• 30 تشرين الثاني 2020
  • مقابلة خاصة

 

 

 إسطنبول – أخبار البلد -  اجرت الكاتبة والصحفية ميرا خالد خضر لقاء حصريا  فريدا من نوعه مع احد الخبراء القلائل  في مجاله الا وهو الدكتور محمود السيد الدغيم، صاحب المؤلفات الكثيرة  ومنها الكتب عن إسطنبول وعن التحولات فيها، حيث  تحدث د الدغيم بإسهاب عن جامع أيا صوفيا والتحولات التي شهدها هذا المكان الهام والحيوي في الرواية التركية والإسلامية عامة .

 ويسعدنا في شبكة " أخبار البلد" ان ننفرد بنشر هذه المقابلة الكاملة مع الدكتور محمود السيد الدغيم، والشكر موصول للصحفية والكاتبة  النشيطة "ميرا خالد  خضر" .

شهدت آيَا صُوفيَا تحولات تاريخية عظمى تزامنت مع التحولات السياسية والدينية في تركيا، فمن كاتدرائية عظيمة للروم الأرثوذكس في قسطنطينية القرن السادس الميلادي إلى مسجد للمسلمين في آستانا أو إٍستَانبُول آل عثمان في القرن الخامس عشر للميلاد، وها هي تعود مسجدا مرة أخرى بعد أن كانت متحفا لأكثر من ثمانية عقود ،ومن المهم جدا إلقاء الضوء عن تاريخ آيا صوفيا لردع الأكاذيب المشوهة لتاريخ دون تزييفٍ أو تضليلٍ وأحقية المسلمين بها دون غيرهم ، فلقد قال للدبلوماسي والشاعر الكبير التركي يحيى كمال بياتلي، في مقالة له عام 1922  "هذه الدولة لها أساسان معنويان، أولها الأذان من مآذن آيا صوفيا وهي مازالت تصدح، والثانية تلاوة القرآن الكريم أمام الخرقة الشريفة (بردة النبي الكريم بقصر طوب قابي في إسطنبول) وهي مازالت تتلألأ" ...

 ولهذا كان لزما علينا التوجه لصاحب الاختصاص طلبا للشرح والايضاح فكان  الدكتور التركي الإنجليزي محمود السيد الدغيم السوري الأصل  هو العنوان  خاصة ، فهو باحث أكاديمي في مركز الدراسات الإسلامية؛ بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية؛ في جامعة لندن؛ من سنة (1417 هـ/ 1997 م)؛ وحتى الآن ،حاصل على شهادة الماجستير في الفلسفة من جامعة سالفورد في مانشستر البريطانية سنة ١٩٩١ عن موضوع الجدل في أصول الفقه الإسلامي ، حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة سالفورد البريطانية بموضوع أصول الفقه الإسلامي وتاريخه حتى نهاية القرن السابع الهجري ، عضو في اتحاد الصحفيين البريطانيين في لندن و عضو في اتحاد المؤرخين العرب في القاهرة ، عضو عامل في رابطة الأدب الإسلامي العالمية ،فقيه وشاعر ومفكر وكاتب ألف في التاريخ والسياسة والثقافة والفكر والتراث والفقه الإسلامي ..وعن إستانبول ألف:  كتاب إسطنبول (باللغة العربية)، صَدَرَ سنة 1984 م عن مؤسسة آند في مدينة إسطنبول وأعيد طباعته عدة مرات باللغتين العربية والتركية.

إلى جانب كتاب : فهرس مخطوطات مكتبة السليمانية الأم في استانبول ثلاثة مجلدات أكثر من ألفين صفحة، منشورات سقيفة الصفا - ماليزيا 2010م

وكما كتب عن تاريخ استانبول التركية في عدد من بحوثه و مقالاته  أكثرها نشرت في جريدة الحياة التي تصدر في لندن البريطانية .

س: ما رأيكم بافتتاح جامع آيَا صُوفيَا في إٍستَانبُول؟.

ج: هذا استحقاقٌ وتَصحيحٌ مُستَوجَبٌ، وقد تأخَّر لأسبابٍ قاهرة.

س: ماذا عن تاريخ إٍستَانبُول؟.

ج: إنَّ الدراسات المكتوبة باللغة العربية لا تُعطي مدينة إٍستَانبُول جزءاً يسيراً من حقِّها، ومَن أراد الإلمام بأحوالِ مدينة إٍستَانبُول فعليه بالكُتُبِ العُثْمَانِيَّة، والتركيَّة.

س: ما هو أفضل كِتابٍ قرأته عن تاريخِ إٍستَانبُول؟.

أفضل الكُتُبِ العُثْمَانِيَّة - عن تاريخِ إٍستَانبُول - التي في مَكتبتي؛ كِتابٌ نادِرٌ عنوانه: (آثار الحضارة البيزنطية والعُثْمَانِيَّة الباقية في إٍستَانبُول ومضيق البُوسفُوْر)، (إٍستَانبُول وبوغاز إيچي، بيزانس وعثمانلي مدنيتلركك آثار باقية سي)، لمؤلفه: محمد ضياء بن عثمان وصفي بن الحافظ محمد عارف الأيوبي الأنصاري، عضو مجلس متحف الأوقاف الإسلامية، وعضو مجلس المعارف الكبير، وعضو مجلس المحافظة على الآثار العتيقة، وعضو جمعية التاريخ العُثْمَانِيّ، وكان ذلك المؤلِّفُ مُطَّلِعاً اطلاعاً واسعاً على المصادر العربية والأوروبية والعُثْمَانِيَّة. وقد صَدَرَ الكِتاب عن وزارة المعارف العمومية العُثْمَانِيَّة، وهو يقع في مجلدين، وقد طُبِعَ المجلدُ الأول في العهد العُثْمَانِيّ؛ بدار الطباعة العامرة سنة (1338 هـ/ 1920م)، وهو يقع في: (528) صفحة، وفيه: (189) لوحة مصورة، وطُبع المجلد الثاني في عهد الجمهورية التركية؛ بمطبعة الدولة التركية سنة (1347 هـ/ 1928 م)، وهو يقع في: (262) صفحة، وفيه: (50) لوحة مصورة، والكتاب باللغة العُثْمَانِيَّة، وقد كُتِبَتْ أسماءُ الأعلام بالحروف العربية والفرنسية واليونانية حَسْبَ أُصولِها؛ وهذا يدلُّ على سِعة معرفة المؤلِّف، وعلى تطوُّرِ الطِّباعةِ أيضاً. وهنالك دوائر معارف خاصّة بإٍستَانبُول باللغة التركية، وكتب السياحة العُثْمَانِيَّة القديمة، والتركية الحديثة، وكلُّها زاخرة بالمعلومات الوافرة، وفيها الغثُّ والسمينُ، ولكنّ هذا الكتاب من أفضل ما طُبِع من الكتبِ الخاصة بتاريخ إٍستَانبُول، وهو يتضمَّنُ معلومات غزيرة اعتماداً على المصادر والمراجع التي أُتيحتْ للمؤلِّف في زمانه قبْلَ انتشار التلوُّث الثقافي الذي نُعاني منه الآنَ، وأما المصادر ومراجع مؤلِّفِي كُتُب التاريخ المدرسية والجامعية في تركيا، وفي البلدان العربية والإسلامية هي مراجع ومصادر مُعادية للعثمانيين، وهي أوروبية، أو روسية، أو أمريكية؛ إمّا مُتَرْجَمَةٌ، أو مِن وَضْعِ الْمُستَشرِقِين والْمُبَشرِين، والعدوُّ لا ينصِفُ عَدُوَّهُ ،وإنَّ استبدالَ الحروفِ العَرَبِيّةِ العُثْمَانِيّة بالحروف التركيّةِ اللاتينيّةِ سنة (1347 هـ/ 1928 م)، قد حَرَمَ الأتراكَ من قراءةِ تُراثِهِم المخطوط والمطبوع، وما كُتِبَ باللغة التركية بعدَ إلغاءِ الخلافةِ العُثْمَانِيَّة لم يُنصِف العثْمَانِيين، بَلْ شوَّهَ تاريخَهم.، كما يمكن أنْ نستفيد من كُتِبِ الخصوم، وذلك بمعرفة ما يدور في أفكارهم، وما تُخفيهِ نواياهم، وما تتضمَّنه من أباطيل، وذلك ضروريٌّ كي نقومَ بإحباطِ خُطَطِهِم، ونَرُدُّ على أكاذيبِهِم، وهذا ما أُسميه بالإستفادة السلبية.

س:  أين نجد الإستفادة الإيجابية؟

ج:  يُمكِنُنا أنْ نَستفِيدَ الإستفادةَ الإيجابية من كُتبِ الأصدقاء التي تختزنُ الحقائقَ الْمُغيَّبَةَ دون تزييفٍ أو تضليلٍ، ولذلك فإنني أقول: مَن أرادَ أن يَطَّلِعَ على التاريخِ العُثْمَانِيّ الصحيح، فَعَلَيْهِ بِقراءةِ الكُتُبِ العُثْمَانِيَّة المؤلَّفَةِ باللغةِ التركيةِ العثمانيَّةِ، واللغة العربية المخطوطة؛ ثم المطبوعة مع الحذر الشديد لأنّ المطبوعات مملوءة بالتشويه التاريخيّ.

س: مَن الذي أسَّس (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) ومتى؟.

