- 27 تشرين أول 2025
- مقدسيات
القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة
في زوايا حارة النصارى بالقدس القديمة، حيث تختلط رائحة البخور بأصوات الأجراس ونداءات الأذان، تواصل حرفة صناعة الشموع وجودها رغم مرور الزمن. لم تعد الشموع مجرد وسيلة للإضاءة، بل أصبحت رمزًا دينيًا واجتماعيًا يعكس العلاقة العميقة بين المقدسي ومدينة القدس وتراثها.
داخل الورش الصغيرة، يعمل الحرفيون بإتقان على تشكيل الشموع، مضفين عليها لمسات من ذاكرتهم، لتصبح جزءًا من الطقوس والمناسبات. رغم التحديات الاقتصادية والمنافسة مع المنتجات الحديثة، تستمر هذه الحرفة في إثبات أهميتها في الحفاظ على هوية الحارة وتعزيز تماسك المجتمع. فشموع حارة النصارى لا تضيء فقط، بل تروي قصصًا عن صمود المدينة وإصرار سكانها على الحفاظ على إرثهم.
تقع الحارة في قلب البلدة القديمة، وهي تمثل نموذجًا للتنوع الديني والثقافي، إذ يقطنها مسيحيون من طوائف مختلفة مثل الأرثوذكس والكاثوليك، فيما تحيط بها أحياء يقطنها مسلمون، مما يعكس روح التعايش.
ترتبط بداية هذه الصناعة بالعصور الوسطى، حيث كانت جزءًا من الطقوس المسيحية الكبرى مثل عيد الميلاد والفصح. وكان موقع الحارة قرب كنيسة القيامة عاملاً مهمًا في جعلها مركزًا لإنتاج الشموع المخصصة للكنائس المحلية ولتلك التي يزورها الحجاج من مختلف أنحاء العالم.
ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الحرفة عنصرًا أساسيًا من عناصر الهوية الثقافية، وأداة للحفاظ على التراث في ظل التحولات السياسية والاقتصادية. فالشموع تحمل دلالات روحية وترمز إلى النور الإلهي، مما يمنحها مكانة خاصة في الاحتفالات والصلوات.
لا تقتصر الورش على إنتاج الشموع العادية فقط، بل تصنع أيضًا شموعًا مزخرفة تحمل صلبانًا وأيقونات دقيقة، تستخدم في الأعياد والعماد وحفلات الزفاف، مما يضيف بعدًا جماليا وروحيًا للمنتج.
تنتقل هذه الحرفة عبر الأجيال في عائلات مقدسية عريقة مثل القنصل وزريق والعيسى، مما يعكس نظامًا اجتماعيًا يحافظ على الإرث. فالورشة ليست مجرد مكان للإنتاج، بل هي فضاء للتعلم وتوارث الحرفة، حيث يواصل الأبناء مسيرة الحفاظ على التراث اليدوي في مواجهة التغيرات.
تصنع الشموع التقليدية، خاصة تلك المستخدمة في الكنائس، من شمع النحل الطبيعي لما له من نقاء ورمزية روحية، بينما تنتج الشموع التجارية غالبًا من البارافين بهدف خفض التكاليف وزيادة الإنتاج.
رغم التطور التكنولوجي، تحافظ بعض الورش على استخدام الأدوات التقليدية مثل القوالب الخشبية والمعدنية، بينما اعتمدت ورش أخرى على الآلات لتلبية الطلب المتزايد خلال المواسم. هذا التوازن بين الحداثة والأصالة يساهم في بقاء الحرفة.
داخل هذه الورش، هناك تقسيم تقليدي للأدوار، حيث يتولى الرجال مهام الصب والتشكيل، بينما تقوم النساء بالتزيين والتغليف، مما يعكس تناغمًا بين الحرفية والدور العائلي.
وبذلك، فإن هذه الصناعة لا تمثل مجرد مهنة، بل هي ممارسة ثقافية تعيد إحياء التراث في كل شمعة جديدة. رغم التحديات الناتجة عن اعتماد المجتمع على الكهرباء وتوفر الشموع المستوردة، تظل هذه الحرفة حاضرة في المناسبات الدينية التي تحتفظ برمزيتها.
كما أثرت الظروف السياسية المعقدة على حركة السياحة والحج، مما أدى إلى تراجع عدد الزوار وقلل من المبيعات، مهددًا استمرارية بعض الورش الصغيرة. مع ذلك، تبذل بعض العائلات والمؤسسات جهودًا لإحياء الحرفة، من خلال ورش تدريبية وفعاليات ثقافية تسلط الضوء على قيمتها التراثية. كما تقوم مبادرات محلية بتسويق الشموع اليدوية كمنتج ثقافي، سواء في السوق المحلي أو عبر الإنترنت، لتصل إلى جمهور دولي. هذه الجهود تمثل شكلًا من المقاومة الهادئة لحماية الحرف من الاندثار.
ورش الشموع في القدس ليست مجرد أماكن للإنتاج، بل هي فضاءات للتفاعل الثقافي، حيث يلتقي الحرفيون برجال الدين والزوار، مما يعزز الهوية الجماعية ويربط المجتمع المحلي بالعالم. رغم الطابع المسيحي للصناعة، يستخدم بعض المسلمين الشموع في مناسباتهم، مما يعكس صورة حية للتعايش في البلدة القديمة.
في النهاية، تمثل صناعة الشموع علاقة المقدسيين بتاريخهم وأرضهم، إذ تحمل كل شمعة إشارات للانتماء والهوية. وبين الرموز الدينية وتفاصيل الحياة اليومية، تتجلى قدرة التراث على الاستمرار رغم التحديات، مما يجعل ورش الشموع حية، جسدًا للصلة بين الماضي والحاضر، ومصدرًا لإلهام روح المدينة.

