• 29 آيار 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : سعادة مصطفى ارشيد

 

أقام الرئيس الفلسطيني محمود عباس رهانه في معركة الراهنة مع الحكومة الإسرائيلية على مجموعة من التقديرات , و بنا عليها خطابة الذي ألقاه عشية التاسع عشر من أيار الماضي و أعلن فيه أن منظمة التحرير و السلطة الفلسطينية قد أصبحتا في حل من جميع الاتفاقيات و التفاهمات المعقودة مع كل من الإدارات الأمريكية و الحكومات الإسرائيلية , و بغض النظر عن القناعة بمدى جدية هذا الإعلان و القرارات المنبثقة عنه آو انعدام القناعة بها, فان هذه الخيارات تحتاج إلى فحص و اختبار , و كنت قد أشرت في مقال سابق إلى أن تصورات القيادة الفلسطينية التي أسست لخطاب الرئيس  ترى أن  نتائج الانتخابات الرئاسية  الأمريكية و تذهب باتجاه تغليب فرص جو بايدن للفوز بالرئاسة , و للدور الذي سيلعبه بني غانتس و غابي اشكنازي في معارضة عملية الضم , و هي رهانات ضعيفة ليس لها ما يدعمها على ارض الواقع , فلا احد يستطيع التنبوء بخيارات الناخب الأمريكي العادي  (باستثناء جماعات الافانجليكان الذين سيدعمون دونالد ترامب ) , و استطلاعات الرأي دائمة التغير و التبدل عند كل حدث و لها مفاجأتها في الأيام الأخيرة السابقة للانتخابات , و حزب ازرق ابيض هو حزب العسكر و الجنرالات الذي يؤمن بان السيطرة على الأغوار و أراضي المستوطنات يمثل مسألة امن قومي من الدرجة الأولى . 

بالطبع كان لدى الرئيس و القيادة تقديرات أخرى داعمة و ذاهبة في ذات الاتجاه , ففي زيارة وزير الخارجية الفلسطيني الأخيرة لموسكو , طلب من نظيرة الروسي  أن تكون روسيا حاملة للملف الفلسطيني التفاوضي مع إسرائيل , لكن الرد الروسي جاء سريعا, واضحا و مختصرا: لا يمكن أن يحدث أي تقدم في هذا الملف بمعزل عن واشنطن  , اذهبوا إلى هناك أولا.تلك كانت نصيحة لافروف و هي تصدر عن دولة لطالما كانت مهتمة باستعادة مكانتها السابقة عالميا, و بتمددها في شرق المتوسط و سائر المنطقة العربية , هذا التمدد الذي سيكون حكما على حساب الدور الأمريكي , الرد السلبي و المتحفظ من موسكو له أسبابه , منها طبيعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية و تطابق وجهات نظرهم تجاه عملية الضم , و منها عدم رغبة موسكو بان تزج بنفسها في هذا الملف الشائك في ظل تواجدها الكثيف في سوريا , الذي قد يرتب عليها دفع أثمان للإسرائيليين هي في غنى عنها و من شأنها الإضرار بعلاقتها بطهران و دمشق, و منها ما تختزنه الدبلوماسية الروسية من خبرات و تجارب مع العالم العربي منذ أيام الاتحاد السوفيتي , التي ترى أن العلاقة ليست إستراتيجية فهؤلاء يريدون مخاطبة واشنطن من خلال استعمالهم موسكو كمحطة و منصة ليس إلا , فيما واشنطن هي مربط خيولهم و محطتهم النهائية.يضاف إلى كل ما تقدم أن الانخراط الروسي في الأزمة السورية جعل من روسيا راغبة أو مضطرة لعقد بروتوكولات و اتفاقات مع تل أبيب تضمن عدم الاشتباك بينهما , فهما و إن تصارعتا في السياسة  أو اختلفتا في الرؤى, إلا أن صراعهما ليس صراعا وجوديا , و هوامش التفاهم و اللقاء بينهما متسعة , من هنا تتضح حدود الموقف الروسي الذي قاد سوء التقدير للبناء عليه : روسيا تحذر من عملية الضم  لأنها قد تدخل المنطقة في دوامة عنف و تدعو جميع الأطراف بمن فيهم (شركائنا الإسرائيليين) إلى تجنب الخطوات التي قد تؤجج العنف و تحول دون تهيئة الأجواء لمفاوضات مباشرة  , و تؤكد استعدادها للعمل و المساعدة في استئناف المفاوضات  باعتبارها عضوا في الرباعية الدولية .

راهن الرئيس الفلسطيني على أوروبا التي هي أصل البلاء , و قد ذكرها في خطابه بالنص, حيث قال انه يتوقع منها موقفا حاسما يحول دون إقدام الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ الضم , كما يتوقع بمن لم يعترف بدولة فلسطين أن يسارع بالاعتراف . أوروبا العجوز لم تعد تملك القدرة و الحيوية و قد تكشفت قدراتها اثر تفشي وباء كورونا , فبدت هشة , مرتبكة , منقسمة كل دولة تبحث عن خلاصها في معزل عن الاتحاد الأوروبي , انجلترة صاحبة المدرسة العريقة في السياسة و الاقتصاد و التي لم تكن تغيب الشمس عن مستعمراتها و أساطيلها و عساكرها , أصبح رئيس وزرائها الأسبق , يتلقى الرشا من موظفين و ضباط امن في مستعمراتها السابقة, فيما فرنسا بلد القوانين و الدساتير و الأنوار , يقبل رئيسها العمل في خدمة رجل أعمال و رئيس وزراء إحدى مستعمراتها السابقة فيما يقبض خلفه في الرئاسة الأموال من العقيد الراحل ألقذافي , ألمانيا التي نخلت عن شركائها في الاتحاد خلال أزمة كورونا لن يتجاوز موقفها الإدانة و الشجب .