ج: يقولُ المؤرخون: اجتمعتْ عصابةٌ من قراصنةِ اليونان بقيادة القُرصان (بيزاس = Byzas)، وزوجته (فيدالي)، واستوطنتْ عِصابتُهم في كُهوف منطقة آيَا صُوفيَا، وجامع السُّلْطَان أحمد، وامتهنت القرصنة، وكانت تَنْقَضُّ على السُّفُنِ التي تعبرُ (مضيق البُوسفُوْر) ما بين بحر (مرمرة) في الجنوب، والبحر الأسود في الشمال، ويقال: إنَّ بدايةَ استيطانهم كانت سنة (657 قَبْلَ الميلاد)، وقد طوَّرُوا كُهُوفَهم بعد ذلك، وأقاموا مُستوطنةً إستعماريةً بيزنطيةً شكَّلَتْ مَلاذاً استقطَبَ الكثيرين مِن القراصِنَةِ والأشقياءِ الفارِّيْنَ مِن وَجْهِ العدالةِ في المناطق الأُخرى، ولما غَزَتْ جيوشُ الملكِ (دارا) الفارسيّ بِلادَ اليونان احتلَّ الفُرسُ مدينةَ (بيزنطة) في طريقهم، ثم حَرَّرَها منهم القائدُ الإسبارطيُّ اليونانيُّ (پوزانياس) سنة (479 قبل الميلاد)، ثم تحررتْ بيزنطة، وقضتْ زمناً بين الاحتلال والحرية، ودفعتْ الجزيةَ لِأباطرةِ (روما)، وتعرضتْ للتخريب عِدَّةَ مراتٍ، وتعدَّدتْ أسماءُ هذه الْمُستعمَرَةِ، وكان أشهر أسمائها: (بيزانتيون).

س: متى تحوَّلت بيزنطة إلى (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)؟.

ج: لما اعتلى (قسطنطين الأول) عَرْشَ (روما) سنة (324 م)، واعتنق النصرانية، واجَهَ مُقاومةً وتمرُّداً من الرومان الوثنيين، فقرَّر بناءَ (روما الجديدة) على أنْ تَتَمَوْضَعَ على سَبْعِ تِبابٍ مِثل مدينة (روما)، وأرسل فُرَقَ الاستطلاعِ، واستقرَّ رأيُهُ أنْ يَبْنِيْهَا في موقِعِ (بيزنطة) التي كانت خاضعةً له، فَنُقِلَتْ إليها أعمدةُ الحجارة العِملاقة، وموادُّ البناءِ من إفريقيا وآسيا وأوروبا، وبدأتْ مراسمُ وضعِ أُسُسِها في (11) أيار/ مايو سنة (330 م)، واستمرَّتْ أربعين يوماً، ولما اكتملتْ سُمِّيتْ قسطنطينية، وصارتْ عاصِمةً للإمبراطورية الرومانية الكُبرى من سنة (335 م)، حتى سنة (395 م)، وبعد تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى رومانية غربية، وبيزنطية شرقية صارت (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) عاصِمةً للدولة البيزنطية الشرقية من سنة (395 م)، وقد حاربتْها أُمَمُ: القُوط الغربيين، والوندال، والأفار، والبُلغار، والرُّوس، والْهُون الشرقيين، والفُرس، والعَرب، وفَتَحَها (العُثْمَانِيُّوْن) سنة (857 هـ/ 1453م)، وانتهى تاريخُ (بيزنطة) القديم، وبدأ تاريخها الإسلاميّ الجديد.

وكانتْ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) محطَّ رِحالِ النصارى مُنذُ نَقْلِ العاصمةِ الرومانية من (روما) إليها، فازداد عددُ سكانها، واتَّسعَ بُنيانُها بشكلٍ سريعٍ، فأَفَلَ نَجْمُ (رُوما)، وسَطَعَ نَجْمُ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، وتَمَّ تَقسيمُها إلى (14) منطقةً إدارية عامرة بالقصور والكنائس والحمامات والأسواق والبيوت والبساتين، وتحيط بها الأسوارُ، والمياهُ، والخنادق، وتَعَاقَبَ القياصِرةُ على حُكْمِهَا حَتَّى فَتَحَهَا السُّلْطَان العُثْمَانِيّ أبو الفُتُوح، محمد الثاني؛ الذي سُمِّي محمد الفاتح سنة (857 هـ/ 1453 م).

س: ما هو دور (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) العالمي في صَدْرِ الإسلام؟.

ج: قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لَتُفْتَحَنَّ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»([1]).

يُعتبرُ هذا الحديث النبويّ الشريفُ بُشرى بِفَتْحِ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)؛ لِدَعوةِ أهلِها إلى الإسلام، وتحرير شعبها من الاستعبادِ القيصريّ، وقد فكَّرَ بفتحها أميرُ المؤمنين عُثْمَانُ بن عفان رضي الله عنه؛ سنة (27 هـ)، وذلك عن طريق الأندلُس، وهذا الخبرُ موجودٌ في كُتُب التاريخ القديمة، وليس له وجودٌ في الكُتب المدرسية الفاسِدة.

وهنالِكَ سببٌ آخر من أسبابِ تسابُقِ المسلمين إلى الالتحاقِ بتلك الجيوشِ الفاتحة لقسطنطينية وهو البُشرى بالمغفرةِ؛ حسبما وردَ في حديثِ رَسُول اللهِ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ الذي قَالَ: «أَوَّل جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ»([2])، ولذلك حرص المسلمون على حُضُورِ فَتْحِ (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ)، أي: مدينة قيصر.

وقال الطبري: «عن محمد؛ وطلحة، قَالا: وَأَرْسَلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه؛ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ الْحُصَيْنِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ، مِنْ فَوْرِهِمَا ذَلِكَ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ إِلَى الأَنْدَلُسِ، فَأَتَيَاهُمَا مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ. وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَنِ انْتُدِبَ مِنْ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) إِنَّمَا تُفْتَحُ مِنْ قِبَلِ الأَنْدَلُسِ، وَإِنَّكُمْ إِنِ افْتَتَحْتُمُوهَا كُنْتُمْ شُرَكَاءَ مَنْ يَفْتَحُهَا فِي الأَجْرِ، وَالسَّلامُ». وعن محمد وطلحة، قَالا: فخرجوا ومعهم البربر، فأتوها من بَرِّهَا، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وإِفرنجةَ، وازدادوا فِي سُلطان الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ إفريقية، فلما عَزَلَ عُثْمَانُ عبدَ الله ابن سَعْدِ بْنِ أبي سرح؛ صَرَفَ إِلَى عَمَلِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَكَانَ عَلَيْهَا، ورجع عَبْدُ اللَّهِ بن سَعْد إِلَى مِصر، ولم يزل أمرُ الأندلُسِ كأمرِ إفريقية حَتَّى كَانَ زمان هِشَام بن عبد الملك، فَمَنَعَ البربرُ أرضهم، وبقي مَن فِي الأندلُس عَلَى حاله»([3]).

يُستفادُ من خَبَرِ الطبريِّ وغيرِهِ مِن المؤرخين: أنَّ أميرَ المؤمنين عُثْمَانُ بن عفان رضي الله عنه؛ قد فَتَحَ من (الأندلس) بقدرِ ولايةِ (تونس)، وذلك بالفتح الإسلاميّ الأوَّل سنة (27 هـ/ 647 م)، وكان يفكِّرُ باقتفاءِ آثار (حنا بعل = هانيبعل) الكنعاني الذي اتَّجَهَ شَرْقاً من (الأندلس) نحو (روما)، وهذه الفِكرةُ راودتْ فيما بعد القائد الأُمويّ مُوسى بن نُصير أيضاً، و(العُثْمَانِيُّوْن) فَتَحوا مدينة (أدرنة)، واتخذوها عاصمةً لسلطنتهم، وانطلقتْ جيوشُهم منها، واتَّجَهَتْ شَرْقاً، فَفَتَحَت (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، وتحقَّقتْ بُشرى رسولِ الله محمد صلى الله عليه وسلم، وتحقَّقَ ما كان يريده الخليفةُ الراشد عثمانُ بنُ عفَّان رضي الله عنه.

ولذلك حاول فَتْحَهَا أميرُ الشام مُعاويةُ بنُ أبي سفيان رضي الله عنهما، ولكنه وصَلَ إلى ساحِلِ (مَضيق البُوسفُوْر)، ولم يفتح (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) سنة (32 هـ/ 652 م)، وذلك بعدما فَتَحَ جزيرةَ (قبرص) سنة (27 هـ/ 647م) في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. وانتصر والي مِصر عبد الله بن أبي سرح على الروم في معركة (ذات السواري) البحرية سنة (34 هـ/ 654م)، ولكنه لم يستطعِ الوصولَ إلى (الْقُسْطَنْطِينِيَّة).

س: كيف فَتَحَ (العُثْمَانِيُّوْن) مدينة (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)؟.

ج: ما من قائد مسلمٍ إلاّ وفكَّر بفتح (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، وقد فتحها السُّلْطَان (بيازيد الأوَّل)، فحاصرها مُدَّةَ (6) شهور سنة (796 هـ/ 1392 م)، ثم رَفَعَ الحصار، واتجه غرباً لصدّ الهجوم الصليبي الأوروبي، فانتصرَ على قائد الصليبيين الكونت (دى نيفر) ابن ملك المجر (سجسمون)، وأمراء أوروبا في معركة (نيكوبولي) على ضفاف نهر الدانوب سنة (798 هـ/ 1396 م)، وبعد انتصاره على الأوروبيين حاصر (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) سنة (799 هـ/ 1397 م)، وَفَرَضَ الجزيَةَ على الرومِ، ومِقدارُها (10000) دوقية ذهبية سنوياًّ، وخُصِّصتْ محلّةٌ للمسلمين في منطقة (سركجي)، ثم نقضَ الرومُ المعاهدةَ بعد استشهاد السُّلْطَان (بيازيد الأوَّل).

وقادَ الحصارَ الثالثَ الأميرُ العُثماني مُوسى (چَلَبِي) ابنُ السُّلْطَان (بيازيد الأوَّل) سنة (813 هـ/ 1410 م)، ولم يَتَيَسَّرْ لَهُ الفَتْحُ.

فقادَ الحصارَ الرابعَ السُّلْطَان العثماني محمد (چَلَبِي) ابن السُّلْطَان (بيازيد الأوَّل)، واصطدمَ بجيش الروم على الضفّة الشمالية لِخليجِ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) في منطقة (بشكتاش)؛ بقيادة قيصر الروم (عمانويل باليولوغوس؛ 1391 – 1425 م)، ثُمَّ توصل الطرفان إلى إحياء مُعاهدة السُّلْطَان (يلدرم بيازيد الأوَّل)، بدفع الجزية مِن الروم إلى لعثمانيين سنة (814 هـ/ 1411 م)، واستمرَّتْ تلكَ الهدنةُ حتى وفاةِ السُّلْطَان العثماني محمد (چَلَبِي) سنة (824 هـ/ 1421م).

