• 28 تشرين الثاني 2022
  • مقابلة خاصة

 

 القدس - أخبار البلد -  نستكمل  حلقات  المجموعة القصصية للكاتبة المقدسية "نزهة الرملاوي " والتي تحمل عنوان " عشاق المدينة " في هذه المجموعة تستمر الكاتبة مشوارها عبر الذاكرة المقدسية ، ومن خلال صور تعكس المجتمع في فترة من الزمن تروي لنا حكايات تلقى إعجاب متابعي شبكة " أخبار البلد" المقدسية التي تشكر الكاتبة على حسن ثقتها بالشبكة وقراها ،

واليكم الحكاية العاشرة 

 

يا عيب الشّوم! 

لزهر اللّوز في ذاكرتي رحيق عشق غفا على سور حبّك مدينتي ولا يزال، وما أيقظته سنين البعد والغياب، لا يزال محمولا في سفني التّائهة في بحر الحياة، وعدت لألقي حمولة عشقي بين أحضانك الغالية. 

نعم في حضرة مدينتنا، تأرجحت آهاتنا بين بخور معابدها المعتق في الأرجاء، واعتكاف المتصوّفين في قبّة العشق الإلهي الصّاعد إلى السّماء، لم تغب تلك المشاهد والصّور الدافئة في فكري، رسمتُ من بقاياها قصصًا علقتها على أبواب ذاكرتي، ولوّنتها من تسابيح الفجر وصلوات اللّيل في كلّ يوم حمل في جعبته نفَس الحياة.

رسمته من بقايا القمح المعجون من عرق الخبّاز، أمام اللّهب المتصاعد خلف أضلاعه المخضّبة بالألم. 

 يا الله! هنا مشينا، وعبثت أقدامنا بحجارة الطّرقات وانحناءاتها، وسط ازدحامات أسواقها وخاناتها السّاكنة في زوايا القلب بلا منازع.

صغارًا كنّا، حين ضجّت الطّيور في سماء مدينتنا وهربت، يوم تناوب الأولاد في اصطيادها دون رحمة أو اكتراث، بكت الأعشاش في الزّوايا العتيقة فحملتها الأسوار العالية، علونا معها نحو الفضاء رصدت دقّات قلوبنا، وخبأتها خلف شعاع شمسها المغطّى بسحب الأمل...

أين غابت الطفولة؟

هنا كانوا كقنديل فرحٍ أنار ليل حزنها، وذهبوا مع الرّيح ليتعاركوا مع الحياة.

لله درّك مدينتنا، تحتبسين الألم لترسلي شعاع محبّة لعشاقك القابضين على جمر التّرحال والاغتراب. 

على عتبة ذلك البيت جلست سعديّة وأخذت تلفّ سيجارة الهيشي، قدّمتها إلى زوجها عيسى، ابتسمت وراحت تسأله هل ستبقى اليوم في البيت؟

هل ستفتّش عن عمل آخر بعد أن طردك شمعون من المصنع؟

نفث دخان سيجارته للأعلى وتنفّس غضبا أطلقه عليها، احتمت سعديّة داخل صمتها، نزلت من عينيها الدموع ثم نظرت إلى عيسى نظرة إشفاق وقالت له:

أنت زوجي وأعرفك جيّدًا، ما الّذي يغضبك؟

هل أغضبتك كلماتي؟

نظر إليها ثم نهض تاركا ظهره لتساؤلها، خرج من البيت وتوارى في عتمة الحوش فاستقبله زقاق الطّريق المؤدي إلى سوق القطّانين، حطّت رجلاه أمام مخبز أبي هاشم، مدّ رأسه في عتم المخبز فامتعض لما رآه في ظلام الفرن، وقال بصوت عالٍ: 

(اخص اخص) 

تنحنح الفرّان وأطلقت يداه الصّبيّ فانطلقت الخطوات الصّغيرة نحو عيسى، وبقيت نداءات أبي هاشم لعيسى مهمّشة، اجتمعت حول الأصوات بعض الوجوه في أسواق المدينة، وبدأت تتزايد، وأخذت البصقات تتراشق لتصل وجه أبي هاشم الملتحي بالشّعر الأبيض.

هاج القوم وسألوا الصّبي عن اسمه وأهله ظلّ صامتا، لم تنطلق الحروف من فمه، بل أجرى سيلا من الدّموع على خدّيه الشّاحبين، وأطلقت منه الإشارات التي توحي بالضّرب

صرخ أبو هاشم واستغاث بالجيران، وراح لسانه يردّد: خافوا الله يا عالم خافوا الله يا ناس

أجاب عيسى: (اخص عليك شايب وعايب) 

(انت ما تخاف الله ...قل لهم ماذا تفعل بالصبي؟)

احمرّ وجه أبي هاشم واختنق غضبا، وبدأ يبرر ما شوهد قائلًا: في عصر كلّ يوم، أخبز عشرة أرغفة لآخذها معي عند الإياب لبيتي فأطعم أولادي، وفي المدّة الأخيرة، كانت تسرق بعض الأرغفة في غفلة منّي، احترت بما يحصل ولم أجد توضيحًا، أكثرت من البسملة، وتساءلت: أجنيّ يخرج جائعا فيسرقني دون أن أراه؟؟

أواحد من الإنس يستغفلني ويلوذ بأرغفتي؟

فكلّما يحين موعد الذّهاب إلى البيت، أعدّ الأرغفة فأجدها سبعة من عشرة، قرّرت أن أمسك غريمي حتّى ولو كان جنيًّا أزرق.

