• 16 آيار 2022
  • مقابلة خاصة

 

 القدس - أخبار البلد - كتب المحرر الثقافي : تستمر شبكة " أخبار البلد" المقدسية بنشر أجزاء من كتاب  " عشاق المدينة " للكاتبة "نزهة الرملاوي " بالاتفاق مع الكاتبة المبدعة ، تلك الحكايات التي  تحظى بإعجاب القراء والمتابعين ، على امل ان يتمكن جميع  متابعي الشبكة في العالم من الاستماع بهذه الحكايات .

 امنية نازح .. ومخيم لجوء 

في طريق ما من طرق النّزوح واللّجوء، امرأة مضرجّة بدمائها ومن حولها جثث تناثرت أشلاؤها بين البيادر وحقول القمح الباكية على من هُجّروا، وراحت تخبئ بين سنابلها أجساد الشّهداء إثر ضربات مدفعيّة متتالية، ورصاص قنّاصة يستهدفهم بلا استئذان.

تراكضت الجموع المتبقيّة من طوابير اللاجئين، وتوارت الشّمس خلف المسافات عن عيون من أُجبروا على الرّحيل، فغشّى الليل بعتمة الطّرقات، وأيقنوا أنّ الظّلمة أكثر أمنا للتّحرك خلف تلك الجبال والاختباء في المغارات والكهوف المنتشرة هنا وهناك.

بقيت الأشياء معلقة في الذّاكرة... بيت الجدّ العتيق المتوّج بقبتين، والوسائد المطرّزة التي تعلو فرش المضافة، وانعقاد آخر جلسة لكبار القرية وشيوخها في عليّة المُختار، فقد دارت الأحاديث يومها عن الأمور السّياسية إثر الغارات التي تشنّها عصابات (الهاجاناه والبلماخ والأرجون وشتيرن) على القرى المجاورة. وما زالت بئر الماء المتربّعة في وسط الدّار، وقنّ الدّجاج الرّاقد تحت الدّرج، وأصوات الحمام الهادل فوق البيوت، وفرن الطّابون والرّدف المتوهّج تحت أرغفة القمح، والأشجار المثمرة والخضرة المدلّلة في سفوح أراضيهم وشموخ تلالهم، في نبض القلب ووجدان الرّوح.

أمنيات كثيرة تمنّاها (عليّ) وفي ساعات من عمر الزّمن، تبخّرت أحلامه وأمنياته، فما بقيت إلا أيام على الانتهاء من بناء (العليّة)، وزفافه سيكون مباشرة بعد انتهاء موسم الحصاد وجني المحصول وبيعه.

تفرّقت الجموع وغدا كل مع عائلته نحو المجهول، لا يدرون أين ستحط أقدامهم، إلا (أبا العزيز) جدّ علي، فبالرغم من حبه لقريته وتصاعد الألم في داخله لفراقها، إلا أنه عزم على التوجه مع أبنائه وعائلاتهم إلى القدس، فقد كانت تعني له الأمان الروحي، وكم تمنى أن يجاور الحرم القدسي، كلما هبت ريح الأقصى والبلدة القديمة على مشارف ذاكرته، فقد كان دائم الزيارة لها؛ بحكم عمله بالتجارة، ووجود أهل زوجته هناك.

وصلت العائلة جبل المشارف بالقدس، أسعفهم الناس ببعض الماء والطعام، واستضافوهم في بيوتهم، وتقاسموا معهم هموم الحياة مع أرغفة الخبز وبعض الطعام... (أبو العزيز) استقرّ وعائلته في حارة الشرف، بالقرب من أهل زوجته المقدسية، بقي ملازمًا للمسجد الأقصى ومات بعد سنوات قليلة من النكبة، كان دائم القول:

(كل شيء يعوّض إلا ضياع الأرض)

حين تركوا القرية مجبرين، لم يدر أحد أن مفاتيح البيوت ستعلّق على حائط الذكريات سنين طويلة، رحلت الأشياء الجميلة من داخلهم، مات الأجداد، وهرم الشباب، وغزا الشيب رؤوسهم

أبقوا كل شيء على حاله، حملوا الذكريات ومضوا في رحلة العذاب. الأيام تمر بطيئة، فارغة من البهجة والابتسام، عائلات النازحين تتنقّل من حي إلى آخر خارج أسوار المدينة، ومن حارة إلى حارة داخل أسوارها، فكّروا بالرجوع إلى القرية مرة أخرى، لكن الخوف كان أكبر منهم، وصور القتلى ما زالت ماثلة أمامهم، فمنهم من استقرّ في حي الشيخ جراح وفي حي الطور وراس العامود، ومنهم من طالته يد الغربة وغادر الوطن، وعاش على أمل العودة.

