• 27 آذار 2023
  • مقابلة خاصة

 

القدس - أخبار البلد - وصلت حكايات عشاق المدينة إلى شهر رمضان المبارك واجوائه في الماضي الجميل، وصولا الى حاضره الحزين ، وهذه المرة فإن حكاية كتاب " عشاق المدينة" للكاتبة المقدسية "نزهة الرملاوي"  تروى هذه الحكاية بأسلوبها الذي نال إعجاب متابعي " أخبار البلد" ، حيث نشكر جميعا الكاتبة على هذه الحكايات وعلى منحها الفرصة لكل من يقرأ " أخبار البلد"  حول العالم  لسبر أغوار كتاب " عشاق المدينة " ، واليكم الحكاية الجديدة : 

تنفّس المساء ولادة القمر

أخذت على عاتقي السّير دوما في شوارع المدينة، فأنا أستأنس بكل زاوية وشارع فيها، وأستظلّ بأفياء ياسمينها الذي يتمدّد على حيطان بيوتها بدلال، وقد تهاوت الشّمس في أحضانها، فأغرقت أهلها سمرة وجاذبية...أو أنتظر هناك تحت أشجار السّرو الذي يعانق السّماء متحدًا شاكرًا على جوانب طرقاتها، خارج الأسوار أو داخل ساحات أقصانا، ذلك الحبيب الذي يتخطّف الفؤاد لوعة واشتياقًا، فنذوب تحنانًا ونزداد إيمانا بعدل الله، فكم من أوقاتنا وعمرنا الصّغير قضيناه تحت ظلال شجره المبتهل لربّ السّماء! وخلف حجارته المبنيّة من عهد أنبياء الله المرسلين! فلا نمتلك إلا التّعبد أمام محرابه المتقن صنعًا المتوهّج نورًا بأمر نور، وتلك الدّرة الذهبيّة المتوهّجة من عصر أمويّ تتوّج أحاسيس قلوبنا بالهيام، تسحر النّاظرين إليها فتفتنهم، وتحمل نبضات القلب في حضرة عشقها الأبدي، فلا نمتلك إلا التباهي أمام عرشها عظمة وإكبارًا.

شموخ أقواسها المبنية من عصر مملوكيّ، كانت ملاذنا في ساعات الصّباح والمساء، نلعب وأترابنا ونركض وأحباءنا، ونختبئ هنا وهناك ونفترش الأرض رياحين أمل وبقاء، نلتقط الحبّ من حشائشه كالحمائم الهادلة والغربان النّاعقة في سمائه، ونلعب فتدوّي ضحكاتنا في فضاء قداسته، وننهل من أسبلته البراءة والخجل، وتتراكض خطواتنا بين التّكايا ومحاريب الصّلاة، كناسك زهد كلّ شيء فأعلن العشق وأمَّ في العشّاق خطيبًا.

 لله درّك مدينتنا، كم تنافس الولاة والسّلاطين والخلفاء رضاك، فكنت فخر زياراتهم وعظيم أعمالهم، أوقفوك حياتهم لتبقي لهم الخلود، وقد نهلوا من شذاك عطر الآخرة، وكم توافدت عليك الأمم من كل صوب وحدب، مؤثرين المبيت على أعتابك، موحّدين مخلصين لك أفرادا وجاليات، وحّدها عزك وبقاؤك وعروبتك على مرّ الزّمن، ولكم آثر العظماء والعلماء البقاء والعطاء في رحاب أقصاك، متشرّفين بقداسته، فقد كان قبلتهم الأولى ومحط ترحالهم الأخير، تاركين رواءهم أحبّاء وأمكنة كانت لهم موطنًا، ثم هاموا بك حبّا، وتوّجوك سلطانة في أفئدتهم الطّيبة، فأصبحت لهم حياة على مرّ الزّمن.

ومآدب الرّحمن، والولائم المقامة على ثراك وفي تكاياك الخالصة لله، تشدّ أزر الفقراء وأبناء السّبيل، فلا يبيتون في أحضانك جوعى، وقد أتوها حاملين أوانيهم الفخاريّة، ليملأها القائمون عليها ما جاد به الكرماء، وراح دراويش الأحياء ينقشون بصماتهم على أفيائك، ويبعثرون الكلام والابتسام تحت قناطرك.

