• 21 تموز 2022
  • مقابلة خاصة

 

 القدس - أخبار البلد-  وتستمر القراءة الممتعة في المجموعة القصصية القصيرة للكاتبة نزهة الرملاوي  والتي تحمل عنوان " عشاق المدينة " والتي تتحدث عن عشاق القدس الكثر، ويسعدنا في شبكة " أخبار البلد" المقدسية ان تستمر بنشر اجزاء من  تلك المجموعة القصصية ،  و،نتقدم بالشكر للكاتبة الرملاوي لتوفير الفرصة لقرائنا الاعزاء للتمتع بهذا الكتاب .

                        " في عتمة ليل"

في ليلة مقدسيّة لا تنسى في أواخر ستينيات القرن المنصرم، نامت أمل الطّفلة الكبيرة في الغرفة المطلّة على ساحة البيت العتيق، كما تعوّدت، مع شقيقتها الصغرى منذ مدة وجيزة، فكل البيوت كما نعرف في مباني البلدة القديمة، في وسطها ساحةٌ، حجارتها القديمة مصقولة بعناية، وبها لمعان مميز يتوهّج بعد أن تفرشيه النسوة بقوة، وتلتقط ما تبقى من مياه الشطف من التّشققات والحفر المتناثرة بينها بمهارة وإتقان. 

يا لها من ساحة كبيرة في عيون طفلة، عجّت بألعاب الأطفال، ورحّبت بالزّائرين، وفرحت بعودة الرّجال بعد طول تعب ومشقّة، يا لها من ساحة عشق حفظت أقدام من وطئها ذهابا وإيابا، فضمّتهم بين ذراعيها كأم رؤوم، وبكت دمًا حين بدأت حناجر النّساء بالغناء الحزين واللّحن الشّجيّ إثر النّكسة، وتأملت الدّمع المنهمر من عيونهنّ أثناء قيامهنّ بغسل الملابس أمام الأبواب، وكم تأمّلت تساقط الدّمع على أطباق الغسيل بين أيديهنّ الطّاهرة، فلتعلم أيّها الرّاقص على جرحي القديم المتجدّد، أنّ للقدس قمرًا يرى كلّ شيء رغم العتمة، وينسج للسّاهرين حبالا من الأشواق والخيال، ترسم منهما آهات تتلوّن في حاراتها وتخبئ الأسرار في سراديبها، أيبقى السّر في قلب الطّفلة مدفونًا وراء جدران الحجرة القديمة هناك؟  يا لها من ليلة طويلة في حجرة قديمة باتت فيها طفلة تحدّق في سقف البيت لساعات، وترسم من خشونته واصفراره قصصًا وحكايات يقودها مارد يخطف الأميرة ويفرّ بها إلى البعيد، تعود بها الملائكة إلى القصر لأنها مؤمنة. بقيت الطّفلة أمل مستيقظة ولم تنم، ففي الحجرة خوف وعتمة يخترقها ضوء خافت من مصباح الكاز المنبعث من نافذة الجيران، فزعت الطّفلة وصرخ قلبها وتوقف لسانها، يد كبيرة تمتد إلى جسدها الصّغير... لا لشيء تمتدّ اليد إليها إلاّ لتصحو من حلمها، وراحت أمل تتساءل  في قرارة نفسها والدّموع تحتبس خوفًا خلف جفونها التي تتعمّد الإغماض: أهو المارد الذي خطف الأميرة من القصر وتركها في الغابة  ليعود إليها هذا المساء ليذبحها ويطهوها على نار جمع لها الحطب نهارًا؟ بقيت ساكنة دون حراك كتمت أنفاسها حتى لا تستوقف خطوات شخص عائدة من حيث أتت، وتسارعت نبضات قلبها الصّغير وبات الخوف بركانا يتفجّر داخلها، ويحوّل جسدها إلى قطع متناثرة أمام شخص مجهول، بعد لحظات من دخوله، أيقنت أنّه دخل الحجرة أطفأ (اللامبة) (المصباح الكهربائيّ)؛ فازدادت الغرفة عتمة وسوادًا.

طفلة مرتعدة.. خائفة.. حاولت النّظر إليه، لكنّ عينيها أبت إلاّ أن تشعره بنوم عميق، حاولت أن تعرفه وتفتح طرف عينها، رأت ظلا كبيرًا لم تعرفه ولم تره ولا تريد أن تراه !!!

بقيت عيناها شبه مغمضتين؛ كي لا تراه.. وكي لا يلاحظ  بريق عينيها إن نظر إليها، خرج من الحجرة وأغلق الباب كما كان قبل فتحه، ظلّ النّبض في قلب الطّفلة يتسارع خوفًا، وبقيت دون حراك حتّى سمعت صوتًا صادرًا من خلف الباب، وكأنه يتجول بالساحة (وسط الدار)...فبعث في قلبها الأمان، صرخ القلب الصّغير: يا ربي هذا صوت جارتنا أم ياسر، فأنا أميّز نحنحتها، عادت أم ياسر للتّنحنح، فمن عادة الجيران التّنحنح إذا ما أرادوا الخروج من حجراتهم  لقضاء حاجتهم ليلا، فمن المعلوم أن لكلّ طابق من المبنى المقدسيّ مرحاضًا واحدًا يستعمله الجيران، قفزت الطّفلة من تحت غطائها، وتوجّهت إلى الباب المغلق، ففتحته  ونادت بصوت كاد أن يسمع: "خالتي... خالتي" 

ثم علا الصّوت.. "خالتي ... خالتي"، انفجرت بالبكاء وأخذت تتنفس بين يدي أم ياسر بعد انقطاع أنفاسها لساعة، أخذت أم ياسر تردّد البسملة وتقرأ المعوّذات، وفي كلّ ثانية تنظر إليها وتضمّها إلى صدرها الحنون، وتهدئ من روعها وخوفها. مشت خطوات قليلة إلى الحجرة المجاورة، وطرقت الباب بهدوء حتى لا توقظ الجيران، ونادت أهل أمل ليغيثوا ابنتهم، فزعت الأم لمنظر ابنتها ولم يخرج الأب من الحجرة، فقد جرت العادة أن يستأذن الرّجل من النّسوة إذا همّ بالدّخول إلى الدّار بعد عودته من العمل، أو حين الخروج من بيته، فتسمع صوته يردّد بقوّة (يا الله يا ساتر) (يا الله يا ساتر)، وإن صادفته امرأة تلتصق بالحائط  وتغطّي وجهها وتسمح له بالمرور من وسط الدّار إلى حجرته فلا يراها، فمن عادة الرّجل المقدسيّ ألّا يرفع رأسه حتى يصل بيته فيدخله ويغلق الباب وراءه. نهض الأب واسترق السّمع من وراء الباب، وظلّ من خلف العتمة يرقب ابنته، ضمّت الأم ابنتها وقالت:

  ما بك يا حبيبتي؟ ما الذي أخافك؟

ظلّت الطّفلة تبكي ولا تتكلّم. قالوا لها: "لا تخافي،  أنت تحلمين، لعن الله الشيطان، أنت تحلمين"

هدأت أمل ونامت في حضن أمّها، راودها نوم جميل، رأت فيه أم ياسر تطير بأجنحة كالملاك الذي عاد بالأميرة إلى القصر، بعد أن خطف المارد نومها.