وبعد وفاةِ السُّلْطَان محمد (چَلَبِي) آلت السلطنةُ إلى وَلَدِهِ السُّلْطَان مُراد الثاني، فاستمرَّتْ سلطنتُهُ من سنة (824 هـ/ 1421 م) حَتَّى سَنة (855 هـ/ 1451 م)، وأثناءَ سلطنَتِهِ نَقَضَ البيزنطيون مُعاهَدَتَهم مَع والدِهِ، فَحَاصَرَ السُّلْطَان مُراد الثاني (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، سنة (825 هـ/ 1422 م)، وتوصَّل الطرفان إلى مُعاهدة جديدةٍ تقتضي أنْ يدفعَ البيزنطيون إلى العثْمَانِيين مبلغ (30000) دُوقِيَّة ذَهَبِيَّة سَنَوِياًّ مع إعادةِ العَمَلِ بِمُعَاهَدَتِهِم مَعَ السُّلْطَان (بيازيد الأوَّل) يرحمه الله.

 ثم آلت السلطنةُ إلى وَلَدِهِ السُّلْطَان مُحَمَّد الثاني؛ الفاتح، فاستمرَّتْ سلطنتُه من سنة (855 هـ/ 1451 م) حتى سنة (ت 886 هـ/ 1481 م)، فَأنجزَ مُنجزاتٍ حَضاريةً كثيرةً، وأدرَكَ السُّلْطَان الفاتِحُ خطورةَ بقاءِ البيزنطين في (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) التي بقيتْ كَشوكةٍ في قلبِ دولتِهِ الواسِعَةِ الأطرافِ الممتدَّةِ في أوروبا وآسيا، فتبنّى (نظريةَ حَرْبِ المضائِقِ)، ولذلك قرَّرَ إنشاءَ القلعةِ المُسمَّاة (روملِّي حِصَار)؛ أو (بوغاز كيسين حِصاري) على الضفة الغربية الأوروبيةِ لمضيق البُوسفُوْر، مُقابِلَ القلعةِ الموجودةِ على الضفة الشرقيّةِ الآسيوية، المُسماة (أناضول حِصار) التي شَيَّدَها من قبل السُّلْطَان (يلدريم أبايزيد الأول) وَالِدُ جَدِّهِ، وبِوجُودِ المدفعيَّةِ العُثْمَانِيَّة في القلعتين أصبحَ عُبُورُ البحريَّةِ المعاديةِ في مَضيقِ البُوسفُوْر مُستحيلاً، وأدى ذلك إلى أضعافِ مدينة (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) عسكرياً، وبعد تدشينِ القلعة سنة (856 هـ/ 1452 م)؛ عاد السُّلْطَان محمد الثاني إلى العاصمة أدرنة، وأمرَ بصناعة مدافع الميدانِ العِملاقة، ومدافِعِ الهاون التي لم تُعْرَفْ من قبل، وَوَجَّهَ العُمَّالَ إلى تسويةِ الطريقِ الواصلةِ بين مدينة (أدرنة) غرباً، ومدينة (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) شرقاً.

وبعد اكتمال التجهيزات قاد السُّلْطَان جيوشه، واتجه من (أدرنة) شرقاً نحو(الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، وحاصَرَهَا بَراًّ وبَحْراً، ولما اشتدَّ الحصارُ أَمَرَ الإمبراطورُ (قُسطنطين الحادي عشر) بِقطعِ رُؤوسِ الأسرى المسلمين؛ وإلقائِها خَارِجَ الأسوارِ؛ أَمامَ عيونِ الجيوش الإسلامية، فأثارتْ جريمتُهُ حَمِيَّةَ القُوَّات الإسلاميَّةِ، فَشدَّدت الحصارَ حَتَّى فَتَحتْ مدينةَ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) عنوةً؛ بعد الهزيمة العسكرية البيزنطية، وسقوطِ أسوارِ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) تحت قَصْفِ المدفعيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ العِملاقةِ، ومدافِعِ الهاونِ، وشجاعةِ البحريَّةِ والفُرسان والْمُشاةِ (العُثْمَانِيين)، وقد استخرجَ أحدُ المؤرّخين تاريخَ فتْحَ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) من قوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ}([4])، فَقِيْمَةُ مَجْمُوعِ حُروفِها تساوي: (875) هـ، (بحساب تاريخ الجمَّل)([5])، وكان فَتْحُ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) يومَ الثلاثاء، ثم أدَّى السُّلْطَان الفاتِحُ صلاةَ الجمعة في (آيَا صُوفيَا)، وصعدَ على منبرٍ خشبيٍّ مؤقَّت، وألقى خُطبةَ الجمعةِ، فأمرَ بالمعروفِ، ونهى عن المنكرِ، وأوصى المسلمينَ بالإحسان إلى البيزنطيين، وغيرهم من الذين آثروا البقاءَ في (الآستانة)، وبعد الفتح بعشرةِ أيام خَطَبَ الجمعةَ في (آيَا صُوفيَا) الشيخُ آق شمس الدين؛ الشريفُ محمد بن حمزة الدمشقي، وهو الشيخ الروحي المعنوي للسلطان الفاتح، وتلا حديثَ رسولِ الله محمد صلى الله عليه وسلم «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»، واهتمّ السُّلْطَان الفاتحُ بإعادةِ إعمار المدينة، وترتيبِ شؤونها الإدارية، وَمَنَحَ (بطريقَ الروم) رُتبةَ وَزيرٍ في المراسم العُثمانية، وَمَنَحَهُ (كَنيسةَ فتحية)؛ لتكون مقراًّ للبطريركية الرومية الأرثوذكسية النصرانية، وسُكَّت النقودُ العثمانيَّةُ التي تحمِلُ عبارةَ: «السُّلْطَان ابن السُّلْطَان السُّلْطَان محمد خان ابن السُّلْطَان مراد خان؛ عزَّ نصره؛ ضرب في قسطنطينية سنة 857»، وأُعلِنَت الأفراحُ في جميعِ العالم الإسلامي، وحَضَرَ السفراءُ من الحجازِ والشام ومصر والهند لتهنئة السُّلْطَان، فَوَصَلَ إلى الآستانة حوالى (3000) مُسلمٍ من أعضاءِ الوُفودِ الإسلامية الْمُهَنِّئَةِ بالفَتْحِ الْمُبِين.

وأنا كنت قد نَظَمْتُ قَصيدةً في ذكرى (فَتْحُ إٍستَانبُول). كتبتُها بعدما مررتُ على (جامع الفاتح)، وقرأتُ الفاتحةَ لروحه الطاهرة، وقلتُ في القصيدةِ:

مَرَّ السَّحَاْبُ وَقَهْقَهَ الرَّعْدُ
فَاللَّيْلُ لَيْلُ الرُّوْمِ مُسْوَدُّ

وَالْعَاْدِيَاْتُ تَمُرُّ مُسْرِعَةً
كَالْبَرْقِ لَيْسَ يَرُدُّهَاْ سَدُّ

هّذِيْ خُيُوْلُ اللهِ قَدْ رَكِبَتْ
وَالرَّاْكِبُوْنَ رِمَاْحُهُمْ مُلْدُ

تَتَخَطَّفُ الأَعْدَاْءَ رَاْعِفَةً
حُمْرًا كَأَنَّ حِرَاْبَهَاْ وَرْدُ

وَالنُّوْرُ نُوْرُ الْفَتْحِ مُنْتَشِرٌ
وَالظِّلُّ ظِلُّ اللهِ مُمْتَدُّ

وَالشَّيْخُ شَمْسُ الدِّيْنِ مُبْتَهِلٌ
وَمَعَاْرِكُ التَّحْرِيْرِ تَشْتَدُّ

بُشْرَىْ رَسُوْلُ اللهِ بَشَّرَهَاْ
فَاسْتَبْشَرُوْا مِنْ قَبْلُ مِنْ بَعْدُ

فَلَتُفْتَحُنَّ. الْيَوْمَ قَدْ فُتِحَتْ
صَدَقَ الرَّسُوْلُ وَحُقِّقَ الْوَعْدُ

س: متى شُيِّدتْ كنيسة آيَا صُوفيَا؟.

ج: اعتنق الإمبراطور (قُسطنطين الأوّل) الديانة النصرانية، وعارضه الوثنيون في روما، فبنى (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، وشُيِّدتْ فيها الكنائس، ومنها  كنيسة (آيَا صُوفيَا)، (Hagia Sophia)، (أي: كنيسة الحكمة المقدسة)، ثُمَّ أعلنَ (قسطنطين الأوّل): إنَّ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) صارت عاصِمةً نصرانيّةً للإمبراطورية الرومانية اعتباراً من سنة (335 م)، ثُمَّ انهارَتْ (آيَا صُوفيَا)، وتَمَّ تجديدُها في زمن الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الثاني الذي حكم من سنة (337 م) حتى سنة (361م)، وافتُتِحتْ للمُقدسين سنة (360م)، وكان موقعها عند الطرف الشمالي من ميدان (الأوغسطيوم)، المجاور لميدان سباق الخيل الذي يمتدُّ من آيَا صُوفيَا الحالية شمالاً إلى جوار جامع السُّلْطَان أحمد جنوباً.

س: وماذا حصل لكنيسة آيَا صُوفيَا القديمة؟.

ج: لقد حُرِقتْ كنيسةُ آيَا صُوفيَا القديمة سنة (404 م) عندما ثارت رعيّة (القسيس يوحنا كريستوم الأنطاكي) ضدَّ انحرافِ الإمبراطور (أركاديوس)، وزوجته (يودكسيا)، ولِعَدَمِ اهتمامِ الحكومة بمتطلباتِ فُقراءِ الشعب البيزنطي، وهُدِمَتْ كنيسةُ آيَا صُوفيَا، فأعاد بناءَها الإمبراطور البيزنطي (تيودور الثاني) سنة (415م).

