• 28 تشرين أول 2021
  • مقابلة خاصة

 

 بقلم : ابراهيم نصز الله 

 

غريبة هي الترجمة، وشائكة، قد تدمِّر عملاً، وقد تحييه، تظلمه أو تنصفه.

أزعم أنني حتى الآن كنت محظوظاً بنوعية ترجمة كتبي، ومصدر هذا الحُكم هو انطباعات أهل اللغات. ولعل أجمل انطباع هو: كأنها غير مترجمة! قرأت رأياً لمحمود درويش يقول فيه «إن المترجم قد يجعل القصيدة أفضل أحياناً»، وأوافقه في هذا، بخاصة إذا كان المترجم عارفاً بلغة القصيدة وشاعراً أيضاً.

أتحفظ على ترجمة الكتاب من لغة ثانية، غير لغته الأصلية، وأرفضه، وقد تُرجمت لي رواية بهذه الطريقة إلى لغة ثالثة، فكانت النتيجة كارثية، وبددت ترجمة ثانية هذا الظنّ! أتذكر أنني حين اقتنيتُ رواية «الأم»، لغوركي، مترجمة من لغتها الأصلية، أخرجتُ النسخة المترجمة من الفرنسية لأتخلص منها، وفي اللحظة الأخيرة قررت أن أقارن بين النسختين، فكانت المقارنة لصالح الترجَمة عن الفرنسية! يبدو أن هذا يحدث أحياناً، مع وجود مترجم أول استثنائي.

في العالم العربي أصبحنا نشتري بعض الكتب استناداً لثقتنا في المترجم، مع أننا لا نعرف الكاتب أحياناً. صالح علماني، لروحه الرحمة، واحد من أولئك القلة الذين نقرأ الكتاب الذي يترجمه، وكأنه المؤلف.

هناك ترجمات تجعلنا متعلقين بالكتاب، وأخرى نافرين منه. وفي ظني، أن ليس هناك متعة وسعادة أجمل من أن يقول لك قارئ أجنبي، أنت محظوظ بهذه الترجمة لكتابك بالإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الإيطالية، أو أي لغة أخرى.

في لحظة كهذه يهدأ قلبك، وكأنك تسمع خبراً جيداً عن ابن أو صديق أو حبيب سافر وانقطعت أخباره.

وسأقترب من الموضوع عبر هذه التجربة التي عشتها ولم أزل أعيشها برضى، مع المترجمة البارعة نانسي روبرتس، التي جمعتني وإياها والدكتور تيسير أبو عودة والدكتور أحمد رحاحلة محاضرة افتراضية، مطلع الأسبوع، عنوانها «النص المترجَم بين المؤلف والمترجِم»، أقامها منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، لمناقشة ترجمتها لروايتي «أعراس آمنة» إلى الإنكليزية.

بدأت حكاية لقائي بنانسي، مثلما تبدأ أحداث قصة قصيرة:

كنتُ التقيت بالصديق المترجم دينس جونسون ديفز، مباشرة بعد وصول رواية «زمن الخيول البيضاء» إلى اللائحة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية. أهديته نسخة منها، وبعد يومين قال لي: «هذه الرواية يجب أن تترجم. كنت أتمنى أن أقوم بترجمتها، لكنني لم أعد أملك القوة لترجمة عمل طويل كهذا، لكنني سأرشّحها للنشر»، وهذا ما حصل فعلاً، إذ تمّ، بمساعدته، توقيع عقد مع دار نشر الجامعة الأمريكية في القاهرة/ نيويورك لذلك.

حين سألني مسؤول النشر، يومها، نيل هِويسون: «هل تُرشِّح مترجمّاً؟» أرسلتُ إليه بضع صفحات سبق وأن تمّت ترجمتها من الرواية، فكتب إليّ: «لغتك أكثر شاعرية وإيحاء من هذه الترجمة. أقترح عليك أن نطلب من نانسي روبرتس ترجمتها». وافقتُ، وأثناء حديثنا تبيّن أنها تقيم في الأردن، حيث أقيم!

كانت تلك مفاجأة لي، وحينما اتصلتْ نانسي بي بعد أيام لترتيب حصولها على نسخة من الرواية، كنتُ أشكّ في أن التي تتحدّث معي هي نانسي روبرتس حقّاً. كانت تتكلم بلهجة أهل عمّان، بحيث أربكني الأمر. لكن استمرار المحادثة أكد لي أنها نفسها.

