• 19 تشرين الثاني 2022
  • مقابلة خاصة

 

القدس - أخبار البلد - خص الدكتورعلي قليبومؤلف العديد من الكتب المميزة  ذات العلاقة بالقدس عشقه الاول، اضافة الى بحثه المضني عن الهوية الفلسطينية، هذه المقالة من عنوانها يمكن القول انها ذات ابعاد متعددة لشخصية الكاتب وتمثل هواجس واحاسيس شريحة هامة من المجتمع المقدسي يشرفنا في شبكةأخبار البلدالمقدسية ان يستمر الدكتور علي قليبو في الكتابة خصيصا لها ، تلك المقالات التي تلاقي اقبالا ملفتا للنظر من قبل المتابعين .

مع تمنياتنا بقراءة ممتعة .

 انعكاسات ذاتية 

بقلم: الدكتور علي قليبو

 

بعد حِلٍّ وترحال، وطول سعي وإدبار وإقبال، لا انفك مغتربًا عن الديارِ. سنوات مضت عَصَفتْ خلالها أحاسيس القلق بفؤادي، إلى أن حل بي المطاف في مسقط رأسي. عدّتُ إلى القدس، أسيرُ في شوارعها، فأجدُ في كلِّ وجهٍ انعكاسًا لصورتي، واسمع في كلّ كلمةٍ صدى لصوتي، لأولِ مرةٍ بعد سنين الاغتراب والدراسةِ والتجوال بين الولايات المتحدة الأميركية، وإيطاليا، وأمريكا اللاتينية، واليابان، والبرتغال، فمصر...، وبعد أن كان العالمُ سجنًا، وجدتُ حريتي، وتنفسّت الصَّعداء في نطاق خمس كيلومترات مُربّعة، والتي تشمل كرمُ الشيخِ في حيِّ بابِ الساهرةِ، والمُصرَارَةُ والبلدةُ القديمةُ داخلِ الأسوارِ، ففي هذه الرقعة من الأرض يوجدُ -بالإضافة إلى زوجتي إلينا- أكثر الناس أهمية وأعظمهم معنى في حياتي: والدتي، وجدتي، وأخوالي وأولاد عمومتيممن لم يهاجر منهم-.

في القدس لم تعدْ لي لكنها تُميزني عن الآخرين، فقد ذابت ملامح وجهي في طوبوغرافية الوجوه المقدسية. لم أعدْ غريبًا، وفارقتني الرغبةَ المُلّحةَ للانتماءِ، هنا أنتمي دون أدنى محاولة للانتماءِ.

أمشي فأرى من حولي وجوهًا أعرفُها وتعرُفني، ففي القدسِ ما زال هناك أناس هم أهلي وجيراني فلا أكون أبدًا وحيدًا، ويكفي تبادل تحية "صباح الخير"، أو "مساء الخير" ليتبدد شعوري بالوحشة ولأبَرأ من هواجسي.

في القدسِ وجدتُ السعادةَ والطمأنينةَ...  تتكرر انعكاسات نفسي في مختلف الصور... فلا ألهثُ بحثًا عنها. ففي القدس تحيط بي رموزًا لا حصر لها فتثيرُ الذكرياتُ الشخصيةُ المرتبطةُ بتاريخي الفلسطيني المقدسي ذو جذورٍ واضحة، فإذا ما دخلتُ البلدةَ القديمةَ من باب العامود فإنني أواجه أول ما أواجه إحدى بناياتنا وهي وقف إسلاميّ ذريّ قديم، وأسفل الدرجات التي تقود إلى مفترق سوق خان الزيت وشارع الواد تقبع مخازن كبيرة هي الساحة الرومانية القديمة، وما زالت من أوقاف عائلتي الذرية... فإذا ما وصلتُ إلى كنيسةِ القيامةِ - حيث صُلبَ، ودُفنَ وبُعثَ المسيح عليه السلام -كما في العقيدة المسيحيةفإنني حتمًا أجدٌ خالي "وجيه" في أحد أركانها فهو المُكلّف بفتح الكنيسةِ وختم القبر المُقدّسِ في طقوس متوارثة تناقلتها عائلة نسيبه أبًّا عن جد، منذ القرن السابع الميلادي حين عهد به الخليفة عمر بن الخطاب إلى جدّهم عبد الله بن نسيبة المازنية الخزرجية.

فإذا ما انتقلتُ إلى الحرم الشريف / قبة الصخرة والمسجد الأقصى والقباب والمآذن المحيطة بها- فأنني مارٌ، لا محالة من المدرسة الأشرفية التي تحتوي على تربة جدي مولانا الشيخ محمد الخليلي التميمي الداري ومكتبته الأثرية - التي ترجع إلى القرن السابع عشر- وأوقافه وضريحه، وكيف لا أشعر بالانتماء وعائلتي ينحدرُ صُلبها من نسله! ووالدي أبًّا عن جد قد نشأ في "قصر الشيخ محمد الخليلي" خارج باب الساهرة

وامتلأتْ طفولتي سحرًا بقصصِ والدي اللامتناهية عن تقواه وبركاته. فهو بالإضافة إلى كونه من نسل الصحابي تميم الداري -رضي الله عنه-، فهو وليّ من أولياء الله الصالحين، ولشدةِ حبّهِ وانجذابهِ إلى الله ورسوله عُرف عمّ جدّه بنقبة "قُلِيبُه": أي تصغير تحبيب لكلمة "قلب" الذي عُرف فخْذ أجدادي من آل الخليلي التميمي به.  

