- 17 تموز 2024
- مقابلة خاصة
بقلم : د. زيدان عبدالكافي كفافي
البترا جوهرة وقلب المدن الأثرية الأردنية، والمرقومة على لائحة التراث العالمي ، المدينة الوردية، وقفتُ قبل أيام قليلة فيها، مستكشفاً هذا العمل الإنساني الباهر المتميز، الدال على تقدم فكري، ومعماري، وديني، وأضيف هنا إقتصادي. وفي كل مرة أدخل إلى باطنها أكتشف أنني ما زلت لا أعرف كل قصتها. فقلت أن مثلي من الأردنيين كثرٌ، فلماذا لا نعمم المعرفة بها بين غير المتخصصين بدراسة التاريخ والآثار، وبين قاصدي المعرفة من عامة الناس. وإضافة لهذا دفعني لكتابة هذه الخاطرة زيارة عائلية قمت بها للمثلث الذهبي (البترا – وادي رم – العقبة) خلال الفترة بين 9 و 12/ 7/ 2024م. فجاءت المعلومات الواردة في هذه الخاطرة معتمدة على رؤيا مباشرة للمكان وواقعه الحالي.
وعلى الرغم من جمال المكان ، إلاّ أن العاملين في القطاع السياحي العام والخاص قد اشتكوا من تراجع عدد السياح غير الأردنين والعرب في الوقت الحاضر. ويظهر أن غضب غزة على المحتل الغاصب، وهذا ما فعلوه أيام الرومان حين تضامنوا مع أهل غزة ضد تحويل الطريق التجاري البري إلى البحري، قد أخاف الوفود السياحية غير العربية علماً أنها لم تنقطع تماماً.
وقفت وعائلتي أمام المظاهر المعمارية النبطية في البترا، والمظاهر الطبيعية في وادي رم، ووجدت فرقاً في ماهيتها فالأولى من صنع الإنسان أما الثانية فهي من صنع الخالق. ما أن تشرف السيارة من علٍ على وادي موسى حتى تصبح القمم الصخرية الوردية على مرمى النظر، وتسلّم على عيون موسى في الطريق إلى مركز زوار البترا، وما أن تصل إلى مشارف البترا حتى تجد أن السيارة تسير بسرعة أكبر لإنحدار الجبل، فتسلم على أهل وادي موسى، ويبدأ المكان بالضجيج من حركة السيارات والناس حتى تصل إلى مركز الزوار. وبعد أن تنهي اجراءات الدخول ، إن كنت راجلاً، أو راكباً راحلة، أو سيارة صغيرة خصصت لزيارة مثل هذا المكان الأثري . تبدأ خطواتك الأولى داخل المدينة الأثرية بالتلفت حولك يميناً ويساراً، فترى الرواحل على يسارك، وتتابع سيرك حتى تبرز على يمينك منحوتات حجرية كبيرة يسمونها "صخور/بيوت الجن". ويظهر أن السبب في تسميتها بهذا الإسم أن الهواء يعبر من ثقوبٍ في وسطها مصدراً صفيراً مما حدا بالسكان بالاعتقاد أن الجن يسكن داخلها. أما على يسار الداخل يمكن للناظر أن يرى قبراً منحوتاً بالصخر، زينت واجهته بمسلات منحوتة ، تشبه المسلات المصرية القديمة، مما حدا بالناس أن يسمونه "قبر المسلة". وتسير حتى تصل إلى مسارٍ شق في الصخر يبلغ طوله حوالي 1200 متراً، يسميه الناس "السيق"، ويكون على يمينك نفق أسمه "نفق المظلم" بني لتصريف مياه الأمطار خوفاً من الطوفان.
بعد أن وصلنا إلى باب السيق وجدنا شخصين وقد لبسا لباساً نبطياً، يستقبلونك بابتسامة عريضة جميلة، وقد وقفا على آثار بوابة بنيت قديماً للتحكم بالدخول إلى داخل السيق والخارجين منه. بدأت معالم السيق الأثرية تتحدث عن نفسها خاصة قنوات المياه المنحوتة في الصخر، وتنوعها، ومنحوتات رموز الآلهة النبطية. لكن أشد ما لفت انتباهي هو منحوتة لجمل بالحجم الطبيعي يقوده شخصٌ نحتت على يسار الداخل باتجاه الخزنة.
وصلنا إلى المكان الذي تطل فيه الخزنة على الزوار، وكأنها تلقي عليهم التحية، وترحب بقدومهم للبترا. ويجد المشاهد لهذه اللوحة المعمارية نفسه وقد تسمّر في مكانه متأملاً ملامحها ، من أعلاها إلى أسفلها. وقلت في نفسي لا بد إلاّ أن النحات قد قام في البداية برسم اللوحة في فكره قبل تنفيذها على الصخر. ولتنفيذها كان لا بد له من تقسيم واجهة الصخر إلى عدة أقسام، يمثل كل قسم منها لوحة فنية، لكنها تشكل جزءاً من اللوحة الكاملة وهي واجهة الخزنة. كما توجب على النحات أن يبدء نحته من أعلى مكان في الصخر حتى يصل إلى أسفله. بحثت عن لوحة توضيحية تشرح ماهية الخزنة وتاريخها ووظيفتها، لكن يبدو أنني أضعت مكانها…
هذا إن كانت موجودة. إذ ذكر لنا أستاذنا ذات يوم أن مبنى الخزنة استخدم مقابر في بداية استخدامه زمن الأنباط (القرن الأول-الثاني الميلادي)؟. ربما كان هذا الوصف صحيحاً عام 1970م، لكن وبعد الاكتشافات الحديثة أسفل البناء هل بقي الجواب هو نفسه؟ الله أعلم.
