• 2 تموز 2025
  • مقدسيات

 

 القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة 

 

في القدس، تتقاطع الأديان والتاريخ والهويات ضمن مشهد بصري معقد، حيث تتحول الظلال إلى شواهد على صراعات غير مرئية. البلدة القديمة لا تُفهم فقط بجغرافيتها، بل أيضاً من خلال تفاعل الضوء والظل الذي يعكس الانقسامات والتوترات.

الظلال هنا تحمل معاني تتجاوز غياب الضوء، فهي تعبر عن السلطة والهوية والمقاومة، من أسوار العهد العثماني إلى المستوطنات والسياح. عبر مراقبة هذه الظلال يمكن فهم كيف تؤثر على إدراك السكان للحدود وعلى تحركاتهم اليومية، لتكشف عن مدينة تحكي قصتها من خلال الضوء الذي يلامس حجارتها والظلال التي تروي تاريخها المستمر.

يتقاطع حضور الظلال في الأزقة الضيقة مع البنية المجتمعية المتشابكة للأحياء الأربعة الإسلامي والمسيحي واليهودي والأرمني. ولا تقتصر هذه الظلال على كونها مجرد ظواهر ضوئية، بل تلعب دورًا في رسم حدود نفسية وثقافية بين المجتمعات المختلفة. فعلى سبيل المثال، تمثل الظلال المنبعثة من الأسوار والأبواب التاريخية مثل باب الخليل وباب العامود نقاط عبور غير مرئية، حيث يلحظ المار تغيرًا ملموسًا في اللهجات وأنماط اللباس والتفاعل الاجتماعي بمجرد اجتياز تلك العتبات.

في الحي اليهودي، تشكل المباني شبكة من الظلال الكثيفة التي تعزز إحساسًا بالانفصال أو الحماية، تعبيرًا عن واقع سياسي وأمني معقد. أما في الحي الإسلامي والمسيحي، فتتداخل الظلال مع ضجيج الأسواق اليومية وروائح الطعام وأصوات المآذن واجراس الكنائس في مشهد حي يعكس دينامية المكان، إلا أن هذه الحيوية لا تخفي الحدود غير المرئية التي تفرضها التوترات التاريخية والسياسية. تعكس هذه الظلال، في نهاية المطاف طيفًا من المعاني المتراكبة ما بين الأمان والانعزال وبين الانفتاح والانغلاق في مدينة تحمل تاريخًا متشابكًا من التعايش والصراع.

تتحرك الظلال مع دوران الشمس مرسمة بذلك خريطة زمنية متغيرة للفضاء الحضري داخل أسوار المدينة القديمة. عند شروق الشمس تلقي الأسوار العتيقة بظلالها الطويلة على الأرض، مما يمنح الإحساس بالانغلاق والانعزال، كما لو أن المدينة ما تزال نائمة أو متحفظة في استقبال يومها، ومع اقتراب الظهيرة، تقصر هذه الظلال وتنسحب فينفتح الفضاء تدريجيًا وتزداد حركة الناس والأسواق، وتبدأ المدينة في استعادة نبضها اليومي.

في ساعات العصر، تتداخل ظلال المآذن وقباب الكنائس مع نسيج الأحياء لتشكل إشارات بصرية تعلن عن مواعيد الصلاة أو الطقوس الدينية فيتحول المكان من فضاء عام إلى فضاء خاص، يحمل طابعًا روحانيًا يتجاوز المادي إلى الرمزي. بعض الأزقة التي تظل في الظل طوال النهار بسبب ارتفاع المباني وضيق المساحات تبقى أكثر هدوءًا وبرودة، مما يجعلها ممرات خفية للهاربين من صخب السوق أو حر الشمس، في المقابل تتحول المساحات المشمسة خصوصًا في الساحات والمداخل إلى نقاط تلاق اجتماعي، حيث يتجمع الناس للحديث أو البيع أو الاستراحة.

بهذا التفاعل بين الضوء والظل، لا يعود الفضاء مجرد امتداد مادي، بل يصبح كائنًا حيًا يتنفس على إيقاع الشمس يغير وظائفه ومعانيه مع مرور الساعات.

في حي الشيخ جراح، تتجاوز الظلال دورها الفيزيائي لتتحول إلى رموز بصرية تجس واقعًا سياسيًا واجتماعيًا معقدًا. تلقي المستوطنات الجديدة بظلالها الثقيلة على المنازل العربية، وكأنها تفرض حضورًا دائمًا يذكر باختلال التوازن الديموغرافي والسياسي في المنطقة، لا سيما في محيط الحرم الشريف. هنا، لا تشكل الظلال مجرد انعكاسات للضوء، بل ترسم حدودًا غير مرئية لكنها محسوسة تفصل بين السيطرة والمقاومة وبين الحياة اليومية والخطر الكامن.

