- 5 آيار 2025
- مقدسيات
القدس - اخبار البلد- كتب نافذ عسيلة
في عام 1948، شكلت التحولات المتسارعة منعطفًا مصيريًا في تاريخ فلسطين، إذ لم يكن الحدث مجرد تغير جغرافي، بل زلزالًا زعزع أركان الوجود الفلسطيني من أساسه.
الشهادات الحية لمن عاشوا النكبة تكشف كيف تحولت المأساة إلى سردية راسخة، تروي تفاصيل التهجير القسري والقرى التي أُفرغت من أهلها، وتُبرز رمزية المفاتيح التي بقيت في الأيدي كعهود لا تنكسر.
في هذه الذاكرة الجماعية، تتحول الذكريات إلى أدوات مقاومة ثقافية تتجلى في الأغاني، وتنبض في الفنون، وتعيش في ملامح التراث الفلسطيني. هوية المنفى تنمو في قلب المخيمات، حيث تتجاوز هذه الفضاءات كونها محطات مؤقتة لتغدو موطنًا مشبعًا بالحنين وأمل العودة.
وفي القدس، تتداخل الحكايات وتتنازع الروايات، لتصبح الحجارة ذاتها مرآة لذاكرة متشابكة، وصراع على الهوية والانتماء لا يزال مستمرًا في تفاصيل المكان.
النكبة ليست فصلًا منسيًا في كتاب التاريخ، بل واقع ممتد في الحاضر الفلسطيني، يتردد صداه في أصوات الأجيال التي ورثت الحكاية وعاشت آثارها. من هذه الحقيقة تنطلق الرحلة إلى عمق الذاكرة الفلسطينية، حيث تتحول الروايات الفردية إلى وثائق نابضة، ويتحول المفتاح الصغير إلى رمز كبير لمشروع عودة لا تضعف جذوره.
الذاكرة والهوية
النكبة تُرصد بوصفها حدثًا تأسيسيًا في تشكل الهوية الفلسطينية، إذ تتقاطع فيها معاني الفقد والمقاومة لتكون رمزًا جمعيًا يتجاوز البعد السياسي إلى فضاء الذاكرة الثقافية. في الروايات الشفوية للناجين من المجازر والتهجير القسري في قرى مثل دير ياسين واللد والطنطورة، تتجلى حكايات تحولت مع الزمن إلى مكونات أصيلة في تراث الصمود الذي يُنقل ويتجدد عبر الأجيال.
التجارب الفردية لا تُروى بوصفها ذكريات عابرة، بل تتحول إلى وسائط لهوية جماعية وإلى أدوات فاعلة في الصراع على المكان والانتماء والحق. تنتقل هذه الذاكرة من جيل إلى آخر من خلال طقوس متكررة، وأحاديث المناسبات والمناهج المدرسية والممارسات اليومية، فتعاد صياغة الحاضر استنادًا إلى ماض لا يُنسى.
الذاكرة الفردية، حين تُروى وتتكرر وتذوب في الذاكرة الجماعية التي لا تنبني فقط على ما جرى، بل على الكيفية التي يُعاد بها تمثيل الحدث واستدعاؤه في مختلف أشكال التعبير. في هذا الامتداد، لا تظل النكبة مجرد لحظة تاريخية، بل تتحول إلى بنية متجذرة في الوعي الفلسطيني، تُشكل الحاضر وتوجه المستقبل.
الروايات الفلسطينية لا تُروى لمجرد التوثيق، بل تُوظف في صياغة خطاب مقاومة يُعيد إنتاج الماضي كفعل سياسي حاضر، يحمل مطالب واضحة بالعدالة والاعتراف والعودة. الرموز المادية كالمفاتيح وملابس اللاجئين وصور القرى المدمرة، تتجاوز كونها شواهد على النكبة لتصبح عناصر أساسية في بناء سردية حول الحق والهوية والارتباط بالمكان.
