• 30 كانون الثاني 2023
  • مقابلة خاصة

 

 القدس - أخبار البلد - وتستمر قصص "عشاق المدينة"  ويستمر معها العشق المتأصل في قلوب كل من تنفس هواء المدينة المقدسة، وهذه المرة حكايتنا من كتاب " عشاق المدينة " للكاتبة "نزهة الرملاوي" تحكى حكاية النكبة والنكسة والهجرة والتشرد . ويسعدنا في جريدة " أخبار البلد" المقدسية، أن نستمر بنشر هذه القصص الرائعة لاديبة عشقت القدس فاخلصت لها.

 واليكم  الحكاية الجديدة  

 

رحلة في الذّاكرة

ما زال في الذاكرة وميض لا تطفئه يد الزمن، رحلة عمر بدأت وسط مياه نهر الأردن، صور تتجدد وما تغيب، طفلة محمولة على الأكتاف كبقية الأطفال، والنساء بعضهن تمسك بظهور الرجال بقوة وعلى استحياء منهم، وبعضهن الآخر حُملن على ظهور رجالهن، ينقلونهن من الضفة الشرقية للنهر إلى الضفة الغربية، في منطقة الشونة في غور الأردن، بعد أيام من حرب النكسة، في عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين، لقد اتسم ذلك العبور بالمجازفة والخوف إضافة إلى تحدٍّ موصول باللامبالاة والعفوية...لم يكن الأمر هيّنًا، لقد قرر أبي وابن خاله عاشور أن يخرجا من البلدة القديمة في القدس لإعادة عائلاتيهما اللتين غادرتا المدينة قبل الحرب بأيام إلى مدينة الزرقاء، عند جدي موسى رحمه الله، الذي نُفي إلى الشونة بعد اعتقاله؛ لاشتراكه في قتال العدو ومساعدة الثوار الذين كانوا يدافعون عن القرى والمدن، إثر هجمات اليهود وعصابة (الهاجاناه) المستمرة ضد العرب. مكث هناك سنتين اثنتين، عاد إلى القدس ومكث فيها أثناء الحكم الأردني، ثم استقر وعائلته بمدينة الزرقاء بائعًا للخضار بعدما سلبت أملاك العائلة في الرملة ويافا والقدس لاحقًا.

كم كان الأمر صعبا! فكر أبي وابن خاله جديا بالأمر، وراحا يفكران بكيفية الخروج من القدس تسلّلًا، إذ لم تكن الطرقات بين الضفتين قد فتحت بعد الحرب، ولم يكن معهما نقود تكفي لخوض معركة المجازفة. 

مضت الساعات طويلة، والأيام الستة بدت شهورًا في تلك المدّة العصيبة من عمر البلاد. 

جلس أبي يفكر في كيفية إعادتنا إلى القدس، وراح يتذمر وهو يرقب انتهاء أصوات المدافع وأزيز الرصاص. كان كغيره يفتح المذياع بصوت منخفض، فتغمره السعادة حينما تتوالى بيانات القادة ونشرات الأخبار التي أشبعت الأسماك من لحم المعتدي؛ فيستبشر بنصر قريب. 

سمع أقداما تركض في الحارة، حاول فتح النافذة لكنه فضل الوقوف خلف باب الدار لإغاثة الطارق. أغلق الباب بلمح البصر بعد دخول مجنّد عربي فار جاء لتحرير البلاد، لكن خانه رصاص فارغ علا صوته وأُخرس فعله.

وكانت المفاجأة أن المجند هو أصغر أعمامي، رأى نفسه وحيدا بعدما تلاشت فرقته ما بين شهيد وجريح، فدبت رجلاه أرض الحارة التي استقرت بذاكرته، فلطالما حلم بالعودة إليها واللعب في زواياها مع أولاد أخواله، حينما تصطحبه جدّتي لزيارة أهلها القاطنين في حارة السعدية، ولتفقّد بيتها، واحتساء القهوة وكسر السفرة مع جاراتها اللواتي تركتهن يبكينها في باب الحديد، إثر رحيلها مع أولادها بعد الإفراج عن جدي ونفيه إلى الشونة.

بدأت الأطعمة تنفذ من بيوت المدينة، وتمنّى أبي تقديم المساعدة ولكن لا سبيل لذلك، راح يفكر بكيفية الخروج من البيت، وأخذ يحلم بالجلوس في مقهى المدينة وتناول القهوة وتدخين الأرجيلة ولعب الشدة مع أصحابه، ها هو يراهم بخياله يتسامرون ويضحكون، ويفكرون بقوت أولادهم، واستيقظ من حلمه المسلوب.

لم يعد هناك صبر على فراق، قرر أبي أن يخرج من البيت في حارة السعدية، ويتوجه إلى الحوش المجاور للشيخ مكي، حيث يقطن ابن خاله عاشور. 

يا لهذه الجرأة! 

خرج أبي من البيت، وجعل ظهره ملاصقًا لجدران البيوت، كيف لا والعدو هنا وهناك يقتل ويأسر حتى إشعار آخر.

انتهت الحرب في ستة أيام، حرب سريعة جدا، ونتائجها المذهلة ما زالت ماثلة أمام عيوننا، نكبر وتكبر معنا، صبيّة تتحدى شيخوختنا!!

