• 29 آذار 2023
  • مقابلة خاصة

 

 اسطنبول- أخبار البلد - كتب خليل العسلي : 

 التقيته في حي اوسكودار  الاسطنبولي القديم على مائدة الصديق العزيز ”محمد التميمي“ والذي  كان قد دعانا لتناول وجبة الغداء في ذلك المطعم المفضل لديه بالقرب من البسفور وفعلا كان خيارا موفقا.

وجدت أمامي شابا رغم  غزو البياض لشعره، شاب طويل القامة مليئ بالحيوية والنشاط ، كل  نبرات صوته تظهر عشقه المتاصل لمدينة اسطنبول ( من لا يستطيع أن يعشق هذه المدينة! )  هذا العشق له طابع مختلف عن عشق السياح لجمال المدينة وتاريخها وعراقتها  ، فعشق د نهاد لاسطنبول دفعه ليتغنى بها شعرا ، حتى حديثه عنها كله يكون بنرة  شاعرية، كلها شوق  بالنسبة له كل شي في المدينة رائع وجميل وله ذكرى ، وكما قال لاحقا في حديث مطول ان كل مكان يصل إليه اقدامك في هذه المدينة  يحتوي على حكاية تاريخية ، وكل حجر تستند عليه في أحياء اسطنبول  العتيقة هو رواية ، فالمدينة لها تاريخ طويل منذ آلاف السنين .

 انه هذا العاشق لاسطنبول هو الدكتور“ نهاد دخان ” أستاذ الهندسة الميكانيكية في جامعة ديترويت في ولاية ميتشغن بالولايات المتحدة الأمريكية ، التي وصلها شابا يافعا بعد انتهاء المرحلة الثانوية  مباشرة قادما من  أكثر الأماكن اكتظاظا في العالم والأقل حظا  أنه قطاع غزة ، (وعليكم أن تتخيلوا شعور هذا الشاب لحظة استقراره في تلك المدينة الأمريكية )  وكما قال الدكتور ”نهاد“ هذا التحول لم يكن سهلا فلا تشابه ولا تقارب بين المكانين لا من الناحية الثقافية ولا من الناحية الاقتصادية ولا من الناحية الاجتماعية ولا حتى من الناحية  النفسية، ولهذا لم تكن أوقاته سهلة في التأقلم مع المحيط الجديد .

ان حكايته التي نرويها هي عن حبه لفن الخط وابداعه وتفكيره في تطوير الخط العربي باستخدام  وسائل جديدة  لتقريب الخط للثقافات الاخرى ، لان حكاية الخط ومسيرته فيها هي رواية اخرى شيقة طويلة ممتعة سنرويها في مقابلة أخرى حتى يتعرف القارئ العربي وغير العربي على هذا الفن المبدع .  

 سنترك الدكتور نهاد  دخان يروى حكايته بنفسه بينما نحن صامتون مستمتعون في هذه الحكاية التي تستحق المتابعة  .

البداية 

 تبدأ الحكاية عندما التقيت للمرة الثانية خلال أسبوع من اللقاء التعارفي الأول  وكان المكان هو شقة الاستاذ التميمي حيث جلسنا على شرفة شقته وامامنا انبسطت اسطنبول بكل عظمتها وفخامتها أمامك مباشرة ، بامكانك رؤية جامع ايا صوفيا والسلطان احمد او الجامع الازرق بعده قصر توب كابي حيث كانت تدار الدولة العثمانية مترامية الأطراف من أوروبا إلى آسيا وصولا إلى أفريقيا  وعلى بعد منهما جامع السليمانية  كلها أمامك مباشرة يفصلها عنك مضيق البسفور ذو اللون الأزرق  وقد امتد امام ناظريك بـ لوحة يعجز أعظم الرسامين على اتقانها ونقل ما فيها من جمال واحساس.