ما أدهشني أكثر، حين بدأتْ العمل، أن الطاقة التي تتمتّع بها غير عادية، وأن إخلاصها لعملها، استثنائيٌّ. اكتشفت ذلك حينما بدأت تصلني أسئلة عن هذه الكلمة أو تلك، وبهذا كنت أعرف إلى أين وصلت الترجمة أوّلاً بأوّل.

سؤالها عن بعض الكلمات كان يُريحني كثيراً، فأنا لا أخاف أحداً مثلما أخاف من مُترجِم لا يسألك أيّ سؤال عن نصّك!

ما أفرحني، حينما أنهت الترجمة، أنني أحسست بقرب نصّي المُترجم مني بالإنكليزية، إنها لغتي؛ (وقد عانيت من ترجمات ذهبت بعيداً عن أصل النص ووعي شخصياته وطبيعة لغتها، بحيث ينتابك إحساس أن هذا النص ليس نصك الأصلي، ثم يأتي رفض دور النشر للترجمة تأكيداً لإحساسك).

حين صدرت زمن الخيول في مجلد من 650 صفحة، قوبلتْ بحفاوة كبيرة، ولقيت نانسي التقدير الكبير الذي تستحقه من القراء، ومن النقاد الذين كتبوا عن النسخة الإنكليزية. وللحق، أعتبر المترجمةَ/ المترجمَ، بأنهما المؤلفة/ المؤلف، للنص في اللغة التي يُنقل إليها الكتاب، لأن المبدع منهما هو من يملك لغة وحسّاً ومعرفة تُبْقِي الإبداع إبداعاً، ولا تحوّله إلى معنى فقط، كما يحدث في كثير من الترجمات.

من «زمن الخيول البيضاء» انطلقتْ رحلتنا وصولاً إلى رواية أكبر حجماً منها هي «قناديل ملك الجليل». وهكذا، حين تمّ الاتفاق على ترجمة روايتي «أرواح كليمنجارو» اشترطتُ أن تقوم نانسي بالترجمة، ووافقت دار النشر على طلبي لمعرفتها بعمل نانسي، ثم بعد ذلك رواية «أعراس آمنة» التي صدرت بالإنكليزية بعنوان «أعراس غزة»، ثم «حرب الكلب الثانية»، ورواية قصيرة أخرى، مخطوطة، «شمس اليوم الثامن»، التي نأمل أن تنشر في العام المقبل.

ما أسعدني دائماً في هذه العلاقة الرائعة مع نانسي، أنها كانت تسبقني أحياناً، فحين كتبتُ لها ذات يوم: «أظن أن رواية مثل «شرفة العار» صالحة لأن تترجم!»، كتبتْ إليّ بعد أقل من دقائق أنها أحبت الرواية منذ أن قرأتها، وأنها ترجمت ثلاثين صفحة منها منذ أشهر طويلة. وسيتضح أثناء اللقاء الافتراضي هذا الأسبوع أنها ترجمت في مطلع التسعينيات أيضاً لغادة السمّان قبل أن تتفق مع أي دار نشر، فقط لأنها أدركت أن روايات غادة يجب أن تترجم.

أصل هنا إلى مسألة مهمّة، وهي أن الترجمة ليست عملاً وحسب، بل هي الحبّ، وأن الوقوع في حبّ نصّ ما قد يدفع المترجم لترجمته أو ترجمة جزء منه، حتى وإن لم يكن هناك ناشر يكلّفه بهذا، أو كاتب يبدي رغبته بهذا.

.. وأحب أن أضيف أنني أتفاءل، وتغمرني سعادة حقيقية عميقة، حين أكتشف تلك الطاقة الإيجابية العظيمة الذي تربط البشر بأنفسهم، وبما يُنجِزون، وبما حولهم، ولذا أكون على ثقة من أن هناك مَن سيُقدِّر هذه الطاقة ويتأثر بها، مهما كان بعيداً عن مجال تأثيرها المباشر؛ وهكذا، كان فوز نانسي بجائزة الشيخ حمد للترجمة، من العربية إلى الإنكليزية، عن رواية «أعراس غزة»، واحداً من أجمل النجاحات التي منحتني الإيمان بأنك حين تكتب أو تترجم بكامل قلبك، يفهمك الناس ويحبونك، ويحبون عملك بكامل قلوبهم، وحين تكتب أو تترجم بنصف قلبك سيفهمونك ويحبونك بنصف قلوبهم.

في هذه المنطقة الطيبة الشاسعة بحجم قلب، تُبدع نانسي، صديقة العربية المدافعة عن قضاياها، وتمنحنا الأمل في أن هذا العالم سيبقى جميلاً، بحيث إننا لن نقبل التّنازل عن حبنا له، رغم كل الظروف.

 عن القدس العربي