بعد أن طلبت من فادي سائق السيارة أن نترجل منها، لنذهب لرؤية واجهة الخزنة المنحوتة عن قرب، تذكرت أنني وقفت في نفس المكان عام 1970م وذلك عند زيارتي لها ضمن رحلة طلابية لطلاب قسم الآثار في الجامعة الأردنية في ذلك الوقت. وصلت إلى المبنى فوجدت أن الدخول إلى داخله غير ممكن، على عكس ما كان قبل أكثر من خمسين عاماً. لكني عرفت السبب وذلك عندما رأيت ما استجد من أمر وهو اكتشاف مباني (مقابر حسب رأي المنقب الدكتور سليمان الفرجات "أبو عمر") نحتت في الصخر أسفل مبنى الخزنة. تأملت واجهة الخزنة والمبنى أسفلها، وقلت : "يا ترى هل بني المبنى من طابقين متصلين؟".
لا بد أن النحات أو مجموعة النحاتين الذي نحت الواجهة تميزوا إضافة للمقدرة الفنية بصفات أخرى، أهمها الثقافة العالية. فالواجهة عبارة عن قطعة فنية تدل بعض عناصرها المحفورة على الصخر على أن أصولها يونانية.
أكملنا سيرنا مروراً بعدد من المظاهر العمائرية المنحوتة بالصخر ، مثل، المدرج، والمحكمة، ومررنا بالشارع المعمد ورأينا "المعبد الكبير" على يسارنا، و "معبد الأسود المجنحة" والكنائس على يميننا. تذكرت حينها الآثاريون الذين قاموا على كشفها ودراستها وتقديمها للعالم. وما حوته هذه الأوابد من قطع أثرية ووثائق منقوشة أو مخطوطة تفيد بماهيتها وتاريخها، ومن أهمها البرديات التي تم نشرها في خمسة مجلدات، بعد قراءة محتواها الذي كشف لنا الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والقانونية لمجتمع عربي مسيحي متقدم حضارياً عاش في البترا في القرن السادس الميلادي. كانت البنايات في البترا تتحدث عن نفسها، من حيث جمالها، وتقنية حفرها في الصخر، وربما وظيفتها.
وقفت في وسط البترا، بعد أن أخذت نفساً عميقاً، وتذكرت العدد الكبير من الحفريات الأثرية التي أجريت في البترا، والعدد الكبير من المقالات والأبحاث والكتب والمقابلات الصحفية والتلفزيونية التي أجريت حول البترا. لكني وجدت أنني وجمع من الناس لا زلنا لا نعرف الكثير حول الوضع الاجتماعي الذي ساد في البترا عبر العصور ، وأرده لسببين هما:
- لا يدرس كثير من المتخصصين مدينة البترا من خلال محيطها الأثري، وكأنها منعزلة عنه.
- التركيز على دراسة المظاهر االمعمارية الأثرية ولا يوجد الكثير من المعلومات المنشورة حول طبيعة سكانها، أقصد ضرورة ربط الأثر المعماري بقصة تاريخية. علماً أن بعضاً من الآثاريين الأردنيين من أمثال فوزي زيادين، وزياد السلامين، و زيدون المحيسن، وفوزي أبو دنه، وخيرية عمرو، ولمياء الخوري قد عالجوا هذه القضايا في كتبهم، خاصة زياد السلامي
- يختصر معظم الناس، خاصة من غير المتخصصين، تاريخ البترا بالفترة النبطية، وهي فترة قصيرة من عمرها. علماً أنه أسعدني جداً رؤية القصة التاريخية للبترا كاملة وقد انعكست بمعروضات متحف البترا ، الذي افتتح قبل سنوات قليلة.
وحيث أن الأمر هكذا، قررت أن أقدم لزملائي من غير الآثاريين، وغير المتخصصين، مختصراً للقصة التاريخية للبترا، علهم يعرفون تاريخ الناس الذين شادوا هذه الأوابد المعمارية المنحوتة في الصخر، وتركوا لنا إرثاً حضارياً أردنياً لا يبارى. أعلم أنني لست متخصصاً بالدراسات النبطية، وأن هناك زملاء غيري أكثر مقدرة مني على تقديمها، لكن لي رأي وددت أن أقدمه لقارئ هذه الخاطرة، وهو أن تاريخ البترا عاصمة الأنباط، وأهلها النبط/الأنباط قد تكوّن فوق الأرض العربية الممتدة من دمشق شمالاً إلى العُلا في الحجاز جنوباً وعاصمته البترا "الرقيم، رقمو". حضارة عربية امتدت في قلب المشرق العربي.، بلغ أهلها شأواً متقدماً من المدنية، والفكر، والعلم ، والاقتصاد.
السكان والمكان في البترا وما تبعها:
مدينة البترا هي جزء من كل، وإن كانت عاصمة الأنباط العرب في يوم من الأيام، إلاّ أن أهلها حكموا على منطقة واسعة امتدت من دمشق في الشمال إلى العلا في الحجاز في الجنوب. وهذه منطقة جغرافية متصلة لم يفصلها عن بعضها سوى التاريخ الحديث. وحتى نكتب تاريخها لا بد لنا من الاعتماد على مصادر أصلية، هي: الآثار، والكتابات ، وتقارير الرحالة والمستكشفين، ونستبعد الكتب الدينية لأنها تسرد قصة تتوائم وأهواء أصحابها.