وهنا قال الدكتور نهاد دخان في حديثه عن تجربة الخط في الغرب 

"  قبل ان اتي الى اسطنبول كان لدى تساؤلات حول  كيف يمكن أن تؤثر على المتلقي غير العربي ( الاجنبي)  الذي لا يفقه العربية ولا يميز الحروف ولا يعرف شي عن الفن الإسلامي ،  وبطريقة عفوية  خطرت ببالي فكرة الاستفادة  من الناحية الغرافيكية للتأثير على من لا يعرف العربية،  يجب أن تكون  هذه الناحية الغرافيكية التي تعتمد على الأشكال قوية وحادة وواضحة جدا بحيث تعلق بالذاكرة ، ويجب أن يكون فيها  انطباع قوي بغض النظر عن معناها ، هذا الانطباع يمكن أن يتحقق من خلال الشكل وصقله  بطريقة معينة وإخراج إشكال فيها نوع من الطبيعة العضوية لا تحتاج الى شرح ،  وبالتالي يمكن قراءة اللوحة والتمتع بها دون أي تدخل مباشر من الفنان نفسه . 

  وفعلا حصل هذا معي  بطريقة طبيعية عضوية جدا بطريقة غير متكلفة لأن الفن المتكلف فن فاشل يمكن هضمه بسرعة  وألقاه جانبا بسرعة أكبر، ولهذا  توصلت بخبرتي غير المنهجية ( فأنا لم أكن  قد بدأت دراسة الخط  في ذلك الوقت على أصوله وعلى يد الأساتذة الكبار في اسطنبول ) وتوصلت إلى هذه الأشكال، وبعد الانطباع القوي الأولي  يأتي السؤال ما هذا ؟ او ما معنى ذلك ؟ وجدت انه يجب اختيار كلمات عالمية بغض النظر عن ثقافتنا العربية الاسلامية  لتشمل الانسانية جمعاء  وكان هذا خيارا موفقا مثلا  كلمة " الأمل " كل انسان يمكن ان يتفاعل مع كلمة الأمل العربي  والأجنبي على حد سواء ، فنحن نشترك كبشر في معاني كثيرة ايضا مثل كلمة "حرية" "سلام" أو كلمة ”قلم" . 

 هنا يسرح قليلا د نهاد وهو يشاهد مجموعة من نوارس اسطنبول الانيقة ذات اللون الأبيض  وعلى أطراف أجنحتها بعض النقاط السوداء وقد ارتفعت عاليا في سماء المدينة لتغرق في حيزا من الفراغ ذو اللون السماوي بعد أن اقتربت الشمس على الغروب  لترسم لوحة ربانية رائعة للمدينة وقد ارتفعت مأذنها عالية ، صمت للحظات وكأنه استدرك شيئا من حديثه قبل أن يضيف : 

" كان جزءا من اسلوبي وضع فراغ ابيض كبير حول  الكلمة المكتوبة وهذا كان جزء من التصميم"  ويكمل حديثه الانسيابي موضحا فكرته  "  في وقتنا الحاضر  تكمن المشكلة الكبرى عندنا وعند الامريكان والاوروبيين  في أن  الناس أصبحوا مشغولين جدا في حكايات وتفاصيل وارتباطات حياتنا المعقدة والمحشوة حشوا  بهذه الأشياء المملة القاتلة  ، وقتنا يضيع بسرعة حتى أنه ليس لدينا وقت لنتمتع بالأشياء البسيطة مثل هذه الجلسة أمام  البسفور ومشاهدة أنوار اسطنبول وحكايتها.  عقولنا مزدحمة وشوارعنا مزدحمة وبيوتنا مزدحمة ، فكانت هذه ردة فعل على موضوع الازدحام من الناحية الفنية هي نقيض الازدحام ، فكان هذا التصميم بشكله العضوي والقوي والمحاط ببياض كبير ، ردة فعل خاطب الوضع الحاضر المزدحم المرهق بالتفاصيل ، وانا انسان اميل الى  البساطة في كل شيء وإلى الأشياء البسيطة  واعتقد ان الافكار يمكن ان تمر بأقصر الطرق وأقل الكلمات وهذا مفهوم البلاغة عندنا .

 وبعد ان ارتشف رشفة من كأس الشاي التركي اللذيذ الذي أعده مضيفنا المفكر المبدع "محمد التميمي" الذي له دور كبير وأساسي في  إحياء فن الخط الإسلامي العربي .