المخيمات، التي شُيدت كمحطات مؤقتة، باتت فضاءات حية تُنتج مفاهيم جديدة للجماعة والانتماء، وتشكل نواة لهوية فلسطينية مرنة في حركتها، لكنها ثابتة في جذورها. فهم النكبة هنا يتجاوز حدود الحدث التاريخي ليغوص في البنية العميقة للوعي الجمعي الفلسطيني، حيث يُعاد تشكيل الذاكرة وتستمر الحياة رغم النفي والتشريد.
الصراع على المكان والقدس
القدس ليست مجرد مدينة، بل حيز رمزي مكثف تتداخل فيه السرديات التاريخية المتضادة، وتتشابك فيه الروايات السياسية حول المعنى والهوية والانتماء. كل حجر وشارع واسم يحمل دلالات تتجاوز الجغرافيا، ليصبح التعبير عن الانتماء جزءًا من صراع أشمل على الذاكرة والمكان.
تهجير الفلسطينيين من القدس الغربية عام 1948، وسياسات الإقصاء المستمرة في القدس الشرقية، تكشف استخدام المكان كأداة استراتيجية لإعادة رسم الخريطة السكانية وفرض وقائع ديموغرافية تخدم مشاريع السيطرة. المدينة تتحول إلى نص مفتوح يُعاد كتابته عبر سياسات الهدم والمصادرة والاستيطان ويتجلى فيه العنف الرمزي إلى جانب العنف المادي، عبر إعادة إنتاج رواية تاريخية تُقصي الفلسطيني وتُهمش وجوده.
عمليات التهويد لا تقتصر على التغيير العمراني، بل تشمل محو المعالم الثقافية واللغوية وتغيير أسماء الشوارع وتحويل الأماكن التاريخية، في محاولة لصياغة سردية مكانية جديدة تُقصي الرواية الفلسطينية. في المقابل، تتجلى المقاومة الفلسطينية من خلال التمسك بالمكان، حيث يشكل البقاء في أحياء مثل سلوان والشيخ جراح فعلًا سياسيًا بامتياز، يتجسد في حماية البيوت والمطالبة بالحقوق وتحويل الوجود اليومي إلى شكل من أشكال المقاومة المستمرة. هنا، يغدو الجدار والبيت والقوارير تصبح رموزًا للصمود ووسائط فعالة للحفاظ على هوية لا تنفصل عن المكان.
المدينة تتشكل ضمن تفاعل دائم بين السياسات الاحتلالية وأشكال المقاومة الحضرية، لتنشأ جدلية حادة بين محاولات الإقصاء من جهة، والتمسك بالمكان وإعادة إعماره رمزيًا من جهة أخرى. في هذا السياق، تنقسم ذاكرة القدس إلى مستويين متوازيين ذاكرة رسمية تُفرض من الأعلى وأخرى شعبية تُروى من الأسفل، نابضة بتجارب الناس اليومية.
القدس تتجاوز كونها عاصمة موضع نزاع، لتغدو فضاءً مركبًا من المعاني المتداخلة، حيث تتقاطع السياسات مع تفاصيل الحياة اليومية. كل فعل بسيط كالسكن، أو الذهاب إلى المدرسة، أو أداء الصلاة، أو حتى السير في الشارع، يتحوّل إلى شكل من أشكال المقاومة، وإلى طريقة يومية لإعادة كتابة المدينة وإثبات الوجود فيها.
اللجوء والشتات
مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، كـشاتيلا في لبنان والدهيشة في الضفة الغربية، تتجاوز كونها مجرد تجمعات هامشية لتغدو فضاءات تنبض بتشكل هويات المنفى. هذه الهويات لا تنبع فقط من فقدان المكان، بل من إعادة تخيله واستحضاره في تفاصيل الحياة اليومية، بما يحول المخيم إلى مساحة زمنية ممتدة لا يُنظر إليها كمحطة مؤقتة، بل كواقع دائم ينتج روايات بديلة عن الوطن، ويعيد تعريف مفاهيم الجماعة والانتماء والحق.
المخيم يحمل دلالات تتجاوز طبيعته المكانية، فداخل أزقته وأحيائه وجدارياته وأسماء شوارعه المستوحاة من القرى المهجرة، تنسج جغرافيا بديلة تستبطن حلم العودة، وتصوغ ذاكرة جماعية لا تفصل بين الماضي والحاضر. كل زاوية فيه تمثل صفحة من كتاب الذاكرة، وكل رمز فيه يختزن معنى يتجاوز اللحظة.