أذكر سؤالي لوالدي عمّا إذا كانت السماء قد فتحت أبوابها له فأجاب بـ"نعم"، فسألته "ماذا رأيت؟ وماذا طلبت؟" وكان جوابه غامضًا. أجاب: أنه رأى نورًا شديدَ الوهجِ، ولكنّه لم يتمنَ ولم يطلبْ شيئًا... "كيف لم تطلب مليون دينار؟، فأجاب: بإنّ المنظر فاجأهُ، إذا كان شديدَ الروعةِ، فلم يفكرْ في طلبِ أي شيءٍ؟! فلقد بَلْغتْ به الروعة حدًّا خَلَبَ لبُّهُ فـ"ارتبط لسانه" ولم يعدْ يُفكرُ في شيءٍ مادي.

ولكنّ والدي يختلفبقيمه وطموحه وأخلاقياتهعن جيلنا فلقد كان "حَمِيديًّا" أي نشأ وترعرع في زمن السلطان عبد الحميد، إذ إنّه وُلَدَ في أواخر القرن التاسع عشر. كلّ شيءٍ فيه كان مختلفًا، حتى خطّه كان مثل الخط العربي في المخطوطات العثمانية القديمة، وكان ماهرًا في عزف العود والبيانو، وفي أيام الجمعة في زيارة جدتي كان يرتل آيات من القرآن ويتبعها بترديد الأناشيد الإسلامية، وقد حاول زرع بذور الفضيلةِ كما فهمها جيله في نفوسنا، ولكن قيمه الأخلاقية بدت غريبه، وكنا نظن أن الحميديين "أغبياء" فالتكالب للحصول على المال والشهرة وحب الظهور، كان أمرًا مستهجنًا، فوالدي -رحمه الله- كان يُرددُ دائمًا بأنّ طلبه الوحيد من الله هو "الستر"، وعندما كنا نجادله مطالبين بمظاهر حياة أكثر بكثير من "الستر" كان يجيب بضرورة الاكتفاء بالموجودأي القناعة: فالقناعة كنز لا يفنى.

ومع مرورِ الزمنِ تبينّ دورُ والدي في تكوين شخصيتي. جميع ما حظيتُ به من موهبة- من رسمٍ وكتابةٍ بالرغم من صقلها بالتعليم والمرانهو ميراثي من والدي الحميدي... فنظرة الحميديين للحياة كانت نظرة تأملية جمالية، تجدُ خيرُ تعبيرًا لها في فن التصوير التركي والفارسي، حيث "يُمثّل" الرجل المثالي في خلوةٍ تحفُّ بها الطبيعة الخلابة وهو يحملُ كتابًا في يدٍّ ووردةٍ في الأخرى يشم أريجها.

شاءت الأقدار أن أعودَ إلى مسقط رأسي في ظل الانتفاضة. عدتُّ، إلى القدس بعد غيابٍ طال لخمسةِ عشر عامًا، وصلتُأتيًا من القاهرة حيثُ كنتُ قد أقمتُ معرضًا فنيًا لأعمالي التشكيلية في متحفٍ "محمود خليل" بالزمالك، وانتهيت من مراجعة كتابي الأول "أسرار اليابان" الذي كان قد كتب مقدمته صديقي أديب اللغة العربية العظيم "توفيق الحكيم" فوُصلتُ مرهقَ الجسدِ والذهنِ. لم أكن أنوي سوى الاستجمام ورؤية الأهل ومن ثم متابعة رحلة العودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مقرّ عملي في جامعة تمبل في فيلادلفيا.

ولم تكن الانتفاضة الأولى قد اندلعت بعد، لكن إحساسًا داخليًا لا أعرف كنَهَهُ شدّني إلى البقاء. فلقد أحسّستُ إنني في بلدي وبين أهلي و"عادت إليّ روحي" بسماع صدى حرف الجيم المُعطّشة، واسترحت في امتداد حروفنا -الشمسية والقمريةوالتي تمطُّ باللهجة المقدسية بإيقاع موسيقي شجي النغم

وكانت مفاجأة الانتفاضة الأولى.

في ظل الانتفاضة اكتسب وجودُنا معنى وبعدًا آخر،

في ظل الانتفاضة صرنا لا حَدّ لآمالنا، لمشاريعنا، لطموحنا وتوقعاتنا من أنفسنا...

في ظل الانتفاضة أدركنا أننا نعيش لحظة تاريخية حاسمة نعي كليّا خطورتها، ونُدرك استحالة تكرار هذه الفرصة: يتطلّع، إلى كل خطوة نخطوها، أجيال من فلسطيني المستقبل لا نستطيع أن نخذلهم...

في ظل الانتفاضة لا وقت للفراغ: كل لحظة نحياها هي لحظة مليئة.