أنصت الحضور وأخذهم الفضول لمعرفة الحقيقة، وأردف أبو هاشم قائلا: أقسمت بالله إن أمسكت بالسارق لأخلعنّ عنه ملابسه وأخرجه للملأ مضروبا على قفاه، وعندما أمسكت بهذا الصبيّ الملعون وبدأت بتنفيذ قسمي، طلّ عيسى برأسه، وأنا آمر هذا الولد بخلع ملابسه، وكنت أخلع حزامي حتى أبدأ بضربه، فظنّ بي السّوء والعياذ بالله...(إنّ بعض الظّن إثم)

 هل رأيت شيئا غير ما أقول يا عيسى؟

أجاب عيسى وما أدرانا أنّ الّذي تقوله صحيح؟ 

أجاب أبو هاشم: لقد أعلمت أبا حمدان الأمر وما أنوي فعله بالّلص إن وقع بين يدي، ظلّ الولد يرتجف خوفا في يد عيسى، وظلّ الحضور يرقب أبا حمدان حتّى يخرج من حمّام العين ليسألوه إن علم بالأمر.

خرج بعض الرجال من الحمّام محوقلين مردّدين: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله

جهر أحد المنتظرين قائلا: أين أبو حمدان؟

 نريد العودة لأشغالنا... استعجلوه...

أُخرج أبو حمدان من إحدى زوايا الحمّام محمولا، فاقدًا وعيه، والدّم يسيل من رأسه؛ بعدما تزحلقت قدمه على بلاط الحمّام. 

لا مجال لسؤاله، ولا مناص من العقاب، توجّهت العيون مجدّدا إلى أبي هاشم، جاء المختار وبعض تجّار المدينة، وبدأوا بالتّشاور لاختيار مكان يتحقّقون فيه من الأمر، قبل أن تأتي الشّرطة، ويقودوا أبا هشام لمخفر الشّرطة في القشلة، أو يأتيه الشّاويش حسنين ومعه خيزرانته الّتي ترقص بيده، محملقًا بعينيه السوداوين، مبرّمًا شاربيه ليقف عليهما صقر من صقور الحرم هيبةً ووقارًا. 

طلب المختار من الجميع الذّهاب إلى أعمالهم، وطلب من الوجهاء مرافقة أبي هاشم وعيسى والصّبيّ، والتّوجّه إلى الأقصى قبل أن يحين موعد أذان المغرب.

أغلق أبو هاشم الفرن ومشى بجانب المختار حتّى وصل الجميع إلى مسطبة أبي بكر في الأقصى، بدأ التّحقيق وبدأ الصّبيّ بالبكاء، سأله المختار عن بكائه المتواصل، لم يجب الصّبي، عاد وسأله ماذا فعل بك أبو هاشم؟

لم يجب، رفع أبو هشام رأسه المطأطأ وتوجّه للصّبيّ وسأله: عندما أمرتك بخلع ملابسك، هل انتهيت من خلعها؟

هل بدأت بضربك؟

هل آذيتك يا بني؟

لماذا تستغفلني وتسرق قوت أولادي؟

بكى الصّبي، صرخ أبو هاشم وصاح به: سرقتني وضيّعت سمعتي الشّريفة، وتمتم بصوت منخفض:

(يلعن أبو... يا ابن ...) ثم قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) (ما اسمك)؟؟

نظر الصّبي الباكي إلى الرّجال من حوله ونطق بعدما خيّل للجميع أنّ الصّبي أخرس قائلا:

اسمي ماجد، (عشان الله ما تضربوني، ولا تنادوا الشّاويش حسنين ليسجنني)، دعوني أذهب أخاف أن ينام أبي المقعد وأختي الصّغيرة بلا طعام، قبل أن أفلح بسرقة خباز فأسرق الأرغفة وألوذ بالفرار.

اعترف الصّبي بالسّرقة، ونفى أيّ تعدّ من أبي هاشم عليه، وقرّر المختار وبموافقة الأعيان، أن يعمل الصّبي في فرن أبي هاشم، ويقوم بتوزيع الخبز على البيوت المجاورة بدءًا من صباح الغد.

مرّ صّبي من جانب الحضور وصاح بعدما رأى ماجد: 

فتّشت أسواق المدينة أبحث عنك، اسمع: 

(أخذوا أبوك لمشفى الهوس- بيس... أسرع)

فُضّت الجلسة، ذهب بعضهم برفقة الصّبيّ إلى المشفى، وقام الجميع مردّدين:

 (لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم)

رُفع أذان المغرب وتجلّت التّكبيرات في سماء المدينة، لتملأ الدّنيا عدلا ومحبّة.

عاد عيسى إلى الحارة ودخل الحوش المعتم، وقع نظره الضّعيف على سيّدة غريبة تبكي في الزّاوية المقابلة، تنحنح اقترب منها ليسألها عن سبب أنينها الذي يُسمع من بعيد، ارتطم بحجر أوقعه جانب السّيدة ...فتح عينيه على أضواء (اللوكس) تتجه صوبه، وبصقات الجيران ترشقه بلا رحمة، اخذ يصرخ: " خافوا الله يا ناس ... خافوا الله يا عالم"  

وهبت الألسن تستشيط غضبًا وتقذفه شتائم... (يا عيب الشّوم عليك)

(أنت ما تخاف الله)

وجيء بالمختار والوجهاء للتّحقق من الأمر، متداركين ما حدث قبل أن يعلم الشّاويش حسنين، فيفتّت عظامه بالعصى ويلملم نبضه المتساقط على الأدراج من باب العامود حتّى القشلة.