بعد أيام من الإنكسار وتذوق مرارة الهزيمة، رُفعت رايات السواد على هامات العروبة، ودقت طبول الحسرة والذهول حول احتضار النصر في شوارع المدينة، وراحت النساء تنتحب وتولول وتلطم خدودها المصبوغة بالسواد، وتودع رجالها المقتادين إلى خارج الأسوار، حيث انتهى بهم الاقتياد في ساحات الحرم الشّريف، وبعضهم اقتاده العدو حتى وصل به إلى حي راس العامود، كانوا معصوبي الأعين، وبعد التحقيق معهم، عادوا إلى بيوتهم، بعد أن توارت الشمس عن أعين المدينة.

انتهت الحرب، بدأ الناس بالتحرك رغم الصدمة، وبدأ أبي وابن خاله يصعدان درجات باب العامود ويتوجهان إلى المصراره لعلهما يلتقطان رزقًا من هنا وهناك؛ حتى يستطيعان تحقيق ما ينويان فعله.

وقفت سيارة من بعيد، أطلّ خواجا برأسه من نافذتها وأشار للاثنين بالصعود للسيارة، لم يكن هناك وقت للتفكير أو الخوف من الآخر بعد الحرب، وأقرب كلمة كانت على لسان أبي (موته وحدة، بدنا نموت نموت) 

انطلق لسان الخواجا قائلا:(بدنا نعيش سوا سوا خبيبي، كله بدو ياكل). 

صمت الاثنان ومشيا بعد أن توقفت السيارة، أمرهما الخواجا بالنزول إلى مطبخ لمستودع كبير وراحا يقشران صناديق البصل ويقطعان الخضرة وغير ذلك من المهام التي وكلت اليهما، وقد فرح الاثنان بما حصلا عليه آخر النهار، فقد ملأ الخواجا لهما صندوقين بعلب اللحم والجبن، وقوالب الخبز (الفينو) وعلب الحليب، وغير ذلك، وأعطى لكل واحد منهما ثلاث ليرات. حمد أبي الله وتوجه بالصناديق للبيت، وأخذ يوزع الخبز ومعلّبات اللحم والحليب على الجيران لإطعام اطفالهم؛ فقد كانت المحلات التجارية شبه مغلقة بسبب الحرب، لم يجرؤ أحد التجار على فتحها بانتظام، أو إخراج البضائع، أو إحضارها من المدن أو القرى الأخرى.

كل تلك الصور المتأججة في ذاكرتي هي رحلة من عمر مضى، خطفت أصوات الطفولة وكتمتها، ما زلت أذكر يومها تلك الأيادي الكبيرة وهي تسدّ فم الأطفال إذا صرخوا وأجهشوا بالبكاء؛ إثر الجوع والعطش المتوغل في أجسادهم الصغيرة. أمي -رحمها الله- أنهكها التعب من الزحف والاختباء والعطش والمشي، فقد كانت حاملًا بالشهر الثامن، بابنة ثالثة لم يشأ لها القدر بالحياة بعد الولادة. وقد تبيّن لاحقًا أن للحرب والتعب دورًا في موت الطفلة بعد ولادتها بأيام قليلة. 

السكون يخيّم على المكان، وشوشات وحركات بين الخائفين المتوارين بين شجر قصب السكر في ضفتي النهر المملوء بالحسرة والألم. مشى المتألّمون باحثين عن ماء للشرب، فقد فاق العطش حدود الصمت، وبدأت عبرات الأطفال تتعرج على الأيادي التي تكتم الصرخات بشدة، حتى لا يعلم الأعداء مصدرها؛ فتزهق الأرواح كالعادة، بلا رحمة أو استئذان.

بدأ الليل يطل بقمره وسمائه الصافية على الأغوار، فتتلألأ تلك النجمات في مياه النهر حُسنًا وشاعرية متدفقة. إلا أنه لا وقت للحب أو العواطف، أو التقاء بين النظرات المتوهجة شوقًا بعد شهرين من الغياب، الوقت يقتله الخوف، ويبعثره القلق وانتهاز الفرص للهروب.

أصوات تعلو من مكبرات الصوت بلهجة عبرية تتقمص لهجة عربية واضحة الغرابة: (بأمر من جيش الدفاع الاسرائيلي سلم نفسك، المكان مراقب، سلم نفسك، سنطلق النار) لكنّ العزيمة لم تفتُرْ، ولم تغب الدعوات والآيات الآمله بالعودة والوصول. 

ظلت الخطوات ثابتة متحدية كل مجهول قد يواجه طريق العودة، حتى اهتدت إلى خربة أو بيت مهجور، وجد الآملون ضالتهم فيه، جرار ماء متروكًا هناك، بدأوا بتفحصه، شاهدوا بعدما بدأوا بشرب الماء من فوهات الجرار ما لم يكن بالحسبان؛ ديدانًا تسبح في الجرار الباكي على من تركوه وغابوا، بعد أن هُجّروا من بيوتهم مجبرين. لقد فُتحت المعابر للهروب والنزوح، وأغلقت في وجه العائدين بعد أيام قليلة من الحرب والتدمير واحتلال ما تبقى من أمكنة وأحلام لم تعد قائمة إلا في ذاكرة الراحلين والمهجرين. 

واصل المتعَبون المسير أميالًا وأميالًا، وانتهت بهم المسافات في بيوت الأغراب.