  يا الله...كم تعالت الأصوات حين أنشدت لله العظيم ومصطفاه هيامًا، بل عشقًا أزليًّا يتوافق وروحانية المكان في حضرة مدينتنا الشّريفة..

     وكم صدح المنشدون في ليالي رمضان فرحًا بزائرنا الحبيب، وعلت حناجر المقرئين بآيات الله في المآذن والسّاحات، وتناغمت مع نجوم السّماء مدائحهم فشع الأثير نورا.         

   أضيئت فوانيس الحارات بالبشائر، وابتهجت العقبات والتّكايا بتقديم العطايا والنّذور.

  مشاهد رمضانيّة بقيت في الذّاكرة، اعتلى النّاس أسطح المنازل، وتنفّس المساء انتظارهم في ساحات المدينة خارج الأسوار وداخلها، رصدت عيونهم ولادة القمر في السّماء، فأعلن المفتي بداية شهر رمضان، زغردت المدينة لثبوته، وتبادلت البيوت التّحيّات من خلف الشّبابيك والأبواب، وفي الأزقّة والحارات، وتسابق النّاس إلى المسجد الأقصى لصلاة العشاء وأداء صلاة التّراويح.

   كان من عادة أمّي رحمها الله إرغامنا على النّوم باكرًا في مثل ذلك اليوم، حتى ننهض لتناول السّحور ونؤدي صلاة الفجر، وكيف لنا أن ننام وقد استولت علينا فرحة ثبوت رمضان؟

  نطلب منها سرد الحكايات ونحن متراصّاتٌ في فراشنا، فتسرد لنا في كل ليلة حكاية، الشّاطر حسن، وأمنا الغولة، وليلى الحمراء، وما إن تنتهي قائلة:

(توته توته...خلصت الحدّوته .. حلوة والا مفتوته)؟

نصيح: حلوة

 تنهض أسماعنا على صوت أبي العبد المسحّر، حين يطرق أبواب حاراتنا، مع صوت طبله الذي يزلزل سكون ليلنا ولا نغضب، وصوته الشجيّ الذي يدغدغ أسماعنا فنطرب، يقف خلف العتمة يشعل فانوس المحبّة، ينادي رجالنا، ويحث النّيام على النّهوض قائلا:

يا نايم وحد الدّايم...وحدّوا الله يا عباد الله

قوموا تسحروا قوموا...قوموا يا الّلي ما بتدوموا...

. قوموا على سحوركم...جاي رمضان يزوركم.

  علق أبو العبد فانوسه في آخر الحارة على الزّاوية الملاصقة لبيت المختار أبي عمر، الذي خرج إليه حاملا ما قسم الله من سحور، تناول المسحّر طعامه، ومضى إلى المسجد لأداء الصلاة.

  يبدأ يوم الصيام في حياة الطّفولة، تبدأ وجوهنا بالشّحوب، وتهدأ خيلنا وتخور قوانا في أواسط النّهار، ويأخذ كلّ واحد منّا تفحّص الآخر إذا ما كان صائما، فإذا مال أسفل لسانه إلى الجفاف والبياض (دلالة على العطش والجوع) كان صائمًا، وإن كان أسفل اللّسان أحمر ورطبًا؛ كان مفطرا. الويل لمن تبين أنه مفطر، سيفضح بين الأولاد، جاء دور رجب لفحص لسانه من قبل أيمن زعيم الأولاد في الحارة، وكان دائم العداوة مع رجب، صاح (شوفو لسانه أحمر)، ويبدأ الأولاد بزفّته والتّصفيق مجتمعين حوله.

(يا مفطر رمضان يا قليل دينه....قطّتنا هالسّمره تاكل مصارينه).

  يبدأ رجب بالقسم والدّموع في عينيه تأبى النزول قائلا: (أقسم بالله إنّي صائم...وعرض أمّي صائم)، يرقّ قلب أيمن الطّفل (الزّعيم) على حال رجب وترجّيه أمام الأولاد، ويعيد الفحص مرة أخرى بناء على طلب الآخرين، يصدر فتواه بصيام رجب، فلسانه جاف مائل إلى البياض..