ومثّلت آيَا صُوفيَا الكنيسة الشرقية الرومية الأرثوذكسية المناهضة للكنيسة الكاثوليكية الغربية في الفاتيكان، وذلك بعد الانشقاق المسيحي الذي حصل في مجمع (قالدوقيا خلقدونية) سنة (451 م)، إذ بدأ التنافس بين الكنيستين الشرقية والغربية، مِمَّا أَعطى آيَا صُوفيَا المزيد من الاهتمام البيزنطي، وأصبحتْ رمزاً مُقدَّساً بالنسبةِ الى الرومِ الأرثوذكس. ثمَّ ضعُفَ شأنُ الكنيسةِ بعدما انفصَل الأساقفةُ الأرمنُ عن الكنيستين اليونانية والرومانية سنة (491 م)، وأنشَؤُوا لهم كَنيسةً أرمنيَّةً مُستقِلَّةً، وعيَّنوا لها بطريقَها الأرمَنِيّ الخاصِّ بطائفةِ (الأرمن).

س: وماذا حصل لكنيسة آيَا صُوفيَا بعد ذلك؟.

ج: نشبت الفتنةُ بين حزبيّ سكان (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) الخضر؛ والزُّرق سنة (532 م)، ثم اتحد الحزبان وثارا ضدَّ الحكومة القيصريّة، وحُرِقَتْ كنيسةُ (آيَا صُوفيَا)، وأجزاءٌ من قَصْرِ الإمبراطور (جُستنيان)، وبلغ عدد القَتلى في (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) ثلاثون ألفاً، وازدادت الثورةُ الشعبيةُ المعروفةُ بثورة (نيقا = Nika)، في زمن القيصرِ (جُستنيان)، وحُرِقَتْ (آيَا صُوفيَا)؛ فأمرَ القيصرُ بإعادةِ بنائِها على أُسُسٍ جديدةٍ لا علاقة لها بالبناء القديم.

س: ما لفرق بين بناء كنيسة آيَا صُوفيَا القديمة والجديدة؟.

ج: كان بناءُ كنيسةِ (آيَا صُوفيَا) القديم - الذي شيَّدهُ قُسطنطين الأول - أصغر من البناءِ الجديدِ الذي شيَّدهُ (جُستنيان)، وقد استمرّ تشييدُها من سنة (532 م)، حتى (27) كانون الأول ديسمبر سنة (537م)، وأشرف على تصميمها مهندسان مِعماريان من آسيا الصغرى هما: (أنثيميوس التراليني)، و(إيسودور الميليسي)، وهُما اللذان مَزَجَا بين نماذِجِ العَمارةِ الدِّينية المستديرةِ، والعمارةِ الدُّنيويةِ المربعةِ، وتغلَّبَا على ظاهرةِ الضَّغطِ بكثرَةِ الفتحات في الْجُدرانِ، وبالنوافذِ المسقوفةِ بالقناطر؛ والتي شكَّلتْ قاعِدَةَ القُبَّةِ البيضويَّةِ المركزيَّةِ؛ التي كانت ترتكِزُ على مُربَّعٍ مرفوعٍ على أربَعِ بَوائِك مخروطِيَّة شِبْه مُستديرةٍ ضَخْمَة؛ يبلُغُ قُطْرُ البائكةِ الواحِدَةِ حَوالي: (3) أمتار، وقد تَمَّ البناءُ الجديدُ في خمس سنين، وعشرة أشهر؛ وافتتحها الإمبراطورُ (جُستنيان)، والبطريقُ (ميناس)، وذلك في (26) كانون الأول/ ديسمبر سنة (537 م)، وكانت قُبَّةُ (آيَا صُوفيَا) مَبنيّةً من (الآجُرِ المشوِيِّ).

 ولكنَّ  كنيسةَ (آيَا صُوفيَا) التي بناها (جُستنيان) قد انهارت سنة (558 م)، بسببِ الزلزال الذي ضرب (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، ودمّر العديدَ من مَبانيها، فأعادَ بِناءَ الكنيسةِ، (إيزادور) سنة (562 م)، ورُكِّبت لها الأبواب البرونزية سنة (223 هـ/ 838 م)، ثم دمّرها زلزالٌ ثانٍ سنة (975 م)، وأعاد بناءها المعماري الأرمني(تردات) سنة (365 هـ/ 989 م)، وأُضيفتْ إليها نُقوشُ الفُسيفساء سنة (419 هـ/ 1028 م)، ثم رمَّمها وزَيَّنَها القيصرُ (قُسطنطين التاسع)؛ الذي مات سنة (447 هـ/ 1055 م).

 س: هل تعرضت كنيسة آيَا صُوفيَا الجديدة لكوارث أُخرى قبل الفتح العُثماني؟.

ج: ازدادَ حِقدُ النصارى الكاثوليك الغربيين أتباع (بابا الفاتيكان) على النصارى الأرثوذكس الشرقيين من أتباع بطريرك (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، وكفَّرَ أتباعُ كُلِّ كنيسةٍ من الكنيستين أتباعَ الكنيسةِ الأخرى، وآلت البابويةُ إلى (البابا إنوسنت الثالث =  Innocent III)، فجلس على كرسي (بابوية الفاتيكان) من سنة (594 هـ/ 1198 م) حتى سنة (613 هـ/ 1216م)، وفي عهدِهِ اجتمعت الجيوشُ الصليبيَّةُ في مدينة (البُندُقيَّةِ)، وحَضَّرتْ (480) سفينة في صَيْفِ سنة (598 هـ/ 1202م)، ثم أقلعتْ سُفُنُ الحملةِ الصليبية الرابعة في (1) تشرين الثاني/ أكتوبر، وكان هدفُها المعلنُ احتلال (مِصْرَ)؛ ثُمَّ (القُدس)، وكان القساوسة الكاثوليك ينشدون في السفُنِ الحربيةِ نشيدَ "تعال أيها الخالق الروح"، (Veni Creator Spilritus)، ووصلَ الأسطول الصليبي إلى سواحل (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) سنة (599 هـ/ 1203م)، وطلبوا من القيصر( ألكسيوس الثالث) التنازُّلَ عن الحكم، فَرفَضَ التنازُلَ وبدأت المناوشات بين الجيشين.

وشاهَدَ الصليبيون جماعةً من المسلمين يُصلُّون في جامعِ العرب، فأشعلوا النار في المسجد، وحرقوا الْمُصَلِّينَ. وظَلَّت النارُ مُشتعلةً في منطقة (غلطة) مُدَّةَ ثمانية أيام، وامتدت النيران إلى مسافة ثلاثة أميال، وأحالت جزءاً كبيرا من ضواحي (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) رماداً وأنقاضاً.

وهجم (الصليبيون الكاثوليك) على (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) سنة (600 هـ/ 1204 م)، فَقَتلوا أكثر من (2000) بيزنطي، واستعبدوا الشعبَ البيزنطيَّ، ونهبوا كنوزَ (بيزنطة)، ونهبوا من مكتبة (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) حوالي: (100,000) نَصٍّ من النصوص (البيزنطية) ما بين رسالة وكِتاب، ونُقِلَتْ كنوز ُكنيسة (آيَا صُوفيَا) إلى (بابا الفاتيكان في روما)، وغير ذلك من الدول الأوروبية الكاثوليكة المعادية للروم الأرثوذكس، وقام الصليبيون الكاثوليك بحرقِ كنيسة (آيَا صُوفيَا)، فانهار بعضُ أجزائها، وتحوَّلتْ إلى خرابةٍ مهجورة، وصارت (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) عاصمةً للإمبراطورية اللاتينية الصليبية الكاثوليكية، ونَقَلَ (البيزنطيون) عاصمتَهم من (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) إلى (نيقيا = إزنيك).

س: إلى متى استمرَّ الاحتلالُ اللاتيني الكاثوليكي في  (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)؟.

ج: استمرَّ ذلك الإحتلالُ حتى تَمَّ استِرجاعُ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) من (الصليبيين اللاتين) سنة (660 هـ/ 1261م)، وذلك بقيادة الإمبراطور البيزنطي (ميخائيل الثامن باليولوغوس)، وبعد استعادةِ المدينة، أعادَ (البيزنطيون) إعمارَ (آيَا صُوفيَا)، وغيرَها من الأبنية البيزنطية التي دمَّرها (الكاثوليكُ اللاتينيون)، وازداد هذا العداءُ بين الكنيستين النصرانيتين، وهو مازال موجوداً حتى الآن. ولِذلك فإنَّ (الرومَ الأرثوذكس) الشرقيين يفضِّلونَ الحكمَ الإسلاميَّ على الحكم (الصليبي الكاثوليكي) لأنَّ (الصليبيين الكاثوليك) مارسوا كلَّ أنواعِ الإرهاب في (الْقُسْطَنْطِينِيَّة).

س: ماذا حصل لكنيسة (آيَا صُوفيَا) الجديدة بعد تحرير (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) من الاحتلال الصليبي اللاتيني؟.

ج: تعرّضت (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) للدمار على أيدي جيش (الحملة الصليبية الرابعة)، وكان الدمارُ مُرعباً على الصعيدين: المادي والمعنوي جرَّاءَ سُوءِ الحكم من قِبَلِ (الكاثوليك اللاتينيين)، على الرغم من تعافي المدينة وكنائسها جُزئيًا في السنوات الأولى التي كانت تحت حُكم سُلالة (باليولوغوس) القيصرية، وقد فقدتْ كنيسةُ (آيَا صُوفيَا) كنوزها التي سرقها لصوص (باباوية الفاتيكان)، ولم تُرجع (البابويةُ الكاثوليكيةُ) الكنوزَ المسروقة سواءً من كنيسة (آيَا صُوفيَا)، أو من قصورِ ومقرَّاتِ الحكومة (القيصرية البيزنطيةِ).

س: هل تعرّضتْ كنيسة (آيَا صُوفيَا) للدمار بعد تحرير (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) من الاحتلال الصليبي اللاتيني؟.

