• 23 كانون الثاني 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : القاضي المقدسي فواز ابراهيم نزار عطية

 

" لا ينبغي لأحد أن يستفز أي شخص، يرجى احترام القواعد وهي ذاتها لعدة قرون لن يتغيروا... اخرج..."، بهذه الكلمات التي وجهها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لضابط الشرطة الاسرائيلي اثناء زيارته للكنيسة الصلاحية في القدس القديمة يوم أمس والتي تعرف بكنيسة " القديسة حنة"، وهي كنيسة تتبع الدولة الفرنسية، ذلك التوبيخ المُعبرالحاد كان سببه دخول عدد من الشرطة مدججة بالسلاح للمبنى دون احترام لقواعد الدخول وقُدسية المكان، هذه الكلمات التعبيرية والسخط الواضح على وجه الرئيس الفرنسي، كانت قبل المشاركة في مراسم ذكرى من حُرق وحُرر من تبقى في معسكر أوشفتيتز النازي ابان الحرب العالمية الثانية، الذي سيقام في القدس الغربية. 

إن الرئيس الفرنسي لم يتحمل الاهانة والاستفزاز وخرق قواعد البروتوكول وحرمة تدنيس الاماكن المقدسة لمدة دقيقة واحدة، واليوم سيشارك الرئيس الفرنسي وبحضور عدد من رؤساء الدول بحشد عالمي استطاعت اسرائيلي لفت الأنظار إليه لمحرقة لم ينساها اليهود مضى عليها أكثر من ستة عقود، في الوقت ذاته نسي الامن الاسرائيلي قواعد مضى عليها عدة قرون.

المفارقة واضحة ولا يحتاج الامر إلا الوقوف على أسلوب التعامل بمعيار العلو والتكبّر والمزاجية من الجانب الاسرائيلي، ومن هنا يجب استغلال هذا الحدث بما يخدم حق الوجود الفلسطيني في القدس لقرون سبقت قدوم الرئيس الفرنسي ماكرون.

الحادثة التي تمت يوم أمس أعادت لأذهان وذاكرة أهل القدس زيارة الرئيس الراحل جاك شيراك في شهر تشرين الاول من عام 1996 للقدس، حيث وجه ذات التوبيخ لعناصر الامن الاسرائيلي وقتئذ وفي ذات المكان نتيجة مصافحته لأهالي القدس وتدخل الامن الاسرائيلي محاولا منع هذا التلاحم الشعبي مع الرئيس الراحل.

يبدو أن الامن الاسرائيلي لم يستوعب دروس الماضي ولم يتعامل مع واقع استخلاص العبر، أو أنه كان اداة لتنفيذ مخطط سياسة تطبيق الاهانة للرئيس ماكرون لمبادئه المعلنة في دعم القضية الفلسطينية وحل الدولتين.

ما لفت انتباهي من خلال زيارة الرئيس ماكرون يوم امس للقدس أمران: الأول: مدى سعادته في زيارة المسجد الاقصى وقبة الصخرة واخذه الصور التذكارية وحوله عدد من المواطنين المقدسيين وبعض مسؤولي دائرة الاوقاف الاسلامية، وابتسامته الواضحة المستشرقة وكأن في قدسية المكان ما أنساه السخط و سوء معاملة الأمن الاسرائيلي له، والثاني: عادات الترحاب من المسؤولين الفلسطينين ومسؤولي دائرة الوقف الاسلامي التابعة لحكومة المملكة الاردنية الهاشمية للضيف سواء أكان مسؤولا أو غير ذلك حيث لا يُكره الضيف على ممارسة الشعائر الدينية الاسلامية، فلم يُكره الرئيس الفرنسي ماكرون على لباس العباءة أو الدشداشة "الثوب العربي" كما ولم يُكره لأداء الصلاة أو ممارسة الشعائر الدينية الاسلامية التي يمارسها المسلمون في المسجد رغم ساعة زيارته كانت ضمن دخول وقت صلاة المغرب، بينما عندما دخل الرئيس ماكرون ساحة حائط البراق المسيطر عليه من الجانب الاسرائيلي - وهو مكان لأداء الصلوات التلمودية لليهود- أُلزم كما أُزم من قبله وكل من يزور المكان على أن يضع "الكيباة" قبعة الرأس، وهذه  فريضة أساسية لممارسة الطقوس الدينية لليهود ضمن الطرق التلمودية واحكام شريعتهم، ولا اعتراض على ممارسة شعائرهم الدينية وهذا شأنهم، لكن أن يُلزم شخص سواء أكان مسؤول أو غير ذلك لممارسة الشعائر الدينية اليهودية عند زيارة حائط البراق الذي يطلق عليه اليهود حائط المبكى، فهو عين الغلو والاكراه والتسلط كما ويعد خروجا عن مفهوم حرية المعتقد.

ما يهمني في هذا المقال، أن الرئيس ماكرون وبحكم المؤكد وأثناء زيارته للبلدة القديمة، شاهد الفرق بين محيط مكان وجود الكنيسة الصلاحية" القدسية حنة" من حيث البنية التحية لذلك المكان وبين البنية التحتية لمكان حائط البراق، واعتقد جازما أن الرئيس ماكرون لاحظ وانتبه على آثار ابادة لمكان كان يعرف بحارة  المغاربة، حيث دُمّر ذلك المكان بعد حرب عام 1967، و لم يتبقى منه سوى بيت واحد بطابقين يعود لعائلة الداوودي المقدسية مطلان على ساحة البراق بالطراز المغربي، الذي بُني ذلك الحي وفق صحيح ما أنبأت به سجلات المحكمة الشرعية في القدس منذ العام 583 هجري، أي قبل ما يزيد عن 850 عاما بما يوازي 8 قرون مضت، فهل سيتذكر الرئيس ماكرون اليوم ومن معه اللفيف الحاشد من المشاركين من بعض زعماء العالم لذكرى محرقة اليهود في مراسم تأبينهم، ذكرى ابادة الحي المغربي المقام على قواعد وستاتيكو قديم قبل قرون وتم ابادته قبل ستة عقود؟ وهل سيتذكر المشاركون لمعاناة من تبقى من اهل الحي المغربي المُباد بذكرى تشردهم؟ أم أن ذكرى المعاناة لطائفة محددة من البشر ستكون شماعة وعقدة تأنيب الضميرالأوروبي دون الاكتراث لمن يعاني وما زال يعاني على يدي من عانى وذاق معنى المحرقة؟

واجب على كل مسؤول عربي وعلى القيادة الفلسطينية بشكل خاص، واثناء استقبالهم للرؤساء المشاركين في ذكرى محرقة اليهود، التلويح بسخط الرئيس الفرنسي ماكرون وقبله الرئيس الراحل شيراك نتيجة سوء معاملة الامن الاسرائيلي لهما، فإذا لم يتحمل الرئيس الضيف ماكرون سوء تلك المعاملة لمدة دقيقة واحدة، فكيف لنا أن نتحمل سوء المعاملة وأن نتجرعها على مرّ ستة عقود اضعاف اضعاف ما وُجّه لرئيس دولة عظمى كفرنسا، وكيف لنا أن نقبل بالاستفزاز وسوء احترام الجانب الاسرائيلي لحرمة وقدسية المسجد الاقصى ودخول الامن وقطعان المستوطنين مدججين بالسلاح لترويع الآمنين المصلين، وعليهم تذكير الضيوف الكرام أن واقع ابادة حي كامل لا يقل اجراما عن حرق انسان واحد، رغم التعاطف الدولي لواقعة المحرقة التي لا ترضي أي انسان له ضمير حيّ.