• 9 حزيران 2021
  • مقابلة خاصة

 

بقلم: أ. محمود أنصاري

في التاسع من حزيران قبل أربعة وخمسين عامًا، كانت حرب ال67 قد بدأت تنضو ثيابها الوسخة لتتكشف عن واقع جديد سيفرض نفسه على أرض الواقع إلى يومنا هذا.

 وكان والدي الأستاذ فهمي الأنصاري – رحمه الله – إذ ذاك قد أفلح في الرجوع من دمشق - حيث كان يتعلم في جامعتها آنذاك في قسم التاريخ - إبان بداية الحرب إثر برقية أرسلها له والده الشيخ خليل بدر الأنصاري – رحمه الله - يطلب منه الرجوع إلى بيته لأن الحرب سوف تشتعل في أية لحظة. فما كان من والدي إلا أن استقل سيارة إلى بيروت ومن هناك إلى عمان، وفي عمان ضاقت به السبل للعثور على سيارة تنقله إلى القدس، وبعد طول عناء وجد سائق سيارة مُيَمِّمًا نحو بيت لحم فطلب منه أن يوصله فوافق. وقد وصل القدس في الخامس من حزيران سنة 1967م، حيث أنزله السائق في العيزرية لأن الطريق إلى القدس كانت محفوفة بالمخاطر، فنزل ومشى باتجاه بيتنا في سفح جبل الزيتون أسفل شارع الشياح، وقد اضطر للزحف في بعض المناطق حتى وصل إلى البيت.

"رأيت أناسًا يرحلون، معظم جيراننا قرر الرحيل حتى أنهم حاولوا إقناع والدي بالرحيل إلا أنه أبى وآثر المكوث في بيته حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا" قال لي والدي والعبرات تخنق كلماته، ثم أردف "في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم الإثنين الخامس من حزيران كان هناك نهرٌ من الناس على شارع القدس – أريحا. وأغلب الشوارع المؤدية إلى أريحا كانت مكتظة بالناس كذلك، الطائرات الإسرائيلية كانت تحوم فوق جبل الزيتون، وكان هناك قصف من الجو ومن المدفعية".

في يوم الثلاثاء السادس من حزيران قال إنه رأى حافلتين مدنيتين من السواحرة محترقتين قصفتهما الطائرات الإسرائيلية عند باب الأسباط.

"كنا نشاهد المعركة من جبل الزيتون حيث بيتنا، أحد جيراننا طفح كيله فقرر الرحيل، توجه نحو الكراج وأسرع هاربًا بسيارته، لكن طائرة إسرائيلية حامت فوقه على مسافة قريبة وقصفته بقنبلة حطت بالقرب منه، إلا أنه أفلح في تفادي قصفها، ووصل عمان سالمًا. آخرون لم يحالفهم الحظ مثله؛ فقد كان هناك سيارة أجرة قادمة من عمان قصفتها المدفعية المتمركزة على جبل المكبر فأحرقتها، وخرج السائق منها تلتهمه ألسنة النيران" أضاف قائلاً.

وأكمل "أما في يوم الأربعاء السابع من حزيران فقد سمعنا صوت دبابات، وبعدها صوت طائرة إسرائيلية قادمة من اتجاه الشرق قصفت الدبابات. وفي الليل جاءت دبابتان أردنيتان ونزل منهما جنديان يافعان بعد أن أصيبتا، فغيّرا ثيابهما العسكرية واستبدلوها بأخرى مدنية وفرّا".

أما عن إحصاء السكان "فقد بدأ الجنود الإسرائيليون في إحصاء الناس في منطقتنا في ظهيرة ذلك اليوم، منتقلين من بيت إلى بيت ولكنهم نسوا بعض البيوت، ثم غادروا المنطقة في حوالي الساعة الخامسة مساء، بعدها أذاعوا بأنه على مَن لم يُسجل أن يحضر إلى قصر العدالة ليسجل اسمه كي يتم إحصاؤه".

ثم جاء يوم الخميس الثامن من حزيران، اليوم الذي نجح والدي فيه بمغادرة منطقته، فاتجه شمالاً باتجاه منطقة كفر عقب ليطمئن على صديق عمره الشاعر فيصل الخطيب وعائلته، وبمروره أمام منطقة متحف روكفلر رأى جثثًا على الأرض ملقاة، ورأى الدكتور أمين الخطيب – دكتور الفقراء رحمه الله – بمساعدة بعض الشباب يقوم بحمل الجثث ودفنها في المقبرة المقابلة للمتحف حيث النُصب الموجود لغاية يومنا هذا لا يزال قائمًا يدلُّ على أرواحٍ طاهرةٍ آثرت الموت دفاعًا عن أرضها، وأخرى طالتها يد الغدر وسلبتها حياتها قبل أن تسلبها أرضها.