قبل أن تسمى البترا بهذا الاسم في المصادر الكلاسيكية (اليونانية/الرومانية) ، ورد اسمها في المصادر التاريخية المكتوبة والنقوش النبطية على شكل "الرقيم/رقمو". ويرى بعض الباحثين ، خاصة اللاهوتيين، أن اسم "سلع" الوارد ذكره في نصوص كتاب العهد القديم هو مطابق لاسم "البترا" النبطي، علماً أنه لم يرد على الإطلاق في الكتابات والنقوش النبطية (السلامين 2018: 15- 18).
تبدأ سردية البترا بأول الخطوات الإنسانية على أرضها، أي تواجد الناس عليها منذ العصور الحجرية القديمة، قبل ما يقارب المليون عام ، وذلك عندما عاش الناس متجولين غير مستقرين ويعتمدون الصيد والجمع وسيلة عيش لهم. إذ عثر على بلطات وادوات حجرية أخرى في "الفجيج" بمنطقة الشوبك، وبعض الأودية والمنحدرات في المناطق الواقعة حول مدينة البترا تؤرخ لحوالي مليون سنة من الحاضر. كما عثر على أدوات حجرية تعود بتاريخها بين حوالي 200.000 وحتى 40.000 ألف سنة في بعض المناطق داخل مدينة البترا نفسها، مثل منطقة جبل هارون، وجبل البره، وفي شمالي البترا. وإضافة لمواقع سيق العلدا في بيضا بشمالي البترا ، عثر في منطقة صبرا بجنوبيها على مواقع فيها أدوات صوانية مؤرخة للفترة بين حوالي 40.000 – 20.000 ألف سنة من الحاضر. كما وعثر على مخيمات وكهوف وملاجيء الصخرية تعود بتاريخها بين حوالي 20.000 – 10.500 سنة من الحاضر في عدة مواقع داخل البترا وفي محيطها، مثل مواقع "المدمغ" و"صبرا" و "وادي المطاحة" . تبين من خلال نتائج الحفريات الأثرية التي تمت فيها أن سكانها دفنوا موتاهم، واصطادوا الغزلان والماعز والأرانب وطيور الحجل، وجمعوا ثمار بعض الأشجار، والنباتات.
ويعد بناء القرى والاستقرار فيها طيلة أيام السنة قبل أكثر من عشرة آلاف عام، كما هو الحال في وادي فينان /وادي عربة، وفي موقع صبرا 1، تلتها قرى للمزارعين والفلاحين ، مثل، البيضا، واشكارة مسيعد، والبسيط ، وبعجه، والبسطة. وهذا بحد ذاته يعدُّ شاهداً على تطور المجتمعات البشرية التي سكنت البترا وما حولها وتقدمها الاقتصادي والفكري والاجتماعي خلال ما يسمى بالعصر الحجري الحديث (حوالي 8500 – 4500 قبل الميلاد). فأخذ ينتج ما يحتاج من غذاء بعد أن علرف ومارس الزراعة ودجن الحيوانات. ومما يثبت تقدمه الصناعي وازدهار مجتمع البترا وما حولها هي صناعة الحلي والمجوهرات المصنّعة من مواد طبيعية وحيوانية وحجرية وغيرها في عدد من المواقع مثل البسطة والبعجة. وأفضل مثال على هذه الأعمال الفنية العقد الذي عثر عليه في موقع "بعجة" لطفلة يبلغ عمرها ثماني سنوات، أطلق عليها اسم "جميلة". ولمن يريد من القرّاء الاستفاضة بالمعرفة حول فترات العصور الحجرية في البترا وما حولها، عليه العودة لبحث نشرته سابقا.
للأسف ما زالت معلوماتنا حول البترا وما حولها الفترة بين حوالي 4500 – 1200 قبل الميلاد، ولم تزد المخلفات الأثرية المؤرخة للفترة بين حوالي 4500 – 3500 قبل الميلاد عن العثور على النصب الحجرية (الدولمنز )، وبعض الأدوات الحجرية. أما فيما يخص الفترة بين حوالي 3500 – 1200 قبل الميلاد فقد عثر على أماكن استقرار بسيطة لمجتمعات بشرية قليلة العدد، كما هو الحال في مواقع "السادة" الذي يبعد حوالي 14 كيلومتراً جنوبي البترا، وفي منطقة "أم سيسبانه" شمالي الدير، ومنطقة الخبثة، وجبل فدرة ، ومنطقة الفرن في منطقة البيضا في شمالي البترا. وبظني أن هذا التراجع السكاني في البترا والمناطق القريبة منها هو انتقال الناس لمنطقة وادي فينان ووادي عربة للعمل في تعدين النحاس، حيث عثر تجمعات سكانية كبيرة هناك خاصة في مواقع متعددة على ضفاف الأودية ومن أهمها "باب الذراع" و "النميرة".