 ارتشف " نهاد دخان"  قليلا من الشاي وقد بدأت نسمات مضيق البسفور الباردة تتخلل أجسادنا  الباحثة عن دف وجدته في كأس الشاي قال : 

" هذه كانت الفكرة وتنفيذها لاقى  نجاحا ، ومن خلال حديث الناس الاجانب معي وجدت ان عملية الايصال عن طريق الشكل ناجحة وحققت الهدف منها،  كنت سعيدا وهذا  حفزني على صقل الموضوع اكثر ، فانا على سبيل المثال في هذه الفترة التي كنت فيها طالبا الدكتوراه  ولم تكن عندي اية  مسؤولياتي تقريبا  يعنى كنت ادرس فقط ، تأثرت بالهدوء والفراغ يساعد على التأمل كنت عايش  في شقة فيها شبابيك على ثلاث نواحي ، هذا شي نادر ،  حيث كانت قديمه ، فكان عندي هدوء والشبابيك كبيرة واكتشفت موسيقى الجاز وليس كل الجاز وإنما موسيقى "موليس ديفيس"  وكان عبقريا بكل ما في الكلمة من معنى فالموسيقى التي كان يعزفها  كانت مصقولة بشكل رقيق والجمل الموسيقية فيها قصيرة وهذا يدل على أنه من العباقرة ، فأنا ولد  قادم من غزة  من خارج هذه الثقافة  موسيقيا وفنيا وحضاريا ودينيا  وهذا الرجل أنجز أفضل أعماله قبل أن أولد مما يدلك على  أن الأعمال الخالدة التي فيها إنجاز فني حقيقي باقية الى الابد .

وفي نفس الإطار  أذكر  أنني حضرت لقاءا بالقرب من فيلادلفيا كان ضيفه الشاعر الفلسطيني الكبير "محمود درويش"  وايضا المفكر المعروف " إدوارد سعيد"  والفنان "مارسيل خليفة" وذلك احتفاء  بالشاعر محمود درويش ،  المفكر إدوارد سعيد قال كلمة جوهرية  مفادها: إن شعر محمود درويش بسيط ولكن أعظم الأشياء المصقولة جدا تبدو بسيطة، فموضوع البساطة ليس  سهلا .

 بمعنى ان الشاعر "محمود درويش" يستخدم كلمات بسيطة ولكنها قوية وذات مغزى عميق ، فمثلا عندما يخاطب "محمود درويش " قائلا لهم :" الأنبياء جميعهم أهلي  ولكن السماء بعيدة عن أرضها " هذه البساطة تاتي بعد الصقل  وتروي ، او كما قال مقولته المشهورة  والتي باتت شعارا "  على هذه الارض ما يستحق الحياة " .

الانتاج الابداعي  صادق وغير مرتبط بـ الفذلكة والتفلسف والكذب ، وأنا كنت متأثرا بهذا النوع من البساطة  ومن الأشياء المصقولة في الموسيقى وفي الشعر ، فلقد قرأت جلال الدين الرومي بالانجليزية  وكانت الترجمة بالجملة القصيرة والشعر الامريكي يكتب بالجملة القصيرة أيضا .

 هذه المؤثرات كانت موجودة في الفترة  الأسلوب الحديث  وأنا ما زلت مؤمن بهذه الفكرة في مختلف الفنون  وما زلت امارس هذا العمل بنفس الأسلوب  وكأي فن درجات النجاح تتفاوت ، هناك من يقول انه يمكن ان يكتب بنفس القوة ونفس النجاح  وهذا غير صحيح ، فهناك أشياء موفقة أكثر من غيرها ، فانا اعتبر بعض هذه الأعمال كانت موفقة وناجحة وبعضها كان أقل نجاحا وهذا شي طبيعي.

 يتوقف للحظة لالتقاط بعض من انفاسه وليتمتع باخر لحظات غروب الشمس من سماء اسطنبول  قبل أن يكمل : " عند إقامتي في اسطنبول وكنت خلال ادرس في جامعة اسطنبول التقنية ، أعجب رئيس الجامعة بكلمة "قلم" والتي كنت قد كتبتها بأسلوب حديث  و قرر أن يقيم تمثالا على شكل كلمة " قلم" عند البوابة الرئيسية للحرم الجامعي ، مما جعلني فخورا جدا بهذا الإنجاز . 

 وانتهى هذا الجزء من الحوار مع المبدع الدكتور نهاد دخان الذي يصر على أنه لا زال يتعلم الخط رغم السنوات الطويلة التي قضاها في هذا الفن ورغم المعارض  المتنوعة التي أقامها وانجازاته .

وقبل أن نغادر هذا المكان الهادئ في اسطنبول قطع عهدا  ان نستمر بحوار آخر عن فن الخط الإسلامي العربي تاريخه وحكاية الدكتور دخان معه .