• 21 أيلول 2022
  • مقابلة خاصة

خواطر اثرية 

 

بقلم : ا،د، زيدان كفافي

 

                               منجلي يا من جلاه                  راح للصايغ جلاه

حاول كثير من الباحثين فك كنه كيفية وطبيعة الانتقال بين المجتمعات الصيادة والجامعة للقوت، وبين المجتمعات الزراعية المنتجة لغذائها اليومي، والتي  بنت القرى الزراعية الأولى؛ وذلك من خلال دراستهم للمؤثرات والتغيرات التي أدت إلى حدوث التغير في النمط المعيشي. ورأى كثير منهم أن السبب في هذا التحول مرجعه إلى حدوث تغير كبير في الأحوال المناخية، حيث حصل قبل ما يزيد عن 12000 سنة تراجع للجليد من نصف الكرة الأرضية الشمالي إلى المنطقة القطبية. وبرأيهم أن هذا أدى إلى تغيير في طبيعة الغطائين النباتي والحيواني في أوروبا ومنطقة شرقي البحر المتوسط. وانعكس هذا الأمر على توزيع المجموعات البشرية فوق هذه البقعة من العالم، فتفاعل مع البيئات الجديدة المتنوعة، ونظم عملية الاستفادة من خيرات الطبيعة فجمع وحصد الحبوب البرية كالقمح والشعير وطحنها ثم أكلها. ثم نرى أن الناس تخصصوا في أكل أنواع محددة من الحيوانات، خاصة الغزلان. وللقيام بمثل هذه الأعمال أصبح لزاماً عليه تصنيع أدوات جديدة للطحن، والصيد.، فاخترع المنجل، وسنارة صيد الأسماك.  

المنجل في الوقت الحاضر عبارة عن أداة مصنوعة من المعدن منحنية الشكل تستخدم لحصاد الحبوب المزروعة، له حافة مسننة على شكل منشار. ويتكون المنجل أو المحش من المقبض المصنوع من الخشب، يدخل في هذا المقبض ساق المنجل المعدني وهو جزء من شكل جسم المنجل المصنوع على شكل قوس.

يعتقد الكثير من الناس أن صناعة المنجل كانت بعد  أن عرف الناس الزراعة من أجل استخدامه في حصاد الحبوب المزروعة، لكن  برأينا أنه يجب إعادة النظر بهذا الرأي،  خاصة  بعد أن عثرت البعثة الاسترالية  بقيادة فيليب إدواردز (Philip Edwards) والعاملة في موقع وادي الحمة  (27)  منذ سنوات،  والواقع بالقرب من بلدة المشارع/طبقة فحل في شمالي وادي الأردن، على عدد من المناجل التي استخدمها الناس قبل أكثر من 12000 ألف سنة لحصاد الحبوب البرية .  وتكون المنجل الواحد من قرن غزال حفر فيه خندق بسيط وضع فيه صفين من الشفرات الصوانية  مسننة الأطراف، على شكل منشار، لتسهيل عملية الحصاد ، ويبدو أنها كانت تثبت بالقار الذي لا تزال آثاره ظاهرة على مقبض المنجل (شكل 2).  وبعض من هذه المناجل معروض في متحف التراث الأردني بجامعة اليرموك.

وبالإضافة للمناجل عثر في نفس الموقع على أدوات للطحن والهرس والجرش (شكل 3)، وجميعها مصنوعة من البازلت والتي تتواجد خاماته بكثرة في وادي اليرموك . وطبعاً استخدمت لطحن وهرس الحبوب البرية التي صنع الناس منها خبزاً لهم. صحيح أنه  لم يعثر في الموقع نفسه على بقايا خبز، لكنه عثر على بقايا   له  في موقع الشبيكة، الناطوفي أيضاً، والواقع على الحدود الأردنية – السورية في منطقة الصحراء البازلتية (الحرّة) ، على يد البعثة الدنماركية باشراف طوبيا ريشتر  (Tobias Richter)

ويظهر جلياً أن  المجتمعات البشرية التي عاشت في الأردن خلال الفترة التي أطلق عليها الباحثون اسم المرحلة الانتقالية من جمع الطعام إلى إنتاجه  ( Epi – Palaeolithic)   قد اختارت وجبة الغذاء التي تريد. فقام الناس بالتركيز على أكل أنواع معينة من الحيوانات ، خاصة الغزلان ، وطحن الحبوب قبل أكلها ، وكانت حبوب القمح والشعير بفصائلها المختلفة أول الحبوب التي أكلها الناس ومن ثم زرعوها . 

ولقد أطلق العالم غوردن تشايلد اسم " ثورة زراعية " على هذا التحول في الأنماط الاقتصادية والمعيشية والتي انعكست على طبيعة المجتمعات.  علماً أن بعض العلماء يرى انه لا يجوز إطلاق مصطلح ثورة على ما حدث لانه يوحي بأن التغيير كان مفاجئا ، بعكس الحقيقة والتي تقول بان ما حدث كان عبارة عن تطور تدريجي نتيجة جهد مادي وتطور فكري مستمدين جذورهما من الفترات السابقة، خاصة الناطوفية . 

قبل اكثر من عشرة آلاف عام بلغت قرى الصيادين الناطوفيين في الأردن ذروة تطورها ورأينا ذلك بكل وضوح في مناطق وادي الحمة ، قرب بلدة المشارع في غور الأردن ، وكذلك في منطقة الأودية الواقعة الى الغرب من مدينة الكرك مثل الذراع وفينان ، وحصل في هذه الفترة تحول جذري في طبيعة حياة الناس وطرق معيشتهم ، وتمثل هذا الانعطاف في الانتقال من الاعتماد  الكلي على صيد الحيوانات وجمع الطعام والتنقل الدائم إلى  الاستقرار الدائم وإنتاج الطعام، وذلك  بتوصل الإنسان لمعرفة الزراعة تبعها تدجينه للحيوانات. فكان الإنسان مزارعاً قبل أن يكون فلاّحاً.