- 30 نيسان 2025
- مقدسيات
القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة :
في قلب القدس، حيث تتشابك الحجارة مع الذاكرة، تُخاض مواجة وجودية لا تقل أهمية عن ساحات اخرى، إنها مواجة الحفاظ على الهوية العربية من خلال الدفاع عن تراثها المعماري والاجتماعي. تأتي مؤسسات ترميم في صلب هذه المواجهة، ليس فقط كجهة ترمم المباني التاريخية، بل حاضنة للصمود العربي في مواجهة سياسات التهجير الممنهجة.
من خلال مشاريع الترميم في البلدة القديمة، لا تقوم المؤسسات بترميم الحجارة فحسب، بل تعيد بناء الرواية العربية حجراً حجراً، وتوفر سنداً للسكان في وجه التحديات الاقتصادية والقانونية التي يفرضها الاحتلال. تتحول عمليات الترميم إلى أدوات مقاومة ثقافية، وتعيد تشكيل الفضاء الحضري كفضاء للهوية والانتماء.
الحفاظ على التراث المقدسي، ليس من منظور هندسي فحسب، بل من زاوية تكشف التفاعل بين العمران والهوية وبين السياسة والذاكرة الجمعية. في القدس، حيث يُنقب كل حجر عن تاريخ، يصبح الترميم عملاً تحويليًاً.
الحفاظ على التراث المعماري
يُعتبر ترميم المباني التاريخية والأحياء القديمة والمنازل والاحواش، أكثر من مجرد عملية هندسية، إنه فعل ثقافي يحمل في طياته أبعادًا رمزية عميقة. تُستخدم مواد وتقنيات بناء تقليدية مثل الحجر المقدسي والأبواب والنوافذ الخشبية والحديدية التراثية المستوحاة من عبق التاريخ، ليس بهدف الحفاظ على الطابع المعماري فحسب، بل لإعادة إحياء العلاقة العضوية بين الإنسان والمكان، ولحماية الذاكرة الجمعية من التآكل.
فالبلدة القديمة، بما تحويه من طبقات معمارية وتاريخية، تُعد سجلًا بصريًا للتاريخ العربي، حيث تتقاطع الحياة اليومية مع السياقات السياسية والاجتماعية الممتدة لعقود. وفي ظل محاولات التهويد وإعادة تشكيل الحيز المكاني وفق سرديات إقصائية، يُصبح الترميم التقليدي أداة مقاومة هادئة تُواجه سياسات المحو، وتُعيد تثبيت الحضور العربي في المكان.
إن عملية التوثيق المرافقة لهذا الترميم تُسهم في بناء أرشيف حي للتاريخ العمراني، يُعيد للمدينة ذاكرتها الأصلية من خلال استعادة الحكايات المرتبطة بالمباني والأزقة والعلاقات الاجتماعية التي تشكّلت حولها. هذا كله يعكس فهمًا للمكان، بوصفه أكثر من مجرد بنية فيزيائية، بل كفضاء حي محمّل بالمعاني والرموز والروابط التي تُشكّل الهوية الجماعية.
دعم الصمود السكّاني
يُعدّ توفير الدعم المادي والفني لترميم المنازل العربية، لا سيما تلك غير الملائمة للبيئة المعيشية والآيلة للسقوط، خطوة أساسية للحفاظ على الاستقرار السكاني، وتعزيز قدرة الأهالي على البقاء في بيوتهم، تدخلاً بنيويًا يُسهم في تعزيز حماية السكان والنسيج الاجتماعي من التفكك. فإن هذه المبادرات لا تُعد مجرد استجابات إنسانية أو اقتصادية، بل تُجسّد فهمًا عميقًا لأهمية المسكن بوصفه امتدادًا لهوية الفرد والجماعة، وحلقة في سلسلة من العلاقات الاجتماعية والثقافية التي تُشكّل الحضور العربي في المدينة المقدسة.
فعمليات الترميم لا تقتصر على كونها أدوات تمكين اجتماعي واقتصادي، بل تحمل بُعدًا رمزيًا وسياسيًا، إذ تُعيد إنتاج علاقة السكان بمنازلهم، وتُعزز من قدرتهم على مقاومة التهجير القسري والتفريغ الديمغرافي. فالبيت في هذا السياق ليس فقط ملاذًا ماديًا، بل فضاءً يتداخل فيه الخاص مع العام، ويتجسد فيه التاريخ الشخصي والعائلي كجزء من السردية الأوسع.
من خلال هذا، يتم الحفاظ على البنية الاجتماعية والثقافية للمكان، وتُحمى الروابط المجتمعية من التفكك القسري. وبالتالي، فإن هذا النوع من التدخل يُمكن قراءته كاستعادة للحق في المكان، وإعادة تأكيد للانتماء وتجديد للوجود العربي بوصفه فعلًا مستمرًا ومقاومًا في وجه محاولات الإقصاء.
تعزيز الاقتصاد المحلي
يُجسّد تشغيل الحرفيين والعمّال المحليين في مشاريع الترميم ممارسة تُعيد تفعيل المعارف التقليدية والمهارات الحرَفية المتجذّرة في الذاكرة الثقافية للمجتمع المقدسي. هذه المبادرات لا توفر فقط فرص عمل، بل تُعزز من استمرارية التراث الحي، وتُعيد توطين الاقتصاد ضمن علاقات اجتماعية محلية، ما يُسهم في تحصين المجتمع من التدهور الاقتصادي الناتج عن الفراغ الوظيفي المستمر. أما ترميم الدكاكين التجارية في البلدة القديمة، فهو يُشكل تدخلًا اقتصاديًا ثقافيًا، يعزز من ثبات السكان، ويُحافظ على تنوع النشاط الحرفي والتجاري كجزء من الهوية الحضرية للمدينة. إن السوق والمحل التجاري ليسا فقط وحدتين اقتصاديتين، بل فضاءات اجتماعية تُنتج التفاعل اليومي، وتُكرّس الوجود العربي في وجه محاولات الاحتكار والهيمنة التي تهدف إلى تفريغ المدينة من معناها التاريخي والإنساني.
التوعية والمناصرة
يُعد توثيق انتهاكات الاحتلال بحق التراث العربي في القدس، وتسليط الضوء عليها عبر تقارير وحملات إقليمية ودولية، ممارسة رمزية ومادية تكشف محاولات تشويه وإعادة تشكيل الحيز الثقافي والتاريخي للمدينة، وفق سرديات مخالفة للرواية الأصلية. فإن التراث ليس مجرد شواهد مادية، بل هو حامل للذاكرة الجمعية، وجزء من الهوية المتجذّرة في المكان، ما يجعل استهدافه شكلًا من أشكال الانتهاك الرمزي الهادف إلى محو الحضور العربي. أما التعاون مع المؤسسات الإقليمية والدولية لحشد الدعم المالي، فهو يُمثّل امتدادًا لشبكات التضامن الثقافي، ويُعبّر عن وعي جماعي بضرورة الحفاظ على المدينة كرمز حضاري وتاريخي. من هذا المنطلق، تُقرأ هذه الجهود بوصفها استراتيجية للمقاومة الهادئة، تعيد ربط المجتمعات بهويتها الجمعية، وتُؤكد على الحق في الرواية وفي المكان وفي الوجود.