وللأسف فإن البقايا الأثرية المؤرخة للعصرين البرونزيين المتوسط (حوالي 2000- 1550 قبل والميلاد)، والمتأخر (حوالي 1550-1200 قبل الميلاد) من البترا ومحيطها جاءت قليلة جداً، بل نادرة، حتى الآن. علماً أننا نود الإشارة إلى أنه تم العثور على جعلان مصرية في منطقة عيون موسى في وادي موسى تؤرخ لحوالي 1200 قبل الميلاد، وفي هذا للعلاقة التي كانت قائمة مع مصر خلال تلك الفترة. لكننا نستردف بالقول أن أثبتت المصادر التاريخية، وخاصة الفرعونية، أشارت إلى أن منطقة جنوبي الأردن ومنطقة النقب بفلسطين، وسيناء، وشمال غربي الجزيرة العربية كانت مسكونة بقبائل بدوية متحركة في هذه المناطق، أطلق عليهم اسم "شاسو" في الوثائق المصرية القديمة. ومما يثبت هذا القول على طبيعة هذه المجتمعات، هي الرسالة التي أرسلها ضابط الحدود المصري للملك المصري مرنبتاح (حوالي 1224 – 1214 قبل الميلاد) ويقول فيها: "إننا سمحنا للقبائل البدوية الأدومية لتعبر قلعة مرنبتاح حوتب-حير... للحفاظ على حياتهم وحياة مواشيهم".
تنبع أهمية هذه الرسالة هي أنها تدل ، بل تثبت، تواجد الأدوميين في المنطقة منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد. لكن هذا لا يعني أن جميع هذه المناطق المذكورة أعلاه كانت تحت سيطرة الأدوميين، لكن كانت هناك قبائل بدوية أخرى منتشرة في المناطق المذكورة أعلاه. وبظننا، أن اليد العليا على القبائل الأخرى فيها كانت للأدوميين. وربما يكون ذلك نتاجاً عن أنهم كانوا الأقوى والأكثر عدداً. ونقترح أن هذه القبائل والعشائر توحدت في فترة لاحقة ربما كان ذلك خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد تحت راية الأدوميين ، وحسب رأي الباحث الانجليزي بيوتر بينكوفسكي (Piotr Bienkowski) أن ذلك كان في القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد.
إعتماداً على ما ذكر أعلاه، فإن قبيلة أدوم كانت موجودة خلال نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد مع غيرها من القبائل البدوية الأخرى في المنطقة، لكنها لم تشكل دولة لها حدود معترف بها (بين وادي الحسا شمالاً وخليج العقبة جنوباً) إلاّ خلال القرن الثامن/السابع قبل الميلاد. وورد ذكر "أدوم" لأول مرة في سجلات الملك الآشوري "أدد-نيراري الثالث" (810- 796 قبل الميلاد)، حيث ذكر أنه أخضع أدوم وأتبعها لملكه. كما ورد ذكر الملك الأدومي "قوس ملكو" من بين الملوك الذين دفعوا الجزية للملك الآشوري "تيغلات-بلاسر الثالث"، وكذلك فعل الملك الأدومي "قوس جابر". على أي حال، من يريد زيادة معرفته لهذا النقاش عليه قراءة ما نشره بينكوفسكي في البحث الموسوم ب:
Bienkowski, Piotr 1992; Early Edom and Moab. Pp. 1-12 in Piotr Bienkowski (ed.), The Beginning of the Iron Age in Southern Jordan: A Framework. Sheffield Archaeological Monographs 7. Sheffield: J.R. Collins Publications.
إضافة للعاصمة الأدومية بصيرة ، تم العثور في البترا وما حولها عدد من المواقع التي تنسب لهذه المملكة، ومنها: أم البيارة، وبعجة، وجبل القصور، وأم العلا ، وأم خربة المعلق وأُسست جميعها فوق قمم الجبال حتى يسهل الدفاع عنها. واعتمد سكان هذه المواقع في تأمين معيشتهم على الزراعة وتربية الحيوانات.
خلال القرن الرابع قبل الميلاد وبعد انتصار الاسكندر المكدوني على الفرس، سقط المشرق بيد أهل مكدونيا واليونان، لكن بعد موت قائدهم هذا ، اقتسم قادته "سلوقس" و "بطليموس" امبراطوريته بينهما. علماً أن الوفاق بينهما لم يدم طويلاً حتى سيطر البطالمة حكام مصر على أملاك السلوقيين في المشرق . برأينا أن هذا التنازع بين القادة اليونانيون، حكام بلاد الشام، أتاح الفرصة لمجموعة من القبائل العربية المتواجدة في بادية الشام وشمالي الجزيرة، مثل التدمريين والأنباط، بالانقضاض على الممالك المتهالكة والضعيفة التي أخذت منها السيطرة الفارسية (حوالي 539 – 332 قبل الميلاد) كل مأخذ ، مثل المملكة الأدومية التي انقضت عليها قبيلة "نبط/الأنباط". وكما نعلم أنه وبعد تأسيس المملكة النبطية اشتغل أهلها بتجارة البخور واللبان القادمة من جنوبي الجزيرة العربية، والتوابل القادمة من الهند، فجمعوا ثروة طائلة مكنتهم من تأسيس دولة قوية في القرن الرابع قبل الميلاد. أي أن الأنباط هم أبناء عمومة الأدوميين ، وتواجدوا بالمنطقة في الوقت ذاته الذي ساد فيه الأدوميين، لكنهم كانوا خاضعين لهم. إذن حلّ الأنباط محل الأدوميين، وهكذا فإن الأنباط ،في رأيي الشخصي، يمثلون استمراراً للأدوميين ، وهذا أيضاً رأي سبقني إليه علماء آخرين، أي أنهم لم يأتوا مهاجرين لهذه الأرض، بل هم متجذرون فيها. فالأنباط برأينا تبعوا الأدوميين الذين سبقهم الشاسو في المنطقة، وهذه كلها أسماء قبائل بدوية أعطت أسمائها ،في فترة قوتها وسيطرتها على بقية القبائل البدوية الأخرى في المنطقة ، للمنطقة التي سيطرت عليها.