ج: انهار الجانب الشرقي من قُبَّةِ (آيَا صُوفيَا)، فَتَمَّ ترميمهُ سنة (1346م)، وبعد ذلك تعرضت آيَا صُوفيَا للإهمال جراء الأزمات السياسة والاقتصادية والعسكرية البيزنطية. ولكنها استمرَّتْ كمركزٍ أوَّلٍ للمذهبِ (الأرثوذكسي الشرقيّ) منذ بنائها، وحتى فتح (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) سنة (857 هـ/ 1543م).

ومن جانبٍ آخر؛ اعتمدتْ (بابوية الفاتيكان الكاثوليكية) الترغيبَ والترهيبَ لتشجيع هِجرةِ العُلماءِ والأثرياءِ والفنانيين والحرفيين من (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) إلى روما، وذلك ما يُعرفُ بالهجرةِ العكسِيَّةِ، أي: من (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) إلى روما؛ بَعْدَ ألْفِ سَنةٍ مِن هجرةِ (المؤمنين النصارى) من (روما الوثنية) إلى (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) النصرانية.

وقد ازدادتْ هِجرةُ العلماءِ من (الإمبراطوريَّةِ البيزنطيَّةِ) إلى إيطاليا وفرنسا منذ سنة (799 هـ/ 1397م)، ثُمَّ تضاعفت بعد الفتح العثماني، ومثلما ضعُفَ شأنُ (روما) بعدما نَقَلَ الإمبراطور (قُسْطَنْطِينُ الأوَّل) مقرَّ العاصمةِ من (روما) إلى (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ)، فقد فَقَدَت (الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ) الكثيرَ مِن مَناعَتِها جَرَّاءَ (الحملة الصليبية الرابعة) التي أنهكَتْ دِفَاعَاتِهَا، ودمَّرتْ إقتصادها، وأذلَّتْ شعبها، وأضعفتها حتّى لم تَستطِع أنْ تَتَعافى مِن كارثةِ سَبي اللاتينِ لأهلِ (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) البيزنطيين، وحرقِ بيوتها، وانتهاكِ حُرمةِ كنائسها.

س: هل مهَّدَ الاحتلال الصليبي اللاتيني لفتح (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) من قِبَلِ العثْمَانِيين؟.

ج: لقد ضعُفَ شأنُ (القيصرية البيزنطية) بسبب الصراعِ المذهبي النصراني، ولاسيّما بعد استقلالِ (الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الغربية) سنة (451 م)، وانشقاقِ (الكنيسة الأرمنية) سنة (491 م)، وبذلك فَقدت (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) أكثرَ من نصفِ قُوَّتِها الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، ونَاصَبَها العَداءَ (الأرمنُ) الشرقيون، و(اللاتينُ) الغربيون؛ من أتباع الكنيستين المعاديتين، ومارست الكنائسُ شَحْنَ نُفوسِ أتباعِها وتحريضهم؛ حتى أنَّ البطريريكَ البيزنطيَّ (نُوطارَاس = Notaras) له مَقولةٌ مشهورةٌ قالها عندما اجتمعَ البيزنطيون في (الْقُسْطَنْطِينِيَّة)، واقترحَ بعضُهم طَلَبَ النجدةِ من (بابا روما)؛ للوقوف بوجهِ جيشِ السُّلْطَان محمد الفاتح، فقال البطريركُ: "لإنْ أَرَى العِمامَةَ التركيةَ في (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) أَفضل لَنَا مِن أنْ أَرَىَ قُبَّعَةَ (الكارينال) بابا روما"، وذلك لأنَّ (البطريريكَ البيزنطيَّ) يعلَمُ أنَّ المسلمين العثْمَانِيين أكثر رحمةً بالنصارى من أتباعِ (بابويَّةِ الفاتيكان)، لِكثرةِ ما عَانى (البيزنطيون) من الظُّلمِ اللاتيني الصليبي أثناءَ الاحتلال.

 س: ماذا حصل لكنيسة آيَا صُوفيَا الجديدة بعد الفتح العثماني؟.

ج: استمرَّ الصِّراعُ العسكريُّ بين (البيزنطيين) والعثْمَانِيين حتى سقَطَتْ أسوارُ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) سنة (857 هـ/ 1453م)، ودَخَلَ الجيشُ العثمانيُّ المنصورُ المدينة، فطُويتْ صفحاتُ القرون الوسطى، وأمَرَ السُّلْطَان محمد الفاتح بحقن الدِّماء، وصيانةِ الأعراضِ، وحِفظِ الأملاكِ، وأعلن أنَّ كلَّ المباني الدينيَّة والدُّنيويَّة يجبُ أنْ تُصانَ، وطلَبَ من بطريرك (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) أنْ يُشرفَ على مراسمِ دَفْنِ (الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر)، وقائد الجيش البيزنطي، وذلك تقديراً لصمودِهما، وعَدَمِ الفرارِ من عاصِمَتِهِما، وأصدَرَ (فَرَمَاناً) يمنَحُ بطريركَ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) مرتبةَ وزيرٍ في (البروتوكول العثماني) الرسمي، وأَوكَلَ إليه إدارةَ الشؤونِ الشخصيةِ والدِّينيةِ لأبناءِ الطائفةِ (الأرثوذكسية) من رعايا السلطنة العُثْمَانِيَّة؛ الذي بَقَوا في البلاد العثمانيّةِ، ولم يغادروها، وبعدما رَتَّبَ السُّلْطَانُ الفاتحُ شؤونَ المدينة أطلق عليها اسمَ (إسلامبول)، وأَمَرَ الإداريين باتخاذ الإجراءات اللازِمةِ لإحياءِ المدينةِ وإعمارِها، وعادَ السُّلْطَانُ الفاتحُ إلى مدينةِ (أدرنة) التي كانت عاصمةَ السلطنةِ العُثْمَانِيَّةِ قَبْلَ فَتْحِ (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ).

س: وماذا فعل السُّلْطَان محمد الفاتح بِـ (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) بعد الفتح العثماني؟.

ج: عاد السُّلْطَانُ محمد الفاتح إلى العاصمة (أدرنة) واجتمع مع (أهلِ الْحَلِّ والعَقْد)، وأصحابِ الاختصاصات، وشيوخِ الكار، ونُوقِشَت قضايا ترميمِ (الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ)، وإدارَتِها حَسْبَ الشريعةِ الإسلاميَّةِ.

وحينذاكَ قَدَّمَ الْمِعمارُ (خير الدين) خُطَّةَ ترميمِ بِناءِ (آيَا صُوفيَا)، وتضمَّنتِ الخطَّةُ تقويةَ البناءِ بتشييدِ أربعةِ أبراجٍ للمَآذِنِ في مُحيطِ القُبَّةِ، وذلك للحيلولةِ دُونَ سُقُوطِ البناءِ، واستَفتى السُّلْطَان المشايخَ، وتَدارَسَ مَعهم مَسألةَ تحويلِ الكنيسةِ إلى مَسجدٍ من الناحية الشرعية، فأفْتَوْا له بجواز ذلك لانَّ المدينة فُتِحَتْ عنوةً، ولم تُفتح سِلْماً، وأمر السُّلْطَان محمد الفاتح رجالَ الدين (الروم الأرثوذكس) بانتخاب (بطريرك) لرئاسة مِلّتهم، فانتخبوا (البطريرك جيورجيوس)، (Georgios)، وحوَّل اسمه إلى (جينَّاديوس)، (Gennadios)، وقرّرَ السُّلْطَانُ تكريمَ البطريركِ بمبلغٍ من المال، ومَنحَهُ كَنيسةَ (فتحية)؛ لتكونَ مقراًّ للبطريركيةِ البيزنطية، وأعفى رجال الدين النصارى من الضرائب، فاستقرّ البطريرك (جينَّاديوس)، وحاشيتُهُ في كَنيسةَ (فتحية)؛ حتى بُنيتْ له بطريركيةُ الفنار، فانتقلَ إليها، وتحولتْ كنيسةُ (فتحية) إلى متحف.

س: وماذا فعل السُّلْطَان محمد الفاتح بعد اجتماع ادرنة؟.

ج: عاد السُّلْطَان محمد الفاتح إلى (الْقُسْطَنْطِينِيَّة) بخطة إعادة إعمار شاملة، ومما تضمّنته الخطة تعيين أوقاف السُّلْطَان محمد الفاتح بموجب وقفيّةٍ شرعيةٍ مكتوبةٍ سنة (866 هـ/ 1462 م) على جلد الغزال طولها (65) متراً، وهي مازالت محفوظة في المديرية العامة للسجل العقاري في أنقرة، وتوجد نسخة منها في متحف الآثار التركية والإسلامية في إٍستَانبُول، وهي تحمِل الرقم التصنفي: (2182).

س: ماذا تتضمّن وقفية السُّلْطَان محمد الفاتح؟.

ج: تتضمَّن الوقفيَّةُ العديدَ من الجوامع والمدارس، والمكتبة، ودور الضيافة، والحمامات، والمشفى، ودور رعاية الأيتام، وغير ذلك من المؤسسات الدينية والاجتماعية. والوقفيةُ منشورةٌ بلغتِها العربية، ومنشورةٌ مترجمةً إلى اللغة التركية، وهي مُتداولة بين القُرَّاء، ومن المعروف شرعاً أنَّ مِن شُروطِ الوَقفِ أنْ يكونَ مِن المالِ الحلال، وبناءً على ذلك يُقالُ: إنَّ السُّلْطَان محمد الفاتح لم يغتصِبْ آيَا صُوفيَا، وإنما اشتراها بمالِهِ الخاصِّ، وأوقفها حِسبةً لله تعالى، وهذا منصوصٌ عليه بالوقفية.

وبداية الوقفية: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ. باسمِ اللهِ الأسمى يُستَفْتَحُ، وبذِكرِهِ الأعلى يُستَنْجَحُ، الحمدُ لله الذي وَفَّقَ مَن أرادَ مِن أفرادِ الإنسانِ لسلوكِ سبيلِ العدلِ والإحسانِ تَوفيقاً، ووقفَ الجنَّةَ على المتولينَ للإستكمالِ بالعلومِ والأعمالِ وَقْفاً أَنِيقاً، تعالتْ آلاؤُهُ عن أنْ يُحيطَ بها التَّحديدُ، وجَلَّتْ نعماؤُهُ عن أنْ يحصرَها التعديدُ، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}، وَفَّى أجرَ مَن تقرَّبَ إليه بالصدقة الجارية بغير حساب، و{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ}، نَحمدُهُ حَمْداً يُوافي نَعيمَهُ، ونشكرهُ شُكراً يُكافي كَرَمَهُ، مُعترفين بالقُصورِ عن أداءِ حَمْدِهِ، وقضاءِ كُنْهِ شُكْرِهِ... أمّا بعد؛ فلا يخفى على أربابِ الألبابِ، وأصحابِ الآدابِ؛ أنَّ الشَّرْعَ الصحيحَ، والعَقْلَ الصريحَ يدُلانِ على أنَّ السعادةَ الأبديةَ الإنسانية، والسيادة السرمدية النفسانية؛ إنما هي في أنْ يُعلَمَ الحقُّ لِنَفْسِهِ، والخيرُ للعملِ بِهِ، وقد ثَبتَ أيضاً بضربٍ من البُرهانِ في الشرعِ اللازمِ الإذعان؛ إنَّ الصدقةَ الجاريةَ من الخيرات الحسان، لاسِيَّمَا صَدقة يُستعانُ بها في الأعمالِ الشرعية، والاستكمالِ بالعُلومِ الحقيقيةِ، والمعارفِ القُدسيةِ، وَمَنْ أَحْسَنُ فِعلاً مِمَّنْ دُعيَ إلى الطاعات والعِبادات، واقتناءِ العُلوم والكمالات، ورَسَمَ لأهلِها أصنافَ الآلاءِ، وأنحاءَ النَّعماءِ، وبنى لهم مساجدَ ومعابدَ كان دعائمها أطول من قطر السماء، ومدارسَ وخوانقَ رفيع البناء، فسيح الفناء، رحيب الآناء، كريم الأبناء، ولقد خُصَّ بتوفيقِ الإتيانِ بِما أُشيرَ إليه مِن الأعمالِ الحسانِ؛ حَضرةُ مَن آتاهُ اللهُ بِسِعَةِ لُطفِهِ نَعيماً، ومُلكاً كبيراً، وَأولاهُ مع ما أَولاهُ مِن الحكومةِ الحكمةَ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، وَوَفَّقَهُ لتأييدِ الدِّينِ المتينِ، وتبديدِ شَمْلِ الكَفَرَةِ والْمُتَمردِين، وَأزاحَ ظُلمات الكُفْرِ عن الرُّوْمِ بِسَيْفِهِ وسِنانِهِ، ومَلأها أَمْناً وأَماناً، ويُمْناً وإيماناً بِعدْلِهِ وإحسانِهِ. السُّلطانُ الأعظم، والخاقانُ الأعدل الأَعلَم، مَالك رِقابِ الأُمم، المنفردُ بالبلوغِ إلى أقصى مراتبِ الجودِ والكَرَمِ، الواجب إطاعَته وتباعَتُهُ على الذِّمَم... مُعلي كَلمةَ الله في أقاصي الممالكِ الرُّومِيَّةِ التي لم تَكُنِ بها أنيس إلا الكَفَرَة الحربية... عامِرُ أركانِ المساجدِ والمدارس، وهادِمُ بُنيان الهياكِلِ والكَنايس، أَمْثلُ مَنْ وَرَدَ فِيْهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}، إلى آخر الآية، مَنْ لم يمنَح الدهرُ بِمَلِكٍ يُمَاثِلُهُ مِنْ زَمَنِ الإِسكَندَرِ إلى هذِهِ الغَايَةِ، مُحرِزُ قَصبات السَّبقِ في مِضمارِ العَدْلِ والإحسانِ، والفَضْلِ والإمتِنان، والعِلم والعِرفان، أحسَن حَسنات الزمان، باسِطُ بِساطَ الأمنِ والأمان، رافِعُ أَلْوِيَة إقبالِ آلِ عُثمان، أَعني به: الجدَّ السابع؛ لذلك الذي ينبغي أنْ يخضعَ لِعِزَّتِهِ الفَلَكُ الرابِعُ...

قالوا: أبو الفتحِ مِنْ عُثمانَ؛ قُلْتُ لَهُمْ: * كَلاّ لَعَمْرِي، وَلكنْ مِنْهُ عُثمانُ

كَمْ مِنْ أَبٍ قَدْ عَلا بابنِ ذِي شَرَفٍ * كَمَا عَلا بِرَسُولِ اللهِ عَدنانُ

أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، سيد الغُزاة والمجاهدين، الْمٌؤيَّد بتأييدِ رَبِّ العالَمِين، الواثق بالصمدِ المهيمن المنَّان، شمس سماءِ السَّلطنةِ والخلافةِ والدولةِ، والدُّنيا والدِّين: أبو الفتح والنصر؛ السُّلطان محمد خان؛ خَلَّدَ الله سبحانه ملكَهُ وسُلطانه أَبَدَ الآبدين... ومِن آياتِه الكُبرى أنَّه خلَّدَ اللهُ ظِلَّ عَدْلِهِ وَرأفَتِهِ، وضَاعَفَ قَدْرَ جَلالتِهِ وخِلافَتِهِ، فَتَحَ المدينةَ الحصينةَ الموسومةَ بقُسطنطينيةَ التي كانتْ مملوءةً مِن الكُفْرِ والكُفرانِ، والظُّلمِ والعُدوان، وكان الكافرون المتمدِّنون بها مِمَّنْ لا يجيبون داعي الله، ولايؤمنون، ولا هُمْ يُعطونَ {الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، ويتعرضون للمُسلمين بالجدالِ والقتالِ، ويتأهَّبُون لإظهارِ الفَسادِ في البلادِ والعِبادِ؛ مُستظهرين بِحَصَانَةِ بَلْدَتِهِم، وَرَصَانَةِ قَلْعَتِهِم... فرجعَ من الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبر؛ الذي هو تهذيبُ النفس، وتأديبُ قُواها بما هو أَدْهَى وأمرّ، فَوقفَ عدَّةَ كنايسَ مِن البلدةِ المفتوحةِ المذكورة، وتوابِعِها وَقْفاً صَحِيْحاً شَرْعِياً عَلى ما سَيأتي، منها: الكَنيسةُ النفيسةُ الموسومةُ بِأياسُوفيا، الواقعة في داخلِ بلدةِ قُسطنطينية، حُفَّتْ بالمواهب السَّنية؛ في ظِلِّ فاتِحِها المؤيَّد بتأييداتٍ بهيةٍ، بجوارِ القلعةِ الجديدةِ السُّلطانية، وهي محدودةٌ شَرْقاً إلى الكنيسة السُّلطانية، والأرض الخالية السُّلطانية الْمُتَّصِلَة بِسُورِ القَلعةِ الجديدة، وَقَبْلَهُ إلى الطَّريقِ العامِّ، وإلى بناءِ أحمد بن إسماعيل، وبناءِ موسى بن إلياس، وبناءِ يوسف بن عبد الله العتيق، وبناءِ حسن بن أخي محمود... فَجَعَلَ الكنايسَ الأربعةَ المذكورةَ مَسَاجِداً يُؤْتَىْ فِيها بالْجُمعاتِ والجمَاعاتِ، ويُقتَنى فيها بالسَّعادةِ الأبديةِ بالعبادات والطاعات... حِسبةً للهِ، وطَلَباً للفوزِ بالنعيمِ الْمُقِيم { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وقفاً صَحيحاً شرعياًّ، وتَصَدُّقاً صَريحاً، ديْناً لازماً جازماً حَاوياً لجميعِ المصحّحات، خالياً عن النواقِضِ والْمُخلاّت، ولقد حَكَمَ القاضي على صِحَّةِ ذلك الوقف ولزومه بعد رعاية ما يجبُ في الشرع الشريف، والدِّين الحنيف؛ على شارعه أفضل الصلوات، وأكمل التحيات، أما المساجد؛ فقد وَقَفَها على المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وأما الخوانق فقد وَقَفَ الموسومَ بدارِ الشفاءِ على مَنْ ابتُلِيَ مِنَ المسلمين الموسومين بالاحتِياج بسوءِ مزاجٍ يقبلُ العِلاجَ، والموسوم بالعمارةِ السُّلطانية على المسلمين المسافرين من المدينة وإلى المدينة المذكورة، وأما المدارس الكُبرى فقد وَقَفَها على الطَّلبةِ المستفيدين للعلوم الشرعيةِ والعقليةِ ليسكنوا فيها، وعلى الْمُدرسين العالِمِين بالمعارف العقليةِ والنَّقليةِ ليحضروا هنالك لدى الاشتغال بالتدريسِ والتعليم، وأما المدارِس الصُّغرى فقد وقفها على المستفيدين من الطلبة الساكنين في المدارسِ الكُبرى، أحسنَ الله إلى الواقِفِ الْمُومَى إليه، وتَقبَّلَ حَسناته بقَبُولٍ حَسَنٍ وجَزاهُ خيرَ الجزاء عن مَبرَّاتِه ما ظَهرَ منها وما بَطَنَ، ثم أنَّ حضرةَ الواقِفِ خَلَّدَ اللهُ سُبحانه ملكَهُ وسُلطانهُ، وأَعَزَّ بفضلِهِ أنصارَهُ وأعوانَهُ، وَقَفَ وتصدَّقَ على ما ذُكِرَ في هذه الحجَّةِ الشرعيةِ، والوثيقة الدِّينيةِ مِن المساجدِ والخوانقِ والمدارسِ جميع ما يُذكَرُ مِنَ الأملاك والعِقارات والقُرى والطواحين والمزارع والمراتع والمنازل وغيرها، أمَّا القُرى والمزارع الموقوفة فَمِنها: جميع القلعةِ الموسومة بسلوري مع التوابع واللواحق والمرافق، ومنها: جميع القرية التي اسمها بناطوس من توابع تكفور طاغي... (ص: 164)، وإن انهدمتْ هذه البِقاعُ عَمَّرَها الله تعالى ببقاء بَانيها، يُعادُ ثانياً وثالثاً، فإنْ تعذَّرتْ وتَعسَّرَتْ إِعادَتُها لِعَائقٍ مِن عوائقِ الزمانِ، وطارقٍ من طوارقِ الحدثانِ صارت غَلَّاتُها وفَوائدُها ورُبوعُها وعَوايدُها مَصروفةً إلى مَنْ كان مِنْ أولادِ الوَاقِفِ أيَّدَ الله أَصْلَهُ، وأبَّدَ إلى يوم القيامة نَسْلَهُ ذُكوراً وإناثاً، فإنْ لم يوجَد فَإلى فُقراءِ المساكين المستوطنين في تلك المدينة، ومساكينهم، {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، فإنْ عادَ الإمكانُ عَادَ الوَقْفُ على شُروطِها كَما كان بلا زِيادةٍ ونُقصان، فَصَارتْ جُملةُ ما شَرَحْتُ وعَيَّنْتُ وَقْفاً على الوَجْهِ الْمُقَرَّرِ، والنَّمَطِ المحرَّرِ، لا يُغَيَّرُ شُروطُها، ولا يُبدَّلُ قوانينُها، ولا يحولُ أصولها، ولا ينقصُ ضوابطها؛ مُحرَّماً بِحُرماتِ الله، محفوظاً بِحِفْظِ الله...».