 

بعد سنوات من النكبة، تزوج (علي) من ابنة عمه (عالية) التي ترعرعت في بيتهم بعد استشهاد والدها وزواج أمها من مختار البلد، لقد امتزج اسمها باسم ابن عمها، ذوّتت الفكرة تمامًا برأسها، فابن العم يحق له أن ينزلها عن ظهر الفرس، وهو أحق الناس بالزواج بها كما يقولون، لقد أحبته، فما رأت رجلا سواه، وكم من المرّات رأته يدخل فناء المنزل فتبدأ بالغناء:

يا ابن العم يا شعري على ظهري

إن جاك الموت لأرده على عمري

يا ابن العم يا ثوبي علي

إن جاك الموت لأردّه بيدي

يا ابن العم يا ثوب الحرير

لحطك بين جناحي وأطير

في الحارة، وضعا الأشياء جانبًا، جلس (علي) على عتبة البيت يستريح، سمع صوت (عالية) الشجي وقد امتزج بالحزن يغني:

جفرا ويا هالربع وتقول (استنوني)

راجع لديرة هلي لقطوف زيتوني

ما بنسى منسف هلي وخبزات طابوني

مهباج دقّ قهوة، سهرات ليلية

جفرا ويا هالربع بالصوت تناديني

وموشمه عالصدر رسمة فلسطيني

ما أطيق لبس الدهب وأساور ثمينة

يحلا لي صف الفشك وبارودة روسية.

طرق (علي) الباب، حمل المؤن، وراحت زوجته تعينه في وضعها وقالت: (اللي بطلع منهم صدقة عنهم).

رمقها بنظرة غضب، فارتعدت فرائصها وأردفت قائلة: (أتذكر يا علي قريتنا وما فيها من خيرات؟

أذكر عمي رحمه الله حين يأخذه الحديث والذكرى للبلد، يسرد لنا قصصًا حول أهلنا وكرمهم، وقد روى لنا أنهم كانوا يخرجون زكاة أموالهم وعشور أراضيهم للفقراء خارج القرية، أو فقراء جاؤوا للإقامة والعمل فيها من القرى المجاورة، رحم الله من رحلوا وتركوا لنا في القلب نبض وفاء.

انتهت حرب حزيران ...تجرّعت المدينة كأس الذل والهزيمة، أخذت الجرّافات تنهش لحم الحارة، وتبدّد أشلاءها، لم يبق وقت على الترحيل، حمل (علي) مع زوجته وأولاده الصغار بعض الأشياء، وراحت عيناه تودّع أقواس البيت ونوافذه المطلّة على حائط البراق، وكأنه يراه لأول مرة منذ عشرين عامًا.

 

خرج من المنزل، وأخذ ينظر إلى الحارات القريبة من حارته، حارة المغاربة، والعلم، وحوش الشاي، وعقبة البطيخ، يبكي هدمها وانكسار المدينة، ما أشبه اليوم بالأمس !

طوابير من المطرودين من حارة الشرف، تبعثر الجيران وتفرّق الأهل ثانية، كان المخيم بانتظارهم.

جهّز المخيم، دارت الحرب، هزم العرب، سقطت القدس، وأكلت الجرافات الحارات.

تلقّف المخيم من شاء من المطرودين، واستقبلهم بلافتات زرقاء كبيرة، تدل على عيادة لعلاج المرضى، ومدرستين للذكور والإناث، قامت بإنشائها وكالة الغوث.

في منتصف الطريق، وضعت عالية يدها في جيب ثوبها، ثم صاحت: أحضرت مفتاح البيت ونسيت البطاقة التي تثبت لجوءنا، كيف سنحصل على المؤن هذا الشهر؟ واحسرتاه ! من تشريد إلى لجوء، كيف يثبت أولادنا أنهم لاجئون؟

أجاب علي...لا تخلطي الأمور...نحن لاجئون.. وأولادنا نازحون

عالية: وما الفرق بينهما؟؟

علي: عشرون عامًا.