• 30 تشرين الثاني 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : القاضي المقدسي فواز ابراهيم نزار عطية

 

عندما دخل الخليفة العادل عمر بن الخطاب القدس واستلم مفاتيحها من الإمبراطورية البيزنطية، للمرة الأولى عام 637 ميلادي، واستمرت المدينة تحت حكم المسلمين العادل حتى استولى عليها الصلبيون عام 1099 ميلادية، وحكموها لمدة 91 عاما وعاثوا فيها الفساد والظلم والبطش والتنكيل بأهلها من النصارى والمسلمين وقتلوا ما يزيد على السبعين ألفا من المسلمين في أروقة المسجد الأقصى، إلى أن هيأ الله تعالى القائد صلاح الدين الأيوبي، وحررها وبالتعاون مع المخلصين من ابناء الامة ، فجاءه بعض المسلمين يُطالبونه بهدم كنيسة القيامة انتقامًا مما فعله الصليبيون في المدينة والمسجد الأقصى طول فترة احتلالهم لها، لكنه رفض ذلك وقال مستنكراً: " أقرّها عمر وأهدِمُها أنا ؟

التاريخ لن يرحم وسيُسجل، ولنا في قصص الأقوام الذين سبقونا عظّة وعبّرة، فلو رجعنا إلى كتاب فلسطين في العهدين الأيوبي والملوكي للدكتور خليل عثامنة، الذي يرصد كتابه بدقة متناهية لحال بعض حكام بني أيوب بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي وتناحرهم على السلطة، بحيث كان تنافس أبناء صلاح الدين في شأن المُلك دفعهم للبحث عن مهادنة الفرنجة في فلسطين، وأدى أحياناً إلى محاولة الاستعانة بهم للتصدي لبعضهم البعض، بل وصل الأمر فيما بينهم ذروة التحدي والانتقام بصورة غير مسبوقة بإقامة علاقات وتحالفات مع الفرنجة الجاثمين على أرض فلسطين ولبنان وسوريا، إلى أن وصل بهم نهاية المطاف للتخلي عن فريضة الدفاع عن القدس ضد الغزاة ، بل للأسف تجرأ بعضهم في تسليم القدس كما حصل مع الملك الكامل سلطان مصر، وهو الذي أبرم صفقة التنازل عن مدينة القدس مع الإمبراطور (فردريك الثاني)، إمبراطور الدولة الرومانية عام  626ﻫ/1229م، إلا أن انفراده بهذا القرار لم يكن لينفي التهمة ذاتها عن باقي إخوته ملوك الشام، لأنهم كانوا على استعداد لاقتراف ذات الجُرم فرادى أو مجتمعين قبل أن يقدم أخوهم على فعلته، فقبل ثمانية أعوام من ذلك التاريخ، وفي 618ﻫ/1221م، حين استولى الفرنجة على مدينة دمياط المصرية وبعد حصارهم المنصورة، وحين أخذوا يتحفزون للانقضاض على مدينة القاهرة وباقي البلاد المصرية، تبادلت الرسائل بين الملوك الأيوبيين والفرنجة، وكان مع (الكامل) آنذاك أخواه الملك المعظم (عيسى)، ملك الشام، والملك الأشرف (موسى)، ملك دمشق، وعرضوا على الفرنجة الجلاء عن مدينة دمياط، والتخلي عن مهاجمة القاهرة لقاء تنازل الأيوبيين عن مدينة القدس وعسقلان وطبرية وجميع ما حرره السلطان صلاح الدين الأيوبي من أرض الساحل في فلسطين ولبنان، بما في ذلك ميناءي جبلة واللاذقية في سوريا، إلا أن الفرنجة رفضوا هذا العرض واشترطوا تسليمهم أيضا قلعتي الكرك والشوبك، وبعد أخذ ورد وافق الملوك الأيوبيون على تسليمها أيضًا، لكن المفاوضات لم تتم بشأن هذه الصفقة لأن الفرنجة أضافوا في اللحظة الأخيرة شرطا جديدا، يقضي بأن يدفع الأيوبيون مبلغ 300،000 دينار مقابل إعادة ترميم أسوار مدينة القدس وأبراجها التي كان الملك المعظم (عيسى) أمر بهدمها تحسباً لسقوط المدينة في أيدي الفرنجة حين شرعوا في الهجوم على دمياط.

التاريخ لن يرحم، وسبق وأن سجل بأن السلطان قام بإرسال الخُلعة السلطانية ، وهي ملابس سلطانية تشبه صك الولاء، وأرسلها إلى المعظم، الذي طاف شوارع دمشق مرتديا إياها، وأعلن قطع الخطبة لأخيه الملك الكامل، الذي ما لبث وأن شعر بالخطر، لما يمثله تحالف أخيه مع سلطان خوارزم، وهو ما جعله يلجأ إلى الاستعانة بالإمبراطور فردريك الثاني وطلب منه الحضور بجيشه إلى أرض الفرنجة على الساحل الفلسطيني ليعينه على مخاطر حلف أخيه مع ملك خوارزم، وترغيباً للإمبراطور في سرعة الحضور، فعرض عليه الملك الكامل تسليمه مدينة القدس، التي كانت عودتها إلى الفرنجة مطمح كل ملك وأمير مسيحي أوروبي منذ حررها صلاح الدين، كما عرض عليه أيضًا تسليم بقية الفتوح الساحلية التي حررها صلاح الدين أيضا.