تناول كثير من الباحثين أصل الأنباط، وهذا أمر لن نخوض فيه بالتفصيل، علماً أن أحمد فخرى ذكر بأنهم عاشوا في شرقي الأردن بعد أن قدموا في الأصل من اليمن، وتطورت حضارتهم في المنطقة نفسها، ثم ازدهرت. ولمن يرغب بالمزيد من المعلومات حول هذا الرأي عليه مراجعة بحثه أدناه:
فخري، أحمد 1972؛ اتجاهات حديثة في دراسة تاريخ الأنباط. حولية دائرة الآثار العامة الأردنية 17: 5- 23.
ورد ذكر الأنباط لأول مرة في المصادر التاريخية الكلاسيكية عام 312 قبل الميلاد في كتابات المؤرخ اليوناني "ديودورس الصقلي" في وصفه لمحاولة القائد"أنتيغونس"أحد القادة المكدونيين لإخضاع الأنباط. على أي حال، مازال الباحثون لم يتفقوا على رأي واحد في أصل الأنباط، علماً أنهم لم يختلفوا على أنهم قبيلة عربية محلية سكنت جنوبي الأردن وشمال غربي الجزيرة العربية وأن عاصمتهم كانت "الرقيم/رقمو/ البترا".
على أي حال، الاقتصاد هو الذي يصنع الدول، يظهر أنه مع اشتغال الأنباط بالتجارة والزراعة زاد غناهم، وينعكس هذا إيجابياً على التطور الاجتماعي والثقافي والفكري لأفراد المجتمع. هذا الغنى ساعد الأنباط كثيراً على السيطرة على القبائل المستوطنة في المناطق المجاورة فتوسعت حدود مملكتهم فزادت قوتهم العسكرية. هذا كله، إضافة للتواصل الحضاري مع الممالك المجاورة أدى إلى تطور الحكم من عشائري يحكمه شيخ القبيلة، إلى ملكي يحكمه ملك. وبناء عليه ورد في المصادر التاريخية أسماء لملوك أنباط ابتداء من عام 168 قبل الميلاد ، وذلك بناء على قائمة ملوك الأنباط التي نشرها العالم الفرنسي جون ستاركي وتبدأ باسم الملك "الحارث الأول" وتنتهي باسم "رب – آيل الثاني" الذي حكم بين عامي 70/71 – 106 ميلادية.
للأسف فإننا نقرأ تاريخ مملكة الأنباط من خلال ما كتبه المؤرخون الكلاسيكيون من أمثال اليهودي "فلافيوس جوسيفوس"، الذي ركز في كتابيه "آثار اليهود" "حرب اليهود" على علاقات اليهود في " مملكة اليهودية" في فلسطين مع الممالك المحيطة بها. ومما ذكره بهذا الخصوص هزيمة الملك الحشموني "الإسكندر جنايوس" على يد الملك النبطي عبادة الأول في عام 93 قبل الميلاد، وهذا يعني أنه لم يكن لليهود أي موطئ قدم في مملكة الأنباط. مما يلفت النظر أن المتخصصين في دراسة النقوش والكتابة النبطية ، وتعدُّ بالعشرات أو المئات، سواء من الأردنيين أو من الغربيين لم يقدم لنا قصة تاريخية ترتكز عمّا ورد في هذه النقوش، بل ركزوا دراساتهم على أسماء الأعلام والآلهة والأماكن. وأذكر هنا فقط ما كتبه صبري العبادي عما ورد في نقش يذكر عودة الوزير النبطي "سلي"من روما . ويرى العبادي أن "سلي" هذا كان قائد معروفاً ووزيراً زمن الملك النبطي عبادة الثالث ( 39- 9 قبل الميلاد)، بل وكان ينوب عن الملك نفسه في كثير من المناسبات. ويروي العبادي أن "سلي" كان على صراع مع الملك "هيرود" الحشموني اليهودي بسبب رفضه زواجه من أخته إلاّ بعد اعتناقه الديانه اليهودية، فرفض هذا طلبه ، وقال قولته المشهورة "لو فعلت ذلك لرجمني بني قومي". ومن يريد معرفة المزيد حول هذا الأمر عليه العودة لما نشره العبادي في بحثه :
العبادي، صبري 1997؛ نقش صفوي جديد يؤرخ إلى الربع الأخير من القرن الأول قبل الميلاد. أبحاث اليرموك ، سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعية 13/ 3: 141-151.
كما ذكرنا أعلاه، كان للتجارة، ومرور البضائع القادمة من جنوبي الجزيرة العربية والهند ، مثل، التوابل والبخور ، وفرض الأنباط الضرائب عليها ازدياد ثراء الأنباط مما دفع القيصر الروماني "أغسطس" إلى إرسال حملة في عام 24 قبل الميلاد رافقها "سلي/ سيلايوس" كدليل ومعه ألف جندي نبطي للبحث عن مصادر البخور واللبان في الجزيرة العربية، لكن هذه الحملة فشلت بسبب تضليل "سلي" لقادتها، إذ أخذهم إلى مناطق وعرة أدت إلى هلاك عددٍ من أفراد الحملة. كما وتضيف المصادر التاريخية الكلاسيكية (Strabo: 353f) أن "سلي" حاول التجسس على القبائل والمدن والتعرف على أماكن ضعفها للانقضاض عليها فيما بعد، وبهذا تتم له السيطرة على مساحات جغرافية أوسع من حدود مملكته.
