• 18 آذار 2021
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : كايد هاشم

 

ولد حنا القسوس في الكرك سنة 1885، وبدأ بتلقّي العلم في مدرستها الابتدائيّة التابعة لطائفة الروم الأرثوذكس، وأكمل دراسته بتشجيع من عمّه الرّاهب أفراميوس في مدرسة الدير بالقدس، ثم في طبريا، وفي سنة 1901 التحق بمدرسة الحكمة في بيروت، ومن بعدها مدرسة عينطورة في سنة 1904 ولمدة عامين، ثم التحق بالمكتب الطبيّ الفرنسيّ في بيروت سنة 1906، فأمضى أربعة سنوات ونال شهادة الطب سنة 1910 ويُعدّ بذلك من أوائل المتعلّمين الأردنيين وأول طبيب أردني في القرن العشرين . سافر بعد ذلك للتدرُّب في المستشفى الألمانيّ بالقدس؛ فباريس وقد عمل في اثنين من مستشفياتها. وفي أوائل سنة 1912 عُيِّن طبيباً في الجيش المصريّ برتبة ملازم أوّل، ونُقل بعد بضعة أشهر إلى السودان، وهناك أصيب بضربة شمس ونجا منها فأعيد إلى القاهرة.

تطوّع بعد ذلك مع عددٍ من أطباء جمعيّة الهلال الأحمر للخدمة في الجيش العثماني المحارب على جبهة البلقان، وعلى إثر الهدنة بين العثمانيين ودول البلقان، ذهب الدكتور حنا إلى استانبول ومنها إلى القاهرة وافتتح عيادة بها، لكن النجاح لم يحالفه، فعاد إلى الكرك وافتتح عيادة أخذ يمارس مهنته الطبيّة فيها.

وفي أثناء الحرب العالميّة الأولى تنقل في أنحاء مختلفة من الأردن وفلسطين وسيناء بوصفه طبيبًا في الجيش العثمانيّ، وشهد بعض المعارك وقد أسَرته القوات البريطانيّة في إحداها. وخرج من الأسر مع نهاية الحرب، فعمل في مستشفى الناصرة وكذلك في مستشفيات دمشق الشام . وفي سنة 1922 عُيِّن في حكومة إمارة الشرق العربي بشرقي الأردن وأوكل إليه تأسيس مستشفى حكوميّ في عمّان، فخدم فيها وفي مناطق أخرى من الإمارة، وأحيل على التقاعد عام 1938 بناءً على طلبه، وفي سنة 1943 عُيِّن وزيرًا للصحّة ومنحه أمير البلاد (الملك المؤسِّس) عبدالله بن الحسين لقب باشا.

ترك الدكتور حنا عند وفاته - رحمه الله - أثرين من تأليفه: أحدهما مطبوع وهو كتاب "كلمات صحيّة وفوائد طبيّة"، وقد طُبع في مطبعة الإصلاح بدمشق، ويقع في (95) صفحة، وأصله مقالات نُشر معظمها في جريدة "الشرق العربيّ" بعمّان، والهدف منها في المقام الأوّل التوعية الصحيّة؛ إذ يصرّح في مستهلّ الكتاب أنَّ ما دعاه إلى نشر هذه التعليمات بين العامّة ما يراه "كلّ يوم من وفيات الأطفال العديدة الناشئة عن إهمال والديهم وذهابهم ضحيّة الجهل، ولا سيما جهل الوالدات اللواتي يلجأن إلى العجائز في مداواة فلذات أكبادهنَّ، فلا يمضي إلا القليل حتى يفقدن أعزّ عزيز لديهنَّ. ثم يقول: "وإنّي أتوخى بمقالي هذا بعض النفع للأمّة التي ترى أطفالها وهم رجالها في الغد يحصدهم منجل الموت". وإلى جانب المقالات التي تتناول صحة الأطفال والتغذية السليمة، والتدخين ومضاره، والوقاية من السلّ، وضرر المسكرات، وحفظ الصحة العمليّ في المدارس، وحفظ صحّة الجيش، وحفظ صحة الشيوخ، ومكافحة الأمراض الزهريّة وما إلى ذلك من أدواء، يقع قارىء الكتاب على فصول في تاريخ الطب، مثل: الطب عند العرب، وطرق العلاج عند العرب والغربيين، وتاريخ التلقيح ضد الجدري واستعماله، وعلاج الأسنان في القرن السادس عشر.