تحولت مفاتيح البيوت المهجرة عام 1948، كما تُظهر دراسات عديدة، إلى رموز كثيفة بالمعنى، تُنقل من جيل إلى جيل كجزء من ميراث لا مادي يحمل في جوهره الذاكرة والحق والنية الصامتة في العودة. لم يعد المفتاح مجرد أداة، بل صار وثيقة رمزية لباب لم يُغلق ووطن لم يُمح من الوعي الجمعي.
في تفاصيل الحياة اليومية للمخيم، تتشكل ملامح مقاومة ثقافية صامتة. من تخطيط الأحياء، إلى تصميم البيوت المؤقتة، وصولًا إلى الجداريات والرسومات، تتحول كل عناصر المشهد إلى أدوات تستدعي الأرض الغائبة وتُبقي الحنين حاضرًا. وسط هذا الفضاء المحدود، يتبلور خطاب متماسك حول الهوية، يتحدى عوامل التآكل والنسيان.
الحنين لا يظهر كعاطفة فردية معزولة، بل يُعاد تشكيله كأداة سياسية تُغذي المشروع الوطني الفلسطيني. الذاكرة الجماعية، بوصفها نسيجًا مشتركًا، تتحول إلى محرك للفعل، والماضي إلى أساس راسخ لمطالبة مستمرة بحق لا يُنسى.
هوية المنفى تنمو من التفاعل بين الألم والأمل، بين الحلم والواقع، حيث يتقدم اللاجئ الفلسطيني باعتباره فاعلًا في إنتاج ذاته، لا مجرد ضحية لسياق تاريخي. من خلال المفتاح وخريطة القرية وحكايات الجدات، يتكون رصيد رمزي وثقافي يغذي نضالًا لا يكتفي بالنجاة، بل يسعى لإعادة صياغة الوجود الفلسطيني عبر أجيال متتابعة.
المقاومة الثقافية والفنون
الفنون الفلسطينية تمثل مساحات نابضة تُحفظ من خلالها الذاكرة الجماعية، لا باعتبارها ممارسات جمالية فحسب، بل بوصفها أدوات للمقاومة الرمزية. الأغاني، كما في أعمال مارسيل خليفة، تتجاوز حدود الترفيه لتصبح لغة مشبعة بالوطن والمنفى، حيث تُستدعى القرى والمخيمات والجدار، وتُعاد صياغة الانتماء من خلال اللحن والكلمة.
اللوحات الفنية، كما في أعمال سليمان منصور، تخلق عالماً بصريًا كثيفًا يُجسد معاناة الفلسطيني برموز اختزالية قوية، أبرزها حامل الأرض التي تُمثل اختصارًا بصريًا لعمق الصمود والانتماء والإصرار على البقاء، رغم محاولات الاقتلاع. أما في الأدب، كما يظهر في نصوص غسان كنفاني، فتتحول الرواية إلى مساحة يتجلى فيها الفلسطيني كذات فاعلة في سيرورة تاريخها، لا كضحية هامشية، وتُبنى الشخصيات لتعكس صراعات الهوية والمنفى والحق في العودة.
الإبداع في مجمله يتحول إلى أرشيف بديل، يوثق ما تم تهميشه أو محوه عمدًا، ويُعيد بناء الذاكرة الجماعية بوصفها سردية متواصلة لا تنفصل عن الألم، لكنها لا تُختزل فيه. الجرح لا يُغلق، لكنه يُروى بوعي، ليُفهم ويُحفظ، لا ليُستغل أو يُنسى.
في الحياة اليومية، تتجلى الهوية الفلسطينية أيضًا من خلال التفاصيل الصغيرة، حيث يشكل المطبخ امتدادًا حسيًا ومكانيًا للذاكرة. أطباق مثل المقلوبة والزعتر ليست مجرد وجبات، بل إشارات إلى الجغرافيا الغائبة، تُعيد استحضار البيت والموسم واليد التي كانت تعدها. النكهة تتحول إلى تجربة استدعاء، والطعام يُصبح نصًا ملموسًا يُروى ويُذاق ويُقاوم النسيان عبر الحواس.