وأذكر أن والدي قد حدثني عن حادثة غريبة، حيث رأى رجلا ممن كان يعمل في الاستخبارات الأردنية في حينه وقد غير ثوبه ولبس الثوب العسكري الإسرائيلي، فخاطبه مستنكرًا "هالله الله! يا ... (لا أذكر الاسم الذي قاله) هل آن لك أن تظهر على حقيقتك؟" فأجابه الرجل "انجُ سعد". ثم أكمل والدي طريقه إلى كفر عقب، وقد رأى الجثث ملقاة على قارعة الطريق في منطقة التلة الفرنسية حيث فندق الهايات الآن وفي كفر عقب أيضًا.

وكان يذكر حادثة أخرى يختم بها دائمًا حديثه عن تلك الحرب بها، وهي أنه قد قام بزيارة للمسجد الأقصى – حيث كان يعمل والده سادنًا – فصادفا عند دخولهما من باب الأسباط جنرالات باللباس العسكري الإسرائيلي قادمين من الحائط الغربي وعليهم مسوح الصلاة اليهودية، فخاطب جدي قائلاً "انظر يا شيخ، نحن لم نمس المكان بسوء، الآن يستطيع الناس من جميع أنحاء العالم أن يأتوا للصلاة فيه، فنحن نحترم كل شيء هنا" وبعدها أكملوا طريقهم، وقام والدي وجدي بتفقد المسجد وما حصل فيه حيث كانت بعض الأبواب قد أصيبت جراء القصف وإطلاق النيران، ولكن المسجد كان شامخًا كعادته وبخير.

"وهذه كانت نهاية الحرب" بهذه الجملة كان ينهي والدي سرده لأحداث النكسة، التي أحدثت في أنفس جيلهم عقدة لم يحلها سوى نصر عام 73 الذي أعاد للشباب العربي الأمل بإمكانية الانتصار، ولكن سلسلة التنازلات التي تبعته ذهبت ببهجته وحولته إلى علامة مطموسة في تاريخ يتم تزويره في كل لحظة على يد أعدائنا الذين يحاربون ذاكرتنا كما يحاربون أي يد تمتد لتحمل سلاحًا لتحاربه.

كنت أصغي لأحاديث والدي عن الحرب وعن فترة العهد الأردني ودقائق سياستها، وأهم أعلامها بإعجاب لما كان يبينه من أمور خفية يسبر فيها غور تاريخ لا يعرفه الكثيرون ممن عاصروا تلك الأحداث، وباستهزاء أحيانًا لما كان من إخفاقات جليّة مُنيت بها القيادات العربية آنذاك.

وما كان لأبناء جيل الانتفاضة الأولى من أمثالي أن يعرفوا أي معلومة عن ذلك العهد، لوما تكلم آباؤنا وأمهاتنا ونقلوا لنا ذاكرتهم ورفدوا بها وعينا، لتظل شعلة هذه القضية حاضرة في نفوسنا وفي نفوس الأجيال القادمة من بعدنا.

وها هو شهر حزيران من هذه السنة يعاودنا ليجدد ذكرى ألمٍ ما زالت مطوية عليه صدورنا، فيعيدها غصة ساكنة في حلوقنا لم يخفف وطأتها هذه السنة سوى الهبة الكريمة لشباب وشابات القدس أمام باب العامود، وهبتهم لنجدة أهالي الشيخ جراح، وختامها كان مسكًا بمعركة سيف القدس التي شكلت ردعًا ولو بسيطًا لعدو غاشمٍ أثبتت التجارب أنه لا يفهم سوى لغة القوة والنِّدِّيَّة. وقد صدق أديبنا الفلسطيني الجميل الدكتور أحمد رفيق عوض في مقاله قبل يومين إذ قال "الاحتلال مرض استثنائي والشفاء منه مسألة وقت ليس إلا". والاحتلال يدرك هذا الأمر جيدًا وهو يحاول جاهدًا إبقاء استمراريته لأطول وقت ممكن، ولكنه يدرك جيدًا أنه سيزول كما زال كل باطل قبله. ويومها سنستقبل حزيران بكلمة أهلا وسهلاً ونستبدلها بآهاتنا وذكرياتنا الأليمة معه.