تظهر ظلال الجدران والمآذن واجراس الكنائس والشرطة المنتشرة في الأزقة خطوطًا رمزية للمراقبة لتكشف، أين يمكن للعرب أن يتحركوا وأين يصبح وجودهم محل تساؤل أو استهداف، حتى الظلال التي تلقيها أعلام المستوطنين أو اللافتات التجارية الإسرائيلية، تتحول إلى إشارات رمزية تعيد تأكيد الهيمنة على الفضاء وتعيد تشكيل الشعور بالانتماء أو الإقصاء.

في هذا السياق، تتحول الظلال إلى أدوات تواصل غير منطوق تحكي عن قلق مقيم ووجود مهدد وانقسام مستمر في الفضاء بين من يسكنه ومن يسيطر عليه. 

بعض الظلال في القدس لا تكتفي برسم معالم الحاضر، بل تستحضر الماضي المعماري والروحي الذي اندثر أو تغير في لحظات معينة، من اليوم قد يظهر ظل قوس حجري، كان جزءًا من بناء أزيل أو تنبعث من الجدران ملامح شارع اختفى تحت طبقات التحديث، وكأن الضوء يعيد إحياء ذاكرة مادية لم تعد مرئية بالعين المجردة. هذه الظلال العابرة والثابتة في آن، تعيد للسطح أطياف معمارية تحمل في طياتها تاريخًا منسياً وتحفز الخيال على استرجاع ما كان.

في حارة النصارى، تلقي الأديرة القديمة ظلالها الطويلة على الطرقات مذكرة بالحجاج الذين عبروا هذه الأزقة في طريقهم إلى كنيسة القيامة، وبالرهبان الذين عاشوا في صمتها لعقود وقرون. هنا، يصبح للظل صوت يشبه التراتيل القديمة، يستدعي تاريخًا ممتدًا من العبادة والضيافة، ويحول الفضاء إلى سجل بصري لذاكرة جماعية لا تزال حية في الوجدان وإن غابت مادتها عن الواقع.

في الاسواق القديمة، لا تستخدم الظلال فقط كملاذ من الشمس، بل كأدوات لإعادة تشكيل الفضاء حسب الحاجة والسلطة، بعض التجار يمدون الشوادر أو الأقمشة فوق مداخل محلاتهم في الصيف ليخلقوا ظلالًا إضافية تتيح للزبائن الراحة والبقاء فترة أطول، مما يحول السوق إلى فضاء أكثر حيوية ومرونة تتحكم فيه المبادرات الفردية والعادات الاجتماعية.

لكن هذا التلاعب بالظل لا يمر دائمًا دون مقاومة. ففي بعض الأحيان تقدم سلطات الاحتلال على إزالة هذه المظلات المؤقتة بذريعة عدم الترخيص، كما حدث في حي المصرارة قبل اسبوعين في خطوة لا تخلو من رمزية، إذ تتحول إدارة الظلال ذاتها إلى ساحة صراع على التحكم في المجال العام. تصبح قرارات مثل إزالة قطعة قماش بسيطة فعلًا سياسيًا يكشف عن التوتر القائم حول من يملك الحق في تشكيل البيئة اليومية.

وفي سياقات أخرى، تتخذ الظلال معاني اجتماعية أو سياسية أعمق، إذ يتجنب بعض المارة المرور تحت ظلال مبان أو منشآت مرتبطة بجماعات معينة، كأن تكون تحت سيطرة أمنية. بذلك، لا يحدد مسار الحركة في القدس فقط بحالة الضوء أو الظل، بل أيضًا بالمعنى الذي تحمله هذه الظلال، ما بين الأمان والخطر والحياد والانتماء.

الظلال ليست مجرد غياب للضوء، بل شيفرات بصرية تحمل معاني القوة والهوية والذاكرة، في مدينة تتقاطع فيها السياسة والدين والتاريخ، تصبح الظلال وسيلة لفهم ما لا يقال وما لا يظهر على الخرائط.

تتغير الحدود فيها مع حركة الشمس، وتعيد الظلال تشكيل الفضاء حسب من يمر به. قد توحي ظلال مئذنة بالانتماء في لحظة وبالرقابة أو العزلة في لحظة أخرى، حتى الأماكن المشتركة كساحة باب العامود أو السوق تتحدد حركتها بعلاقة دقيقة بين الضوء والظل، حيث يقرر الناس كيف يتحركون وأين يتوقفون.

في القدس، لا تُقرأ الفضاءات من الخرائط، بل من تفاصيل خفية تشكلها الظلال، التي قد تكشف عن مناطق حياة أو عن مساحات مغمورة لا يجرؤ أحد على دخولها. فالظل هنا ليس حياديًا، بل سياسي واجتماعي وديني وأحيانًا شعري.