وجاء في آخر الوقفية ص: 167 - 168: «... فَمَنْ خالَفَ كِتابَ الله، وسُنَّةَ رسولِهِ، واستحلَّ ما حَرَّمَ اللهُ، وسَعَى في فَسادِ وَقْفِ أخيهِ الْمُسلِمِ، وتخريبِ خيراته، وإبطالِ حَسناته، وتعرَّضَ لتعطيلِ مَبرَّاتِهِ، {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، والله حَسْبُهُ، ومُعذّبه ومجازيه بأفانين العذاب، وقوانين العِقاب، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، يَوْمَ {تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، وأجْرُ الوَاقِفِ بعدَ ذلك على الله الحي الكريم، وعلى رحمتِهِ وإحسَانِهِ العَمِيم، وطَوْلِهِ وفَضْلِهِ الجسيم، { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ }، { أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، وقد حَكَمَ الحاكِمُ الموقِّعُ أعلاهُ حَالَ نفاذ أحكامه، وأَمْضَا نَقْضَهُ وإبرامَهُ في مَحَلِّ وِلايَتِهِ بِصِحَّةِ الوَقْفِ على النهجِ الْمُعَيَّنِ، وصِحَّةِ الشروطِ على القانون الْمُبَيَّنِ، ووُجُوب صِفاته، ولُزُومِ نَفْيِهِ وإثْبَاتِهِ؛ حُكْماً جَازماً، وإلزاماً لازِماً، والشُّهداءُ العُدولُ على كُلِّ ما حُكِمَ مَسؤولاً في كلِّ ذلك. وقد وَقَعَ تحريرُ هذه الحجَّة الشرعية في. ».

س: ماذا حصل لكنيسة آيَا صُوفيَا بعد ذلك؟.

ج: انتقلَ (البطريق) إلى كنيسة (فتحية)، وأخذ معه مُقدَّساتِهِ وصُلبانَهُ وتِيجَانَهُ، وتحولتْ (كنيسةُ آيَا صُوفيَا) إلى مسجدٍ بعد إجراءِ التعديلات المناسبة، فَطُليت الإماراتُ النصرانيّةُ بما فيها الفُسيفساؤها بِطلاءٍ أبيض، وأُضِيفَ إليها المنبرُ والمحرابُ وكُرسيُّ الوَعْظِ، وفُرشتْ أرضُها بالمفروشات، وبُنِيت لها مِئذنةٌ خشبيَّةٌ مُؤقَّتَةٌ لِرفعِ الأَذَانِ. وأضافَ السُّلْطَانُ الفاتحُ مئذنتين في الطرفين الجنوبي الغربي، والجنوبي الشرقي، ثم بُنيت المئذنةُ الشمالية الشرقية في عهْدِ السُّلْطَان (بايزيد الثاني)، أمّا المئذنةُ الشمالية الغربية فقد بناها المعمارُ (سِنانُ) بأمرٍ من السُّلْطَان (سليم الثاني)، وبذلك صارَ عددُ مآذِنِ (آيَا صُوفيَا) أربع مآذن، إحداها مبنية من الآجر، وثلاثٌ منها مبنيةٌ بالحجارةِ.

وأُضيف إلى (آيَا صُوفيَا) فناءٌ خارجي؛ أُطلِقَ عليه اسم(الحريم)، وذلك في عهْدِ السُّلْطَان (سليم الثاني)، (974 هـ/ 1566 م) – (982 هـ/ 1574م)، وأضيفت دكَّةٌ مَرمَريَّةٌ لِمَحْفَلِ المؤذنين في عهْدِ السُّلْطَان (مراد الثالث)، (982 هـ/ 1574م) - (1003 هـ/ 1595م)، ثم أُضِيفت المكتبةُ ما بين سنَة (1152 هـ/ 1739م)، وسنة (1155 هـ/ 1742م)، وفي عهْدِ السُّلْطَان محمود الأول (1143 هـ/ 1730 م) - (1168 هـ/ 1754 م)، أُضِيفت الميضَأةُ "الشَّادروَان"، ومدرسةٌ للصبيانِ في سنة (1153 هـ/ 1740م)، وأُضيفتْ إليها المقصورةُ السُّلْطَانية. وفي الفناء الخارجي من الناحية الجنوبية الشرقية دُفِنَ السُّلْطَان (سليم الثاني)، والسُّلْطَان (مراد الثالث)، والسُّلْطَان (أحمد الثالث)، ودفن السُّلْطَان (مصطفى الأول)، والسُّلْطَان (إبراهيم الأول) في مكان قسم التعميد سابقاً، ودُفِنَ معهم العديدُ من الأُمراءِ والأميرات.

س: ما اسمُ الخطاطِ العُثْمَانِيّ الذي نَمقَ الخطوطَ المكتبة في آيَا صُوفيَا؟.

ج: إنَّ الخطَاط  الذي خطَّ اللوحات الدائرية الموجودة في جامع آيَا صُوفيَا، و كتبَ الكتابةَ الْمُدوَّنةَ دَاخِلَ القُبَّةِ هو الخطاط العثماني؛ قاضي العسكر، ونقيبُ الأشراف السيد مُصطفى عزَّت أفندي (1216 - 1293هـ/ 1801 - 1876م). وذلك بعدما تعرَّضتْ إٍستَانبُول للزلازلِ، فقد طلبت السلطنةُ من المعماريين السويسريين: (كاسبر) و(جوسيب فوسات)، ترميمَ آيَا صُوفيَا، وإعادَةَ تعميرِ ما تهدَّمَ منها، فاستمرَّ العملُ من سنة (1263 هـ/ 1847م)، حتى سنة (1265 هـ/ 1849م)، ورُبطت القبُّةُ بإطارات حديد من الخارج، وأعادَ كتابةَ خطوطها الشريف مُصطفى عزَّت.

وصَدَرَ بتلك المناسبة كِتابُ مُختصَرِ تاريخِ (آيَا صُوفيَا) المصوَّر بالألوان، وتضمَّن تعريفاً باللوحاتِ الفنيةِ الخاصَّةِ بجامع (آيَا صُوفيَا) المنشورة في الكتاب، وهي تتعلّق بمجرياتِ أعمالِ الصيانةِ والترميم التي أَمَرَ بها أَميرُ المؤمنين السُّلْطَان العثماني (عبد المجيد الأول) يرحمه الله تعالى، وقد طُبِعَ الكِتابُ في لندن بطريقة الطِّباعةِ الحجرية الليتوغرافية: (lithography).

وعنوان الكتاب: ( AYA SOFIA CONSTANTINOPLE as ROCENTLY RESTERAD by ORDER of H.M.)

للمؤلف: ( VTE ADALBERT DE BEAUMONT).

س: هل بنى العُثْمَانِيَّة قبَّةً لأحدِ الجوامعِ مِثلَ قُبَّةِ آيَا صُوفيَا؟

ج: بقيتْ قُبَّةُ (آيَا صُوفيَا) مُتفوِّقةً على ما عَداها، ولما جاءَ المعمارُ (سنانُ بنُ عبدِ المنَّان) اشتَدَّت الْمُنافَسَةُ العُمرانية في عَهْدِ السُّلْطَان (سُليمان القانوني)، فَبَنَى (سِنانُ) مُجمَّعَ السُّليمانيةِ، فتَفَوَّق على (آيَا صُوفيَا) كمُجمَّعٍ بما يتبعهُ مِن مَرافِقَ حَضاريةٍ مُتكامِلَّةٍ تَشملُ ما هو مَطلوبٌ دِيْنِياًّ ودُنيَوِياًّ، ولكنَّ قبَّةَ جامعِ السُّليمانيةِ لم تُحطِّم الرقمَ القياسِيَّ الذي بَقِيَتْ تحتَفِظُ بِهِ قُبَّةُ (آيَا صُوفيَا)، ورَحَلَ السُّلْطَان (سُليمانُ القانوني) إلى دارِ البقاء في (8) ربيع أول سنة (974 هـ 2/10/1566م) دُوْن أنْ يُحطِّمَ المعماريون (العُثْمَانِيُّوْن) الرقمَ القياسيَّ البيزنطيَّ الذي ظلَّتْ تحتفِظُ به قبَّةُ (آيَا صُوفيَا).