كذلك شهدت البترا خلال نهاية القرن الأول قبل الميلاد وبداية القرن الأول الميلادي (أي زمن الملك الحارث الرابع"حوالي 9 قبل الميلاد – 40 ميلادية") إزدهاراً عمرانياً، إذ بني الشارع المعمد، ومعبدي قصر البنت والأسود المجنحة، والمدرج الكبير، وغيرها من المباني. وبطبيعة الحال ، انعكس هذا على الوضع الاجتماعي وعلى السلوكات الإنسانية في المجتمع النبطي. فإضافة للسكنى في الكهوف المحفورة في الصخر، أخذ الناس يبنون لهم مساكن من الحجارة، زين بعضها بزخارف جصية أو رسومات فريسكو. وهذا برأيي دليل على التأثر بالعمارة والحضارة الرومانية.
هذا الألق النبطي ، واتساع رقعة مملكتها من دمشق في الشمال وحتى العلا في الحجاز في الجنوب، وووادي السرحان في الشرق وحتى سيناء في الغرب لم يلق ارتياحاً لدى الرومان. كما أن سيطرتها على الطرق التجارية البرية ، وعلى ميناء غزة الميناء الرئيسي لتصدير البضائع إلى أوروبا ، دفع الرومان على مهاجمتها وإتباعها لحكمهم واعطائها اسم ولاية، عرفت باسم "الولاية العربية Provincia Arabia" وعاصمتها "بصرى" في حوران. وما أشبه اليوم بالبارحة.
قام الرومان بعد احتلالهم المملكة النبطية على يد تراجان في عام 106 ميلادية بإرسال قوات عسكرية رومانية إلى الولاية العربية قدمت من مصر وغيرها من الولايات الرومانية وألحق بها بقايا الجيش النبطي. ولتثبيت الرومان لحكمهم في البلاد قام الرومان بإنشاء وحدات عسكرية تدعم وجود حامياتهم على أطراف البادية. وعلى الرغم من احتلال مدينة البترا من قبل الرومان إلاّ أن الآثار المكتشفة في المدينة تدل على استمرارية إزدهارها، مما أدى إلى أن تحظى بتسمية "بوليس ومتروبوليس" ابتداء من القرن الثاني الميلادي، وهي مرتبة مدينة رومانية. وبعد أن زارها الامبراطور هدريان عام 129ميلادية منحها لقب"هدريانا" وضربت عملات تخليداً لهذه الزيارة. كما منحت في القرن الثالث لقب مستعمرة "كولونيا / Colonia" تكريماً لها. كما سمح لها بسك نقود خاصة بها.
ويظهر أن مدينة البترا بقيت تلعب دوراً اقتصادياً وإدارياً هاماً خلال الفترة الرومانية على الرغم من أنها فقدت دورها السياسي وأصبحت تابعة للرومان. كما أن العصرين الروماني والبيزنطي شهدا ظهور العديد من الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين من أهل المدينة. لكنها شهدت مع نهاية القرن الثالث الميلادي تغلغل الديانة المسيحية وانتشارها بين الناس، إلى أن تم الاعتراف بهذه الديانة من قبل الامبراطور قسطنطين في عام 324ميلادية ديانة رسمية للدولة الرومانية. وبعد أن تم نقل العاصمة من روما إلى بيزنطة في الأناضول، وتغيرت التنظيمات الإدارية للإمبراطورية الرومانية، أصبحت البترا خلال القرن الرابع الميلادي إحدى عواصم ولاية فلسطين الثالثة والتي ضمت جنوبي الأردن وفلسطين وسيناء.
كشفت الأعمال الميدانية الأثرية في عدد من مناطق وادي موسى والبترا عن بقايا أثرية ومنها قطع المسكوكات البرونزية والأواني الفخارية التي تعود للمرحلة الانتقالية بين الفترتين الرومانية والبيزنطية. واعتماداً على المصادر التاريخية الكلاسيكية فقد تعاصرت في البترا الديانتين الوثنية والمسيحية خلال القرن الرابع الميلادي. ويظهر أن أهل البترا قد تحولوا خلال النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد إلى المسيحية، وأصبحت كنيستهم تابعة لكنيسة إنطاكيا وللأسقفية في بصرى بحوران، لكنها ألحقت فيما بعد ببطركية القدس ومنحت لقب أسقفية أو مطرانية. كما شارك عدد من أساقفتها بعدد من المجامع الدينية. ويذكر زياد السلامين أنه تم تحويل بعض المباني النبطية المنحوتة في الصخر إلى كنائس ، مثل، الدير والمحكمة. كذلك تم خلال منتصف القرن الخامس الميلادي بناء ثلاث كنائس، إلاّ أن الكنيسة الرئيسية منها قد دمرت مع نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الميلادي، ربما نتيجة لزلزال، وعثر فيها خلال الحفريات التي أجريت عام 1993ميلادي على لفائف من أوراق البردي متفحمة. وبعد قراءة نصوصها المكتوبة باللغة اليونانية تبين أنها تتحدث عن الزراعة والاقتصاد والضرائب . وتحتوي هذه الوثائق على أسماء مواقع جغرافية، وينابيع ، وأشخاص كتبت أسماء بعضهم باللغة العربية ، ونصوص قانونية ، وملكيات الأراضي، وأسماء المهن. كل هذا يدل على أن مجتمع البترا ومحيطها المسيحي كان مجتمعاً راقياً، ومتقدماً اجتماعياً واقتصادياً وفكرياً وثقافياً.
