• 8 تموز 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم  : فواز ابراهيم نزار عطية*

 

 

ما من شك أن الوقف من أفضل أنواع البر والإحسان، إذ يعد حبس العين من الوسائل المشروعة لحماية الأرض من الضياع والتفريط خصوصا في بلد كالقدس الشريف، الذي تمارس عليه شتى وسائل التهويد لتغيير المعالم والآثار تحت مسميات دينية مزيفة ما انزل الله بها من سلطان.

 وإنه ليس من المستغرب، أن يقوم سلفنا الصالح في الديار الإسلامية بحبس الأعيان وعلى وجه التحديد في بيت المقدس، التي هي رمز الصراع والبقاء والثبات، إذ آفاق رؤيتهم لم تكن محدودة، وإنما لبصيرتهم التي منحهم إياها رب العالمين بقيام عدد كبير ممن دخل فلسطين وعلى وجه التحديد بيت المقدس، من مسلمي بلاد المغرب العربي أو من بلاد الشام أو بلاد الجزيرة العربية أو حتى من بلاد المشرق في عهد المحرر صلاح الدين الأيوبي عام 583 هجرية، وما تلاها من فتوحات حتى فترة الدولة العثمانية، ساهمت بشكل فعّال في إنشاء الأوقاف الذرية والخيرية، فبدأت العائلات القادمة زمن التحرير لفلسطين التاريخية بحبس عقاراتها لوجه الله تعالى والتصدق بمنفعتها على ذوي القربى وغيرهم، فالبعض من أصحاب الأملاك أوقفها على أولاده الذكور وعلى بناته في حياتهن فقط وهو الغالب، والبعض الآخر أوقفها على الأولاد والبنات دون تخصيص وهو النادر، وكفكرة لحبس الأعيان، فإن الوقف هو ضرب من ضروب البر، رغم أن هذا الطريق له مخاطر اقتصادية جمة في عصر يحارب فيه المسلمون بأعتى وسائل الحروب وهو الاقتصاد، وهذا ما دفع بعض التشريعات العربية لإلغاء فكرة الوقف بنوعيه الذري والخيري،إلا أن فلسطين وعلى وجه الخصوص القدس لها خصوصية بحيث لا يمكن تطبيق بعض التجارب العربية في إلغاء وتصفية الوقف وإن كان ذلك على حساب العجلة الاقتصادية.

في خضم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ عام 1948 حتى هذه اللحظة، لم يتوقف الاعتداء الغاشم على الأرض والممتلكات، فمنذ أن وضعت الحرب أوزارها في العام 1967، بدأت سلسة الاعتداءات من سلطات الاحتلال في القدس مستهدفة أقدم حي عربي إسلامي وهو حي المغاربة الشهير، بتوسيع الفناء القريب من حائط البراق لاستيعاب اكبر عدد ممكن من المصلين اليهود في تلك المنطقة،وفي العقد الحالي توالت الهجمات على الأرض والآثار لتغيير المعالم الإسلامية، بهدف تهويد المدينة المقدسة تحت مسميات زائفة وغير قائمة إلا في الخيال، ورغم الهجمة الشرسة بمختلف السبل، فلم تنجح سلطات الاحتلال بتنفيذ كامل المخططات بتهويد المدينة في ظل وجود عدد هائل من الأوقاف الذرية"الأهلية" ناهيك على الأوقاف الخيرية، الأمر الذي يستدعي وضع إستراتيجية من أولي الأمر والمسئولين في القدس بتحفيز نظام الوقف الذري وبتشجيع أصحاب الأملاك بحبس الأعيان تقربا لله تعالى أولا، ولقطع الطريق على  كل من تسول له نفسه بتسريب العقارات لجهات استيطانية ثانيا.

وبالرغم من أن حبس الأعيان قد يؤدي في عصر العولمة والنظام الاقتصادي الحر بمنع أصحاب الأموال الغير المنقولة من الاستفادة ماليا نتيجة لرفع أسعار العقارات عالميا، إلا أن الصراع الديني والسياسي أهم وأجل، فيمكن تعويض هذه الخسارة بطرق شتى وإن تم حبس العين، وذلك بوضع بعض الشروط من قبل الواقف للاستفادة من الريع أثناء حياته أو بتأجير العقارات ببدل المثل أو بتحفيز نظام الحكر بأسلوب علمي اقتصادي....

لذلك بوجود هذا الصراع القائم المستفحل على أشده، أوجد لدي دافع رئيسي للكتابة حول هذا الموضوع، وهو ما استوقفني كثيرا للبحث فيه، إذ يتلخص هذا الدافع في أمرين: أولهما: أن كثيرا من العائلات في بيت المقدس لها أوقافا ذرية من أشهرها وقف الشيخ إبراهيم الصافوطي الذي أوقف عقاراته على أبنائه للذكر مثل حظ الأنثى دون تمييز ولسلفهم المُنشأ في العام 998 هجري، وثانيهما: أن حكمة وبصيرة السلف الصالح ساهم بشكل فعّال في منع تسريب العقارات لجهات غير شرعية، مما منع عملية التهويد للقدس القديمة نتيجة وجود عدد كبير من العقارات خصصت لذرية الواقف أو لجهات خيرية، بالرغم من أن التهويد مستمرا في معالم الشوارع وبعض الأحياء المقسمة سياسيا حاليا بين حارتي الأرمن وما يطلق عليه بحارة اليهود و حارة المغاربة.

فالهدف مما سيق أعلاه، أن صاحب المقال من دعاة تكريس إنشاء الأوقاف الذرية في عصر العولمة، نظرا لما يتمتع به هذا النظام من تقوية الأوصال الاجتماعية والثقافية بين ذرية الواقف سيما وأن جميع الأوقاف نامية وعامرة، ودون حاجة للإسهاب في العامل الديني الذي هو الأساس كون هذا الأمر محصورا بين العبد وربه.

الامر الذي اعتبره أن معيار الانتساب للقدس واطلاق مصطلح "مقدسي"، يعود لعامل وحيد يتمثل بالحب والارتباط بالقدس بما تجود به النفس بحبس العقارات تقربا لله تعالى لتكون تلك العقارات شاهد عين على التواجد العربي الاسلامي في القدس.

في الختام  اضع بين ايديكم  ما يثلج الصدور، صورة تتعلق بمكان وقف جدي لأبي الكائن في منطقة باب الخليل سويقة علون، وبما يشير أننا جيلا بعد جيل ولله الحمد متمسكون بعقارات الاجداد، حيث اننا لازمنا وعاصرنا حجارة العقارات الموقوفة وسكنا في بيوت المرحوم جدي لأبي الشيخ ابراهيم السافوطي جيلا بعد جيل منذ 443 عاما.

والله ولي التوفيق.

  * الشهير زريق السافوطي من اولاد دبوس