بضرورة مناقشة الموضوع مع شخصيتين بارزتين أحدهما المهندس رائف نجم – أمد الله في عمره-وقد تم ترتيب موعد على عجل معه. ورغم كبر سنهما فقد جلسنا في منزل الأخير لنحو ساعة من الزمن وشاركنا في جزء منه أبن المهندس رائف نجم الذي ساعد والده في الوصول إلى الصالون. كان اللقاء ممتعا وشيقا امام رجلين كبيرين احبا القدس وعملا من اجلها

كل في مجاله وضمن قدراته وامكانياته.

 فالقدس بالنسبة الى الطبيب صبحي غوشة ليست مجرد مدينة عادية أو عاصمة لفلسطين أو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى خاتم الأنبياء والمرسلين ومهد السيد المسيح، وإنما بالإضافة إلى كل ذلك هي مسقط رأسه وتاج رأسه ومحبوبته ومعشوقته ومهد طفولته وذكرياته قضى فيها أجمل وأحلى سنوات شبابه. ففيها ترعرع وفي أزقتها وشوارعها وحاراتها صقلت شخصيته وعززت انتمائه وانحيازه. فقد التصق بها وارتبط بها ارتباطا أرثوذكسيا من المستحيل فصلهما أو التفريق بينهما إلا بالموت. في إحدى زيارته التي تمت للقدس بعد العام 1993 مشينا بصحبة بعض من أحبوه في شارع الواد حيث مقر الهوسبيس توقفنا مرات عديدة لتحية هذا والسلام على ذاك وولوج هذه الدكانة أو تلك واستحضار الذكريات ورسوم العلاج (الكشفية) التي كانت يتقاضاها من مرضاه والتي كانت لا تتجاوز 250 فلسا قبل ان ترتفع إلى نصف دينار قبل حرب حزيران بقليل. والكثير من المرضي كانوا يحضرون لعيادته ويتعالجون مجانا مع إعطائهم الدواء بقدر ما تسمح به الظروف وتوفر الدواء في عيادته. وكان البعض ممن قابلهم في الطريق، سبق لهم وانتخبوه في الانتخابات البلدية التي فاز بها مرتين وبأعلى اًلاصوات ورغم ذلك لم يُسمح له برئاسة بلدية القدس لأسباب سياسية محضة. لقد كانت له ذاكرة متقدة أقوى من ذاكرتنا. فحينما وصلنا إلى مدخل قناطر ابوخضير قال: هذه تؤدي مباشرة إلى منتصف طريق الالام المنتهية بالمرحلة الرابعة في منتصف باب خان الزيت تقريبا مقابل محلات الجبشة. وعندما تم تكريمه في جامعتها قبل نحو عام من وفاته، كان يخالجنا شعور قوي بأنه جاء ليودعها ويلقي عليها النظرة الأخيرة. وحينما وقف على جبل الزيتون وامام فندق الأبواب السبعة (الانتركونتننتال سابقا) أخذ يتفحص بعيون حزينة وصابرة المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنسية الجثمانية (ستنا مريم) وكأنه يقول لها: قد لا اعود لأراك ثانية ولكنك ستبقين مرافقتي وسلوتي في وحدتي بلحدي. لم تسعفه قواه وأقدامه وإن حاول مرارا استجماعها واعتقد بأن بنت أخيه لمى قد سجلت له جزءا من المقابلة المصورة في هذا المكان. غادر القدس بسيارة إسعاف وهو ينتابه الألم والحزن ليس لمرضه وضعف قواه فحسب وإنما ربما أحس بأجله وانه سيغادر الدنيا والقدس ما زالت أسيرة ومحتلة وبوصلة العرب لم تعد تتجه إلى القدس وفلسطين وإنما إلى اليمن وطهران والرياض والسودان والجزائر وليبيا والعراق وسوريا. لكن رغم كل ما سبق كان مؤمنا بأن الأجيال الشابة لن تنكث العهد ولن تتخلى عن الأرض. وأذكر انه طلب مني ان أدعو شبابا من القدس دون ال 40 عاما لإلقاء أوراق في مؤتمر يوم القدس الذي كان يعقد في الثاني من أكتوبر من كل عام. وقد تابعت الموضوع مع شقيقه منذر وارسلت اليه شابان وصبية يتحدثون في قطاع الصحة والرياضة ودور المرأة، على أن يكون كلهم من القدس حصرا. وفعلا سافروا جمعيهم كما غيرهم وحينما سألته عن رأيه: قال الحمد لله أنهم قادرين على مواصلة النضال وأنني لأجد فيهم بذرة صالحة لغد مشرق لا محالة قادم للقدس. غادر طبيب الفقراء أبا سعد الدنيا بجسده ولكنه سيبقى كما بقي القادة الكبار أمثال عبد القادر وابنه فيصل الحسيني وبهجت أبو غربية وعمر القاسم وغيرهم كأشجار الزيتون والسنديان راسخة جذورها في جبال القدس. حي الشيخ جراح كما عمارة هندية ومستشفى المقاصد وأمانة القدس وكل مؤسساتها، كان لطبيب الفقراء صبحي غوشة بصمات واضحة ومحطات كفاحية لا يمكن ان يطويها النسيان أو تضعف أمامها الذاكرة. يا طبيب الفقراء من القدس نقول لك، رغم جور ولؤم وإهمال ذوي القربى فهي فلسطينية ستبقى ما دام الدم يسري في عروقنا وسنصون الأمانة وسنوصي ابناءنا واحفادنا على التمسك بها وبفلسطين كلها. لك المجد يا أبرز سنديانات القدس.