وبعدَ وفاةِ السُّلْطَان (سُليمانُ القانوني)؛ آلتِ السلطنةُ والخلافةُ إلى ابنه (سليم الثاني) الذي قاد البلاد بجسارة خارقة، وفَتَحَتْ جيوشُهُ مدينةَ (موسكو) سنة (979 هـ/ 1571م)، وطَلَبَ من المعمار (سِنان) أنْ يُحطِّمَ الرقْمَ القياسيَّ العُمرانِيَّ ببناء قُبَّةٍ تفوْقُ قبَّةَ (آيَا صُوفيَا)، فدرسَ (سِنانُ) طبيعةَ الأرضِ، وخَرَجَ بنتيجةٍ تُفِيدُ بِأنَّ أَرضَ مدينة (إستَانبُول) غيرُ صَالِحَةٍ لتشييدِ قُبَّةٍ تفوَّقُ قبّة (آيَا صُوفيَا) سِعةً وارتِفاعاً، ولذلك انتقلَ غَرْباً إلى مدينة (أدرنة)، فاختارَ مَوقعاً مُرتفِعاً، وشَيَّدَ عليهِ مُجمَّعاً يضمُّ سُوقاً مسقوفاً، والكثيرَ من الملحقاتِ الإنسانية، وبنى (جامعَ السليمية) ذا القبَّةِ التي حَطَّمَت الرقمَ القِياسِيَّ سنة (981 هـ/ 1573م)، وتفوَّقَتْ على قُبَّةُ (جامعِ السليمية) على قبّةِ (آيَا صُوفيَا)، وهي قبة مبنية فوق قاعدةٍ دائريةٍ محمولةٍ على شكلٍ مُثَمَّنٍ يرتفعُ على ثمانِ قناطر، معقودةٍ فوق ثماني(بوائك: ركائز)؛ عَرْضُ كُلِّ قنطرةٍ منها ستةُ أمتارِ، مِمَّا أتاحَ فُرصَةَ التوسُّعِ بمحيط دائرةِ القُبَّةِ التي بَلَغَ قُطرُها: (31 متراً، و30 سنتيمتراً)، وارتفاع سقفِها: (43 متراً، و28 سنتيمتراً)، وأحاطَ القبّةَ بأربع مآذِن، يبلغُ ارتفاعُ كلٍّ منها: (70 متراً، و89 سنتيمتراً). وهكذا خَتَمَ المعمارُ (سنانُ) حياتَهُ بتحطيمِ الرقمِ القِياسيِّ العالَمِيِّ لأَعلى قُبَّةٍ في العالَمِ آنذاك.

س: هل شَهِدَ جامعُ آيَا صُوفيَا مُناسبات عُثمانية مميزة بعد الفتح؟.

ج: لقد أولى السلاطينُ والخلفاءُ (العُثْمَانِيُّوْن) عِنايةً خاصَّةً لآيَا صُوفيَا، ولما تآمَرَ ملكُ (مِصرَ) المدعو (قانصوه الغوري) مع الشاه (إسماعيل الصفوي الباطني)، تصدَّى السُّلْطَان (سليم الأول) للماليك، فحرَّرَ (بلادَ الشام)، و(مِصْرَ)، ووحَّدَها مع (الحجاز)، و(الأناضول)، وَحَضرَ إلى إٍستَانبُول الخليفةُ (محمد المتوكل على الله بن يعقوب أبو الصبر المستمسك بالله بن عبد العزيز)، وهو آخرُ الخلفاءِ العباسيين، وتنازل عن الخلافة الإسلامية للسلطان سليم الأول، وجرتْ مراسمُ البيعة في جامع آيَا صُوفيَا سنة (923هــــ/ 1517م)، فاكتسب الجامع رمزيةً جديدة، ثُمَّ توجّهَ الموكبُ إلى جامعِ (أبي أيوب الأنصاري)، وهنالك قلَّدَ الخليفةُ العباسيُّ السلطانَ (سليم الأول) السيفَ وألبسَهُ الْخُلعَةَ بحضورِ كِبارِ (عُلماء الأزهر)، و(العلماء العثمانيين), وانتقلت الخلافةُ الإسلاميّةُ شرعاً من (بني العبّاس) إلى (بني عُثمان) بقرارِ (أهل الحلِّ والعقد).

س: متى تَمَّ تحويلُ جامع آيَا صُوفيَا إلى مُتحف؟.

ج: ظَلَّ بناءُ (آيَا صُوفيَا) كنيسةً مدّة (916) سنة، من سنة (537 م) حتى سنة (857 هـ/ 1453 م)، فحوِّلَ البناءُ جامعاً، وبقي مدَّة (537) سنة، ثم تم تحويله إلى متحف سنة (1934 م)، فبقي متحفاً مدة (86) سنة، ثم أُعيدَ إلى أصلِهِ جامعاً بحُكمٍ صادرٍ عن المحكمةِ الإدارية التركية العُليا يوم الجمعة بتاريخ (19 ذي القعدة سنة 1441 هـ)، (10/7/2020م)، وقد وَقَّع رئيسُ الجمهورية التركية (رجب طيب اردوغان) على حُكْمِ المحكمة، فأصبحَ الحكمُ نافذَ المفعول، وسُمِح برفع الأذانِ من مآذن جامع (آيَا صُوفيَا) لأوقات الصلوات الخمس، ونُقلت مُهمَّة الإشرافِ على (آيَا صُوفيَا) رسمياًّ من (وزارة الثقافة والسياحة التركية) إلى (رئاسة الشؤون الدينية التركية)، وتقرّرَ أنْ تُقامَ صلاة الجمعةِ رسميًّا بجامع آيَا صُوفيَا اعتباراً من يوم الجمعة في (3) ذي الحجة (1441 هـ) الموافق لـ (24) تموز/ يوليو (2020م). ولله الحمد من قبل ومن بعد.

لم تعد آيا صوفيا مسجدا إلا بعدما أُثْبِت قانونيا بشكل جازم أنها امتلاك "وقف السلطان محمد الفاتح" لـمبنى آيا صوفيا" والذي قدمه كجامع في خدمة مسلمي العالم بوثائق أرشيفية لدى الدولة التركية قدمت للمحكمة الإدارية العليا في تركيا، وبذلك ألغت  قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 24 نوفمبر 1934 القاضي بتحويل "آيا صوفيا" بإسطنبول من مسجد إلى متحف ، بعدما استمعت المحكمة العليا سابقا إلى الأطراف المعنية، في إطار قضية رفعتها جمعية مختصة بحماية الأوقاف التاريخية الإسلامية ، لتعود آيا صوفيا مسجدا وليوقع الرئيس التركي أردوغان بالفعل قرارًا بنقل تبعية مبنى آيا صوفيا من وزارة الثقافة والسياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية بتاريخ ١٠ من تموز٢٠٢٠، وتحويلها لبيت الله وصلاة المسلمين بداية من ٢٤ تموز٢٠٢٠ المصادف لصلاة يوم الجمعة بالتزامن مع الذكرى السنوية لمعاهدة لوزان 1923التي  مهدت لتأسيس الجمهورية التركية وسطرت نهاية الإمبراطورية العثمانية ، ....فهل بعد عودة آيا صوفيا سيشهد العالم الإسلامي استرجاع  مساجده التاريخية المسلوبة ...؟!



([1])حديث نبويّ صحيح. أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في المسند: (3/ 49، رقم: 11478) ، (4/335، رقم: 18977) ، والإمام مُسلم في الصحيح: (1/ 69، رقم: 49) وأبو داود: (1/ 296، رقم: 1140) ، والترمذي: (4/ 469، رقم: 2172) وقال: حسن صحيح. والنسائي: (8/ 111، رقم: 5008) ، وابن ماجة: (2/ 1330، رقم: 4013) ، وابن حبان في الصحيح: (1/ 541، رقم: 307) ، وأبو يَعْلَى: (2/ 289، رقم: 1009) ، والبيهقي في السنن الكبرى: (10/ 90، رقم: 19966) ، وأبو نعيم في الحلية: (10/28) . وعبد بن حميد: (ص: 284، رقم: 906)، والبخاري في التاريخ الكبير: (2/81، ترجمة: 1760 بشر الغنوي) ، وابن قانع: (1/81) ، والطبراني: (2/38، رقم: 1216) ، والطيالسي: (ص: 292، رقم: 2196) ، والحاكم: (4/468، رقم: 8300) وقال: صحيح الإسناد. وأورده الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة: (1/308، ترجمة: 685 بشر الغنوي)، وعزاه لأحمد، والبخاري في التاريخ، والطبراني.

 

([2])أخرجه الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ: (3/1069، رقم: 2766) .

([3])انظر؛ تاريخ الطبري، ذِكْرُ الأحداثِ المشهورة الَّتِي كَانَتْ فِي سنة سبع وعشرين للهجرة: (4/ 252 - 255).

 

([4]) – قال الله تعالى في كتابه الكريم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}، (سورة سبأ، الآية: 15).

([5]) – أُولى الْكَلِمَات السِّت في حساب الجمّل هي: (أبجد هوَّز حطي كلمن سعفص قرشت)، وهي الكلمات الَّتِي جُمِعَتْ فِيهَا حُرُوف الهجاء بترتيبها عِنْد الساميين، ثُمَّ رتَّبها نصر بن عَاصِم اللَّيْثِيّ التَّرْتِيب الْمَعْرُوف الآن، أما (ثخذ، ضظغ)، فَحُرُوْفُها من أبجدية اللُّغَة الْعَرَبيَّة، وَتسَمّى الروادف، وتُستعمل الأبجدية فِي حِسَاب الْجُمَّل على الْوَضع التَّالِي: (أ =1) (ب = 2 ) ج = 3) (د =4 ) (هـ = 5 ) (و = 6 ) (ز = 7 ) (ح = 8 ) ط = 9 ) (ي = 10) (ك =20) (ل = 30 ) (م = 40) (ن = 50) (س =60) (ع = 70) (ف = 80) ص = 90) (ق = 100) (ر =200) (ش =300) (ت =400) (ث = 500) (خَ =600) (ذ =700) (ض =800) (ظ =900) (غ =1000). والمغاربةُ يُخالِفون فِي تَرْتِيب الْكَلِمَات الَّتِي بعد (كلمن) فيجعلونها: (صعفض قرست ثخذ ظغش).

انظُرْ؛ فِهْرِس مَكْتَبَة راغب پاشا، إعداد: د. محمود السيد الدغيم: (10/ 597 – 600)، وفِهْرِس مَكْتَبَة اسميخان سُلطان؛ إعداد: الباحثة إلهام الكواري، إشراف وتحرير: د. محمود السيد الدغيم: [550] الرَّقْم الْحَمِيْدِيّ: 383 .