الأحداث كثيرة ولا مجال لعرضها، لكن يروي صاحب كتاب «فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي»: أثناء فترة الاتصالات وتبادل السفراء بين السلطان الكامل والإمبراطور فريدريك، ترك الإمبراطور عكا وتوجه إلى ميناء يافا وباشر أعمال تحصين أسوار المدينة وقلعتها ودفاعاتها، وكان يتلقى في الوقت نفسه تقارير عما يجري في أوروبا، وخصوصاً موقف البابا منه ومن حملته، وعلم أن البابا أصدر قراراً بحرمانه من المباركة البابوية، كما أصدر البابا قرارًا يتولى بموجبه الوصاية على الإمبراطورية، وهي القرارات التي أقلقت الإمبراطور وشعر بضرورة العودة إلى بلاده، لكنه كان يعلم بأن عودته صفر اليدين ستزيد أوضاعه حرجا، لذلك غير أسلوب مخاطبته للملك الكامل، ولجأ إلى أسلوب التذلل والاستعطاف، حتى قيل أنه بكى أمام رسول الكامل، قائلا: (لولا أني أخاف انكسار جاهي عند الفرنج، لما كلفت السلطان شيئاً من ذلك، وما لي غرض في القدس ولا غيره، وإنا قصدت حفظ ناموسي عندهم)».

ففي مقابل وصمة العار التي لطخت جبين الملك الكامل بسبب تسليمه مدينة القدس، لما انطوى عليه فعله من المس بمشاعر المسلمين، كان هناك بعض الاعتبارات السياسية التي تدخلت في حسم هذا الأمر، وهي أن حرب الكامل ضد ابن أخيه، الناصر داوود، مازالت محتدمة ولم تحسم بعد، وهناك الملك الخوارزمي السلطان جلال الدين الذي يشكل تهديداً استراتيجياً على مملكة الأيوبيين، بسبب استنجاد الناصر داوود به لإنقاذ عرشه المهدد، كما رأى الملك الكامل أن رفضه بتسليم القدس والوفاء بوعده للإمبراطور، أن يقوم الأخير بتألب مختلف القوى والمجموعات الفرنجية في فلسطين وحشدها ضده للبدء بجولة جديدة من الغارات والهجمات على أرض مملكة الكامل، وجراء ذلك سيكون هو ومملكته هدفاً لثلاثة أعداء في آن واحد، الأمر الذي تمخض عن ذلك اتفاقية الصلح في يافا في 12/2/1229.

عقدت اتفاقية يافا بين الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني تحت إطار هدنة عامة بين المسلمين والفرنجة، لمدة عشرة أعوام وخمسة أشهر وأربعين يوماً تبدأ (18 ربيع الأول 626ﻫ/14 فبراير 1229م)، إلا أن جوهر الاتفاقية كان يصب حول مدينة القدس وما ارتبط بها من مقدسات وقرى وشؤون إدارية، فنصت على ما يلي:

1- تسلم القدس للإمبراطور على أن تظل أسوار المدينة وتحصيناتها خراباً وألا تجدد الأسوار.

2- ألا يكون للفرنج موطئ قدم خارج مدينة القدس، وان تظل قرى بيت المقدس في أيدي المسلمين.

3- قرى بيت المقدس والضاحية يديرها والي مسلم، وتكون «البيرة» مقراً له.

4- يظل الحرم الشريف بما فيه من المعالم، كالصخرة والمسجد الأقصى، في أيدي المسلمين، ويظل شعار الإسلام فيه ظاهراً.

5- ألا يسمح للفرنج بدخول القدس إلا بغرض الزيارة، ويكون المتولون على الأماكن المقدسة من المسلمين.

6- تكون القرى الواقعة على الطريق بين القدس وكل من عكا ويافا تحت إدارة الفرنجة لحماية أرواح الحجاج وضمان سلامتهم «بلغ عدد هذه القرى عشر قرى».

ولما أحس السلطان الكامل أنه تورط مع ملك الفرنجة، أخذ يهوّن من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يعط الفرنجة إلا الكنائس والبيوت الخربة، على حين بقي المسجد الأقصى على حاله، غير أن هذه المبررات لم تقنع الناس وقتئذ.

نعم زبانية الملك الكامل زينوا له عمله وحرفوا واجتهدوا في التفسير والتأويل كما يحلوا لهم، وهذا الأمر دفعني للإطالة في مقدمتي وعرّجت على حقبة كانت تحاكي قمة الهوان والذّل، حقبة اتسمت بالمؤامرة على أولى القلبتين وثالث الحرمين في سبيل الحفاظ على سلطة زائلة، بحيث آثرت التعرض لتلك الحقبة التاريخية في هذا المقال لنتذكر جميعا أن التاريح سيُسجل ولن يرحم، فلعنة وذاكرة الأجيال لن تقف إلى حد معين، فمهما كانت المغريات والضغوطات ومهما كانت المؤامرات والتحالفات في ظل ما يعاد ويشاع حول صفقة القرن، فإن رسالتنا للشرق والغرب لن تتغير ولن يجدوا لها تحويلا " بأن الأمة لن تنجب مرة ثانية ملكا آخر أسمه الملك الكامل ".

وهذا الأمر حُسم في قوله تعالى في سورة الاحزاب لئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62).