  يلهو الأولاد بلعبة الفنّه، يلحظ رجب تسلّل أيمن إلى بيتهم، والأولاد في اللّعب غارقون، يمشي خلفه ببطء، يمد رأسه من وراء حائط يسند درجات قليلة تتجه نحو الأعلى، فيشاهد أيمن وقد حمل في يمينه (كيلة) ماء ملأها من الزّير الكبير المتّكئ في إحدى الزّوايا هناك، وراح يشرب منها، وعندها صاح رجب لفضحه:

: ((يا شباب أيمن مفطر.. مفطر)، قاطعه أيمن صائحًا 

أستغفر الله أستغفر الله، والله نسيت...

  شقاوة صبية .. وبراءة أطفال، ما تخطّت العقد الأول من العمر، فكم من المرّات مُدّت أيدينا إلى الأطعمة التي كانت محفوظة في (النّمليّة)؟ أو في البرّاد، بعيدًا عن عيون أهلنا، نذوقها ونقنع أنفسنا بالصّيام، وكم من المرّات شربنا، وأقنعنا أنفسنا بالنّسيان، وكلّما خارت قوانا من الجوع، تقوم أمهاتنا بتصبيرنا، ففي عمرنا السّابع سمح لنا أهلنا بالإفطار بعد الظّهيرة (درجة الصّخرة / الحرم)، وفي عمرنا الثّامن نصوم إلى العصر (درجة المئذنة)، حتّى نتعوّد الصّبر من الصّيام، والشعور مع الفقراء.

  حان وقت الإفطار، تبادلت أمّي وجاراتنا صحون الطّعام، فغدا على مائدتنا، أكثر من عشرة أصناف من الأطعمة، الفتّوش والحمص والفلافل والمقلوبة وشوربة العدس، وزيّنت مائدتنا بالسّلطة والمتبّل ومخلّل المكدوس والخيار والفقّوس، تلك المخلّلات التي صنعت بإتقان وخُبّئت بإحكام قبل شهر، لترى النّور في الشهر الفضيل، وغيرها من نعم الله كمشروبات التّمر الهندي، والسّوس، والخرّوب، وعصير اللّيمون، وهناك على مرأى عيوننا، تتواجد صحون الحلوى التي زُينت بجوز الهند، والفستق الحلبيّ، واللّوز، كحلوى (الماورديّة) وقد صُنعت من قمر الدين، و(المهلبيّة)، و(الأرز بالحليب) وحلوى (قيس ويمن)، والأخيرة هي التي أحبّها، طبقتها الأولى من الماورديّة والثانية من المهلبيّة، وضعتها أمّي على حافة شباك بيتنا حتّى تبرد.

 تجمهر الأولاد في الحارة، وعلى أسطح المنازل، بانتظار سماع مدفع الإفطار وأذان المغرب، ضُرب المدفع، اهتزّت المدينة ضاحكة، وصاحت مع أحفادها: هييييييه.

 بدأت المدينة تتزيّن بالفوانيس، وراحت كل حارة تتباهى بين الحارات في شبابها وزينتها، وقد حمل الأطفال فوانيسهم، وجابوا الأحواش يغنّون وينشدون لمواليد الحارة، حتى يحصلوا على بعض النّقود والحلوى، يتقاسمونها حين ينتهون.

 ناداهم أبو العارف بعد انتهائهم من (الحواية) لابن الجيران، حتى ينشدوا لابنه عارف الذي ولد قبل شهور بعد ثلاث بنات، وعلا صوت الأولاد في (حوش الشّاي) منشدين مرددين

عارف لينا.. يوحيا.    وكويّسه...يوحيا

وعريسه... يوحيا.      ضوّ القمر... يوحيا.  ولا بدر... يوحيا

لولا عارف ما جينا.. حلو الكيس وأعطونا.. أعطونا حلوانا...

جايه علينا جايه...بدنا محلايه.. ورغيفين حلبية...ورغيفين شلبيه..

حاي الله يا أولاد الشام ..فيها الخوخ والرّمان...

يخليه لأمه...آمين

يخليه لأبوه ...آمين

يخليه لسته...آمين

يخليه لأهله...آمين...هيييييييه.

ينتهي الأولاد من (الحوّاية)، يُخرج أبو عارف بعض القروش من جيبه ويوزّعها عليهم، يسعدون بها، يركضون ويطرقون أبوابًا أخرى، فتعلو أصواتهم بأسماء جديدة، امتطت جياد الفرح وانطلقت بين الحارات.