منذ أيام اختتم اجتماع دول الاتحاد الأوروبي و قد ورد في بيانه أن ضم الأغوار و أراضي في الضفة الغربية مخالف للقانون الدولي , و أن حل الدولتين هو الحل الأمثل للصراع , و ان الاتحاد يسعى للتعاون مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة و إلى الحوار مع الولايات المتحدة و الدول العربية حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية, فيما اجتمع بعض سفراء دول الاتحاد عبر الفيديو كونفرنس مع نائبة رئيس قسم أوروبا في وزارة الخارجية الإسرائيلية آنا ازاراي , و ابلغوها قلق حكوماتهم من الخطوة الإسرائيلية , لكن السيدة ازاراي لم تقلق لقلقهم لا هي و لا وزارتها . هذه هي حدود الموقف الأوروبي

الموقف العربي لم يخرج عن هذا الإطار , فلكل من العرب همومه , و كما كشفت أزمة الكورونا هشاشة الموقف الأوروبي , نراها فعلت ما يفوق ذلك في كشف الموقف العربي , بالطبع مع الانهيار في أسعار البترول و لجوء دول البتر ودولار لتخفيض نفقاتها و ما قد يتبع ذلك من انهيارات و تداعيات ,الموقف الأكثر لفتا للانتباه هو موقف العاهل الأردني الملك عبد الله , و الذي جاء في تصريحاته لمجلة دير شبيغل الألمانية , محذرا الإسرائيليين من خطوة الضم و ملوحا بقرارات و مواقف حادة, و قد جاء ذلك بعد مكالمة هاتفية بينة و بين الرئيس الأمريكي .افترض الأردن اثر توقيع اتفاقية وادي عربة انه قد ضمن وجود الأردن كوطن نهائي للأردنيين و انه قد ثبت حدوده الغربية , و لكن نتياهو و اليمين الإسرائيلي لا يبدو انه مقر للأردن بذلك , فقد قرر نتنياهو التخفف من أعباء وادي عربة و الإبقاء على مغانمها فقط , و بالقدر الذي يفيده في الدخول في مرحلة صفقة القرن التي سترث أوسلو , فتلك لاتفاقيات (أوسلو و وادي عربة ) قد استنفذت وظيفتها , ثم إنها من تركة حزب العمل المنقرض , و قادته الذين يريد أن يخرجهم اليمين من التاريخ كما اخرج أولهم من عالم الحياة (إسحاق رابين) و طرد ثانيهم (شمعون بيبرس) من عالم السياسة .

إذا كانت تلك تقديرات القيادة الفلسطينية التي بني على مقتضاها الرد الفلسطيني الوارد في خطاب الرئيس , فان ذلك أمرا لا يدعو للتفاؤل , و يؤشر باتجاه مجموعه من المسائل أولاها هي في قصور الرؤى و التقديرات , و غلبة التفكير بالأماني و محاولة إسقاطها على واقع غير مطابق لتلك التمنيات, و ثانيها أن قيادة السلطة لم تستحوط لهذا الأمر و لم تعد له عدته ,فلم يكن لديها الخطة ب البديلة, و الثالثة أن الحال الفلسطيني و العربي و الدولي لن يستطيع أن يقدم دعما للفلسطيني لا سياسي ولا مالي لتستطيع أن تقوم بأود الشعب الفلسطيني , فوقفة عز و رجال الأعمال القائمين عليها قدموا مبالغ زهيدة لا تقارن بثرواتهم و ما يجنونه من أرباح و بما  هو  اقل من عشرون مليون دولار أمريكي , جزء منها تم خصمه من رواتب موظفيهم دون استشارتهم و هي ستخصم من ضرائبهم  , و قد تردد كثير من الحديث عن الطريقة غير الموفقة التي تم بها صرف بعض تلك الأموال , و العالم العربي النفطي يخفض نفقاته و مصروفاته بشكل كبير و يعاني من تراجع مداخليه النفطية و الاستثمارية الأخرى , و العالم لديه من مشاكل الكساد و الوباء و اللاجئين و البطالة  ما يكفيه , و بالتالي لن تجد السلطة من مورد يبقيها على أجهزة الإنعاش ,إلا ما يأتي به عمال المياومة العاملين في الداخل , أو في المستوطنات الإسرائيلية , أو ما تجود به الحكومة الإسرائيلية من قروض , فتلك الحكومة ترى ضرورة إضعاف السلطة و المس من هيبتها و لكن مع بقائها مترنحة , هذا الحال يجعل من أي فعل إسرائيلي يمر بسهولة بما في ذلك عملية ضم الأغوار و المستوطنات و ما هو أكثر من ذلك , و يجعل من السلطة الفلسطينية تتراجع عن تهديداتها , ربما سرا في البداية و لكن علنا في مرحلة لاحقة مبررة ذلك بضرورات الاستمرار و البقاء, إذ ما يهم الإسرائيلي هو الأفعال لا الأقوال.