قامت القوات الاسلامية المندفعة من الجزيرة العربية في عام 629 ميلادية بأولى غاراتها على جنوبي الأردن والتحمت مع القوات البيزنطية بعدة معارك منها مؤتة، قبل نصرها المؤزر في معركة اليرموك في عام 636 ميلادي وانهاء حكم الرومان على بلاد الشام. وبعد انتهاء فترة الخلافة في الحجاز تم في عام 661 ميلادية تأسيس الخلافة الأموية واتخذت من دمشق عاصمة لها. وأثبتت التحريات الأثرية أن الأردن وخلال الفترتين الأموية (661-750 م) والعباسية (750 – 1258 ميلادية) كان عامراً بالناس. ومن المعلوم أن الدعوة العباسية قد انطلقت من بلدة "الحميمة" بالقرب من مدينة معان، باعتبارها قرية صغيرة منعزلة لا تلفت الأنظار إليها، كما أنها تقع على طريق الحج الشامي مما سهل على أصحاب الدعوة التواصل مع أهل الحجاز، والحجاج الذاهبون إلى مكة. كذلك كان حال البترا بعيداً عن مراكز القوى في دمشق والكوفة، وغابت عن الساحة ابتداء من القرن السابع وحتى الحادي عشر الميلادي. وتفيد قلة الموجودات الأثرية من هذه الفترة إلى تراجع في عدد سكانها، وأنهم كانوا عبارة عن مجموعات من الفلاحين والرعاة الذين استقبلوا وودعوا قوافل الجمال الذاهبة من الجزيرة العربية إلى مصر وبلاد الشام، والعودة إليها.
لكن وعلى الرغم من انتشار الدين الإسلامي في شرقي المتوسط إلاّ أن الديانة المسيحية بقيت هي الشائعة بين الناس في البترا، وما حولها، واستمر بناء الكنائس في المدينة والمناطق المحيطة بها حتى الحاضر،. وخير دليل على هذا العثور على سراج مزخرف بالصلبان من الفترة العباسية عثر عليه في خربة النوافلة. كما عثر في منطقة جبل هرون على مجموعة من الكتابات الإسلامية المبكرة، وفي موقع خربة بني عطا على عدد من النقود الفاطمية والكسر الفخارية المزججة.
قام الفرنجة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر بعدد من الحملات العسكرية على جنوبي الأردن، ومنها حملة الملك بلدوين الأول في عام 1100 ميلادي والتي وصل فيها إلى وادي موسى. كما قام هذا الملك بعدها وفي عام 1115/1116م ببناء عدد من الحصون في جنوبي الأردن بغرض حماية مملكته والسيطرة على الطريق التجاري الواصل بين الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام. وتم خلال هذه الفترة بناء قلعتين في البترا هما: الحبيس والوعيرة. وبهذا نستطيع القول أن البترا استعادت أهميتها التجارية خلال هذين القرنين من الزمان.
وقعت البترا تحت الحكم الأيوبي/المملوكي بعد هزيمة الفرنجة في معركة حطين عام 1189 ميلادي وتوحيد مصر وبلاد الشام تحت حكمهم. واستمر الوضع على حاله حتى سقطت المنطقة للعثمانيين في بداية القرن السادس عشر. وبقيت البترا غائبة عن المشهد الحضاري في المنطقة حتى أعاد اكتشافها السويسري جون لويس بيركهاردت (John Lewis Burckhardt) في عام 1812ميلادية.
قررت أن لا أغادر البترا إلاّ بعد زيارة متحف الآثار فيها والذي افتتح قبل سنوات قلية، واصطحبني بالزيارة مديره السيد ابراهيم النوافله. وبعد أن ولجت إلى داخله هالني حسن تنظيمه، وروايته لسردية المدينة بشكل منظم، لكني تمنيت أن يكون من بين معروضاته ولو لوحة بسيطة حول برديات كنيسة البترا. يستطيع الزائر للمتحف أن يتثبت بأن البترا وما حولها شكلت إرثاً حضارياً واحداً، ومكملاً لبعضها بعضا، وجاء هذا باللوحات والخرائط التوضيحية الموجود أمام العاديات، أو المعلقة على الجدران.
هذه قراءة سريعة لتاريخ مدينة البترا ومحيطها، علّني أساعد بهذا المهتمين وغير المتخصصين على معرفته. أما المباني العمائرية النبطية، سواء في العاصمة البترا، أو غيرها من الحواضر النبطية فهي تتحدث عن نفسها. والقارئ لما كتب أعلاه يستطيع الحكم بأن تاريخ المكان متصل من العصور الحجرية وحتى الحاضر، وأن السكان هم نفسهم منذ أقدم العصور وإن اختلفت معتقداتهم الدينية بين زمان وآخر ، وإن هاجر للمنطقة أناس آخرون، أو احتلتها قوة عسكرية لفترة من الزمان فلا يعني أنهم أصبحوا أصحاب الأرض، بل هم محتلون أو زائرون. تبقى البترا، التي تزين قائمة المواقع المسجلة على لائحة التراث العالمي، هي قمر المدن جميعها.
