- 14 كانون الثاني 2025
- مقابلة خاصة
بقلم : الأمير الحسن بن طلال
نستقبل العام الجديد ونحن نرجو أن يكون عام خيرٍ ننعم فيه بالطمأنينة والسلام، خاصة وأننا نعيش فى عالم يزداد قساوة واستقطابا للكراهية في ظل صدامات وحروب وأزمات وكوارث طبيعية أدت لاتساع الهوّة بين الاحتياجات الإنسانية والموارد المتوفرة، الأمر الذي يؤكد الحاجة الملحة للنظر في كيفية الاستجابة المُثلى لهذه الاحتياجات.
يخبرنا القرآن الكريم أن عمل الخير هو السبيل إلى الحياة الطيبة: «مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاة طَيِّبَة»، التي هى مطمح كل إنسان مؤمن. والرجاء يمد الإنسان بالقوة لمواجهة الأزمات، ولا تقتصر أهمية الرجاء على كونه عقيدة دينية، وإنما أيضا ضرورة حياتية تجعلنا نثبت ونصبر.
نشهد اليوم تراجعا واضحا لقيم العدل والرحمة فى مجتمعاتنا المعاصرة فى عالم يسود فيه «حق القوة» بدلا من «قوة الحق»، حيث تمارس بعض الدول القوية الظلم والاحتلال وتستعلى على القانون وتفلت من العقاب، في حين يملى المانحون شروطهم على دول العالم الفقير التي ترزح تحت نير الديون والحاجة.
من الأسئلة الملحة التي تبرز أمامنا اليوم: كيف يمكن الحديث عن التضامن الإنساني فى عالم اختلت فيه القيم و امتهنت كرامة الإنسان، ومجِّد المعتدي وعوقِب المظلوم؟
نحن بحاجة اليوم إلى تغيير أخلاقي وثقافي، وإعادة النظر فى مفاهيم العدالة والحق والحرية والإنسانية جملة وتفصيلا، إذ لم يعد العمل الخيري وحده كافيا لإحداث التغيير المطلوب، فالتضامن الشعوري وحده لا يكفي للتخفيف من مصاب الهشين والمهمشين، بل يجب تمكينهم اجتماعيا وعلميا وصحيا ونفسيا وإقامة المؤسسات الفاعلة التي تنهض بهذا الدور، لتحقيق التكافل والتعاون الإسلامي والإنساني.
يقوم التضامن الإنساني، الذي ننشده، على احترام كرامة الإنسان والتعددية والتنوع بدلا من الاستقطاب والكراهية، لتصبح الكرامة الإنسانية مرشدا للسياسات واحترام هوية الآخر، وتبرز أهمية التكامل والتكافل بين مجتمعاتنا العربية والإسلامية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة التي ستحدث بدورها التغييرات الثقافية والهيكلية اللازمة لتجاوز الأزمات.
علينا التفكر فى القضايا الحيوية العالمية واعتماد المبادئ الإنسانية للوصول إلى نظام إنساني عالمي جديد يحفظ الكرامة الإنسانية ويعزز التضامن والتواصل بين بني البشر لمواجهة التحديات والأخطار التي تهدد البشرية ومستقبلها.
يبدأ التغيير من تبني الكرامة الإنسانية بوصفها قيمة تربوية وإطارا توجيهيا للسياسات، وأداة للعمل المشترك من أجل زيادة الوعي وتعزيز القيم الأساسية التي تشكِّل جوهر إنسانيتنا، كالرحمة والتعاطف والاحترام والتشاركية، وهذا ما يدعونا اليوم إلى المشاركة في كل أشكال التعاون الإنساني الذي ينتصر للمصالح الإنسانية الجامعة، وفي الدعوة إلى الحفاظ على البيئة وإيجاد الحلول لمشكلاتها وتحمل الأفراد والمجتمعات مسئوليتهم تجاهها.
إن تقدم الحضارة البشرية بمعناه الشامل يتطلب بناء أربع علاقات أساسية: علاقة الإنسان مع نفسه، ومع أخيه الإنسان، ومع الطبيعة، ومع الخالق عزَّ وجل؛ وأساس هذه العلاقات الراسخ هو: «الأخلاق والإيمان والعلم والعمل». من الضروري العمل على تثبيت الإنسان في أرضه عبر إعادة المهجرين والمقتلعين، وتعزيز الاستثمار المجتمعي في خدمة الاستقرار، والتحديث الاقتصادي بما يضمن التوزيع العادل للثروات، وهنا أجدد الدعوة التي أطلقتها منذ عقود إلى إنشاء مؤسسة يمكن من خلالها القيام بمشاريع مشتركة، والقيام بأعمال الإغاثة فى حال حدوث الكوارث، ورفد خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما يساعد في جهود القضاء على الفقر وعلى مختلف أشكال الحرمان في العالم أجمع عبر الوصول إلى تحقيق «الخيرية الفعالة» التي لا تستثني أحدا، تعزيزا للأخوة الإنسانية والروح الجماعية وتقوية النسيج الاجتماعي. لقد آن الأوان للحديث عن استقرار شعوب الإقليم وضرورة تبنى رؤية جديدة قائمة على التكامل وتحقيق التناغم بين الإنسان وبيئته، ومراجعة أولوياتنا على جميع المستويات الفردية والمجتمعية وصولا إلى الدولة والأمة، وتعزيز الحرية المسئولة كأداة للتغيير الإيجابى الذي يقرِّب بين الناس ويرفع الوعي وينشر المعرفة لنصل إلى المواطنة الحاضنة للتنوع، وإرساء الحوكمة الرشيدة نهجا لتنمية المجتمعات.
وهنا تبرز أهمية أنسنة الأرقام والأخذ بالأسباب والتخطيط على أساس رؤية واضحة من أجل التخفيف من معاناة الفئات المستضعفة، وتفعيل القانون الدولي الإنساني ليصبح قانونا نافذا للسلم الداخلي والخارجي له آثاره الملموسة في عالمنا. فتفعيل القانون الدولي الإنساني، كفيل بإحلال التّضامن والعدل محل الاستغلال والظلم، كما أنه سيؤدي إلى تخفيض التمويل الضخم للصناعات العسكرية التي تزدهر باشتعال الحروب واستمرارها.
لاتزال مجتمعاتنا المشرقية هدفا لمشاريع التقسيم الخارجية، التي تسعى إلى تفتيتها على أساس عرقى أو طائفى أو ديني، وتحويل تنوعها الخلاق إلى بؤر توتر ونزاع ليسهل التحكّم بها وإلحاقها سياسيا واقتصاديا، وهذا كله يفرض علينا التصدى لهذه المشاريع، من خلال مد المزيد من الجسور بين أعمدة الأمة الأربعة من عرب وفرس وترك وكرد، وإطلاق منصات معرفية لتعزيز التكامل والتفاعل والتواصل والمشاركة الإيجابية، والفهم المشترك، وترسيخ قيم التسامح.
ختاما: إن السلام الذي نطمح إليه يبدأ من إصلاح النفس والبحث عن معاني الخير «الجوانية» التي فطرنا الله عليها، لنبدأ بعدها مسيرة تغيير مفاهيمنا الخاطئة التي تسوغ ضعفنا وتراجعنا وانقسامنا.
صحيفة الاهرام