الحفاظ على الطبق التقليدي يُعادل استعادة الأرض بالرمز، الزعتر يحمل رائحة جبال فلسطين، والمقلوبة حين تُقلب في طبق التقديم تستعيد شكل الأرض، في مشهد رمزي يُحاكي قلب المعادلة، وانتظار العودة. الطقوس الغذائية في الشتات تُمارس كروابط للهوية، وتُؤدى في البيوت والمناسبات كأفعال استحضار جماعي للمكان الأم.
وصفات الطعام تُنقل من جيل إلى جيل بوصفها سرديات محكية، حيث تتحول الملعقة إلى وسيلة سرد، تربط بين ذاكرة الأمهات وتطلعات الأحفاد، وتُعيد وصل اللاجئ بجذوره والمنفى بالوطن والماضي بالحاضر في آنٍ واحد.
الرواية المضادة
الجهود الفلسطينية في التوثيق الشفوي والمبادرات المجتمعية تُشكل أدوات فاعلة في مواجهة السردية الصهيونية المهيمنة، التي طالما روجت لفكرة أرض بلا شعب، وسعت إلى تغييب الوجود الفلسطيني التاريخي عن المشهد. مشاريع مثل رُواة، التي تُعنى بجمع شهادات اللاجئين، تعمل على بناء أرشيف بديل يُعيد الاعتبار لأصوات المهمشين، ويمنح الذاكرة الجماعية حضورًا ملموسًا في الحاضر السياسي والثقافي.
هذه المبادرات لا تنحصر في الفلسطينيين وحدهم، بل تمتد إلى محاولات نقدية من داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته، كما في تجربة جمعية زوخروت، التي تسعى لتفكيك الرواية الرسمية للدولة، وتسليط الضوء على النكبة ومسؤولية إسرائيل عنها. من خلال المعارض والخرائط واللقاءات المجتمعية، تُعاد كتابة تاريخ القرى المهجرة، وتُستعاد ذاكرة حاول المحو أن يُقصيها.
عملية جمع الشهادات الشفوية تتخذ بعدًا سياسيًا ومقاومًا، حيث يُعاد إنتاج الحقيقة من الهوامش، ويُخاطب بها الداخل الفلسطيني كما الرأي العام العالمي. في هذا السياق، لا تُوظف الذاكرة كأداة توثيقية فحسب، بل تُستثمر كآلية لاستعادة الحق وإعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر من عايشوه، لا من كتبوه في مواقع السلطة.
الحقائق التاريخية لا تُبنى دائمًا على وقائع ثابتة، بل تُنتج ضمن صراع الروايات، وتُعاد صياغتها وفق توازنات القوة والهيمنة. الذاكرة، في هذا الإطار، تتحول إلى ساحة مواجهة، والماضي يُستدعى بوصفه موضوعًا متنازعًا عليه، تتجدد كتابته بما يخدم الحاضر ومتطلباته السياسية والرمزية.
ما يُكتب في الكتب الرسمية لا يُمثل بالضرورة الحقيقة الكاملة، بل يمر عبر مصافي السلطة وآليات الهيمنة، مما يجعل من العلوم الإنسانية، أداة لكشف الفجوات وسبر أغوار المسكوت عنه، وتحليل توظيف النسيان كاستراتيجية بقدر توظيف التذكر.
التكنولوجيا الحديثة تُستخدم اليوم بوصفها امتدادًا لذاكرة مهددة. من التسجيلات الصوتية إلى الخرائط الرقمية التفاعلية، يجري إحياء الأماكن الممحية وتحويلها إلى ذاكرة حية يمكن التجول فيها افتراضيًا. في هذا الفضاء الرقمي، يُستعاد المكان كجزء من مشروع أوسع لاستعادة الجغرافيا عبر السرد ولإبقاء التاريخ حاضرًا في وعي الأجيال المقبلة.