وادي رم:
شكل وادي رم خلال الحكم النبطي على المنطقة معبراً ومحطة للقوافل التجارية القادمة والذاهبة إلى شبه الجزيرة العربية. ولقد كشفت المسوحات والتنقيبات الأثرية فيه عن بيوت ومعابد وحمامات تعود لهذه الفترة الذهبية من تاريخ الأردن. بناء عليه، قررنا زيارة هذه المحمية الطبيعية والأثرية. لذا قمنا في اليوم التالي من زيارتنا للبترا بالذهاب إلى هناك. يمتاز هذا المكان بالمناظر الطبيعية الخلاّبة. ليس هذا فقط، فقدكان لهذا المكان دورٌ هامٌ في كتابة تاريخ الأردن الحديث، حيث أقام فيه لورنس العرب مع الشيخ عودة أبو تايه/ شيخ الحويطات، ومنه انطلقت جيوش الثورة العربية الكبرى.
وصلنا وادي رم بعد الظهر بقليل، وقادنا غوغل إلى مرآب سيارات، انتظرنا فيه أناس يتبعون للفندق الذي سننزل فيه. طُلِبَ إلينا أن نوقف سيارتنا في كراج أُعدّ خصيصاً لسيارات الزوار، وأن ننتقل بمتاعنا إلى سيارة من ذوات الدفع الرباعي كي تنقلن إلى الفندق الذي نزلنا حجزنا به. بعد أن ركبنا السيارة توجه سائقها وهو من أهالي وادي رم ومن قبيلة "الزوايده" إلى الفندق المقبب الشكل، والذي سنقيم فيه لليلة واحدة/ واسمه “Luxotel”. سارت بنا السيارة على مبعدة حوالي 15 دقيقة من الكراج الذي تركنا فيه سيارتنا حتى وصلنا الفندق المبنى داخل الوادي، ومررنا خلال سيرنا بأكثر من فندق متشابه. توجهنا بعد وصولنا إلى الاستقبال واستلم كل منا مفتاح غرفته، قررنا أن نستريح لبعض الوقت على أن نخرج عند العصر لزيارة بعض المواقع ، ومراقبة غياب الشمس.
طلبنا سيارة دفع رباعي عند العصر للذهاب لزيارة بعض المواقع التاريخية والمناظر الطبيعية الجميلة داخل الوادي. جاء السائق واسمه عامر، وسألته إن كان من قبيلة الزوايدة أو الزلابية من عشائر وادي رم، فقال لي "إحنا ولاد عم". فطلبت إليه الذهاب إلى مواقع "عين أبو نخيلة" المؤرخ للعصر الحجري الحديث ، والمعبد النبطي المبني أسفل جبل رم تقديساً للإلهة النبطية "اللات" أخت الإلهة "العزى"، والمؤرخ لنهاية القرن الأول الميلادي، أي في نفس الفترة التي بني فيها معبد "الأسود المجنحة" في البترا، ربما خلال حكم الملك النبطي الحارث الرابع. لكنّ السائق تمنّع بقوله المسافة بعيدة عن الفندق، وفضل البقاء في منطقة قريبة منه.
وحيث أن الأمر هكذا طلبت من السائق أن يقلنا إلى ثلاثة أمكنة في الوادي، الأول هو جبل "أعمدة الحكمة السبعة"، والثاني مكان فيه رسوم صخرية ونقوش قديمة، وننهي الرحلة بمراقبة غياب الشمس، وهذا ما كان. وصلنا إلى المكان الأول، وكنت قد رأيته في مرات سابقة، لكنها كانت المرة الأولى للعائلة. تكمن أهمية المكان في أن لورنس العرب كتب كتاباً عنونه باسم "أعمدة الحكمة السبعة " أي “Seven Pillars of Wisdom“ ويعترف فيه بنكران الجميل للقائمين على الثورة العربية الكبرى وخداعهم من قبل الانجليز، فهو يفخر بأن الذين استشهدوا في القتال ضد القوات العثمانية كانوا من غير الانجليز.
انطلقنا بعدها لمشاهدة بعضاً من الرسوم الصخرية، وحين وصلنا إلى المكان المعروف باسم "مكان النقوش"، وجدنا مجموعة من الزوار العرب وقطيع من الجمال. وأكثر ما أساء النظر في المكان أن بعضاً من الناس قد خربشوا قد كتبوا فوق أو بجانب بعض النقوش، وبعضها بالخط اللاتيني (أي أنهم ليسوا عرباً).
عادت بنا السيارة بقيادة عامر إلى الفندق، وانضم إلى المجموعة بشار وابنه سند، وقضينا ليلة جميلة نرقب القمر والنجوم. وبعد أن أصبح الصباح تناولنا إفطارنا وتوجهنا إلى العقبة، حيث توجهنا إلى الفندق وقضينا ليلتنا، وفي اليوم التالي ذهب الجميع للسباحة سواي لأنني لا أعرف العوم. وبقينا حتى ظهر يوم الجمعة عدنا بعدها إلى عمان. قضينا رحلة ممتعة وتواعدنا على أن نعيدها.
شكر وتقدير:
أتقدم بالشكر الجزيل لمعالي الدكتور فارس البريزات/ رئيس سلطة إقليم البترا/، والدكتور اسماعيل أبو عامود/ نائب رئيس سلطة إقليم البترا ومفوض المحمية والسياحة، والسيد إبراهيم الفرجات / مدير مركز زوار البترا والمتحف، على حسن استقبالهم وتعاونهم في تسهيل أمور زيارتنا للبترا ووادي رم. والشكر للأستاذ الدكتور فوزي أبو دنه للنص والتعليق عليه.