وكانت الانتفاضة لحظة المسؤولية وعمل وحالة تأهب مستمر.

وفي ظل الانتفاضة في القدس تقوقعتُ على ذاتي أعمل في صمتٍ مُطبقٍ وبيتٍ مغلقٍ، في سكون ظاهري تعجُّ بباطنه الحياة بلا كلل وفي حركة ذهنية مستمرة وإنتاج غزير، فتجدني تارةً سارحًا بين المراجع منهمكًا في صياغةِ أبحاثي الأكاديمية ومقالاتي الثقافيةِ، وتارة أخرى غارقًا في مرسمي بين ألواني الزيتية استلهمها نورًا وظلال... لا أغادر البيتَ سوى لمتابعةِ جولاتي الميدانية بالريف الفلسطيني، ودراسة معالم قدسنا الجميل وأبثُّ الشوقَ فيها واستجلي معالمها لتفيضَ في أعمالي الفنية والأدبية... أصبحت حياتي خلف كواليس الانتفاضة هي محور وجودي، قَضِيتُها في صياغة ونشر مجموعه كبيرة من المقالات والكتب عن معالم الهوية الفلسطينية باللغتين الإنجليزية والعربية، اذكر منها بالعربية "أسرار اليابان"، "هواجس فلسطينية في ظل الانتفاضة"، "القدس في القلب"، "المعالم المعمارية في القدس المملوكية"، "أرض الأجداد من الأزل إلى الأبد" في اللغة الإنجليزية صدر لي عدة كتب اذكر منها " Before the Mountains Dissappear " و"Jerusalem in the Heart" و"Surviving the Wall"، وتلاه كتيب عن تاريخ حي الثوري الاجتماعي للمؤسسة الألمانية ويلي براندت، وسلسلة مقالات شهرية، والمزيد من الأبحاث في تاريخ فلسطيني الاجتماعي من منظور أنثروبولوجي، فكتبت باللغة العربية في شبكة "أخبار البلدالمقدسية عن تاريخ بيت جبرين كمعلم حضاري فلسطيني عبر التاريخ، وعن التصوف في الريف الفلسطيني وعن التراث الفلسطيني عامة في الدوريات والكتب باللغة الفرنسية والإنجليزية والتركية ومن أهمها مقالاتي الشهرية على مدى العشرين عامًا الماضية في الدورية الفلسطينيةThis Week in Palestine”.

إنّ العزلةَ والوحدةَ تلعبُ دورًا مُهمًا في تشكيلِ عملية الإبداع، فحياة الفنان هي بطبيعة الحال معاناة وجودية وصراع مستمر، والانعزال للمحافظة على ظروف عملية الإبداع التأملية وإجراءات التفكير والتعبير التي أشبهها بالشرنقة التي تغلف الفراشة قبل انطلاقها.

أصبحتُ الأحراش غرب القدس فوق أراضي القسطل وصوبا وسطاف وخربة اللوز وقيسلون ملاذي من سجن العمر في شعفاط، بدأتُ برنامج زيارات يومية وشرعتُ بالتقاط صور سرعان ما أصبحت لوحات فنية... وحيث إنّ جمال الربيع المدهش يردد صدى اللوحات الفنية الرومانسية الأوروبية، وما رافق تلك الحقبة التاريخية من موسيقا كلاسيكية والشعر، فلقد تبلورت في مخيلتي الفنية، رؤية شاعرية في مشواري التأملي اليومي في أكناف الطبيعة، والتي سرعان ما عكستها عدسة كاميرا التلفون لتصبح لوحات فنية، لا تعتمد على إبراز التقنية الفنية المتطورة للكاميرا والمونتاج الحاسوبي ولكن تعتمد على إثارة الإحساس بالدهشة أمام روعة الطبيعة، من خلال رؤية تأملية تحليلية وصياغة هذه التفاصيل، في إطار صورة تثير الانبهار، وتوالت الصور، وتوالى نشرها على صفحتي بالفيسبوك، وإعجاب الجمهور بها، شاعت إثرها عبر الوسائل الإعلامية صور الطبيعة والمسارات عبر الجبال والسهول، تثير الإحساس الغامر بالجمال بأرض الأجداد.

  أعيشُ في برجي العاجي بين أبحاثي الأكاديمية والميدانية وفني.... أتنقل بين اللون والكلمة بين الرسم والمقالة... ارسم طورًا وانهمك في الكتابة طورًا آخر مُتنقلًا بين الإثنين، وعندما تنضب الكلمة وتتلاشى الألوان، أغادر البيت والبلاد وأسافر لأتوه عن نفسي في مدن الأحلام الأوروبية وأعيدُ تكوين ذاتي في شوارع ومتاحف فنية وتاريخية، وأتجوّل في بقاعٍ فريدة لزيارة القلاع والقصور من العصور الماضية وسط الطبيعة الخلابة... فكم أعشق التاريخ والطبيعة والجمال؟! والأمر سيان في اليابان وتركيا والنمسا والنرويج وسويسرا وفرنسا وإيطاليا...فلا أجمل من الغربة الطوعية!