ولا يحتاج القارىء إلى كبير جهد في تعرُّف الخبرة الغنيّة والمتنوّعة لمؤلِّف الكتاب الطبيب الذي وضع خلاصة منها في هذا الكتاب، والتي كان لتنقلاته واختباراته في حقل تخصصه في أماكن عدّة رحل إليها، الأثر الواضح في بلورة ما اشتملت عليه خبرته من معلومات ونظرات ضمَّن قسمًا منها في الكتاب على صغر حجمه. ولو أنَّ الدكتور حنا تابع التأليف على هذا النسق لكسبت المكتبة الأردنيّة مؤلَّفات طبيّة قيمة من قلمه. عدا هذا، فإنَّ الكتاب ينطوي على فائدة ثمينة للمؤرِّخ بما يتضمّنه من دلالات على الجانب الاجتماعيّ الصحيّ لشرقي الأردن في ذلك الزمن المبكِّر.

أما الأثر الثّاني للدكتور حنا فهو مذكرات مخطوطة (نُشرت في عمّان سنة 2006 بتحقيق وشرح د.نايف القسوس وغسان سلامة الشوارب)، وقد وضعها بشكلٍ موجز وأملاها على زوجته، فجاءت بخط يد قرينته في نحو ستين صفحة، وسمّاها "مختصر ترجمة حياة الدكتور حنا بن سلمان القسوس"، وفيها يذكر أطوار حياته ودراسته متسلسلة بكلّ ما فيها من تنقلات وارتحالات، لكنّه لا يذكر عن الأماكن التي ارتحل إليها سوى لمحات يسيرة ليس فيها ما يتوقعه القارىء من وصفٍ مسترسل للمشاهدات والانطباعات واللقاءات التي يتجاوز بها الكاتب الوقائع المتعلِّقة بشخصه وشؤونه والأحداث التي وقعت له. فمثلاً عن إقامته في باريس يذكر؛ إضافة إلى عمله في بعض مستشفياتها ممارسًا لجراحة العيون، حرصه على حضور مناقشات الجمعيّات الطبيّة فيها، وتمضية معظم سهرات ليالي الشتاء الطويلة في مطالعة الكتب والمجلاّت الطبيّة في المكتبة التابعة لأخوية الشبان الكاثوليكيين، وانضمامه إلى عضويّة الجمعيّة الطبيّة الباريسيّة عضوًا مراسلاً. وما يمكن أن نعدّه وصفًا من وصف الرحلات - على إيجازه الشديد - ذكره زيارة أثينا بتاريخ 13 آذار عام 1913 قادمًا من الآستانة بباخرة رومانيّة عرّجت على سواحل بلاد اليونان لمدة نصف يوم، فاغتنم الفرصة وزار في أثينا "مرسح" لعب السباق على الخيل وتحدث على معماره، وزار أيضًا أحد القصور التاريخيّة التي لم يبق منها سوى بقايا آثارها، وكذلك المتحف الملّي والمكتب الطبي، وقال إنَّ "الرخام مبذول بكثرة في هذه المدينة، وهي تُنار كلها بالكهرباء"، ونظر إليها من مرتفع الأكروبول فبدت على غير منظرها الجميل من الداخل.

تعطينا هذه المذكّرات إشارات مفيدة إلى ما وفّرته له تجارب الارتحال طالبًا وطبيبًا من محصول العلم والخبرة الذي عاد به إلى وطنه، وساهم من خلاله في نهوض بلده على الصعيد الصحيّ. كما تصوّر لنا هذه الإشارات نموذجًا لنبوغ الإنسان الأردنيّ وعصاميته في زمنٍ مبكر عاشت فيه البلاد إبان العهد العثماني ظروفًا معيشية غير يسيرة، ونوعاً من العزلة لأسباب جغرافية وسياسية، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها.